.. لا يزال لسانك رطبًا بالتسبيح ..
د. محمد بن سعود
الْحَمْدُ للهِ الْمَحْمُودِ بِأَلْسِنَةِ المُؤْمِنِينَ وَقُلُوبِهِمْ، المُسَبَّحِ بِحَمْدِهِ فِي غُدُوِّهِمْ وَآصَالِهِمْ، المُكَبَّرِ فِي كُلِّ عَظِيمٍ مِنْ شُئُونِهِمْ، المَذْكُورِ فِي كُلِّ أَزْمَانِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَصَّهُ المُؤْمِنُونَ بِنُعُوتِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ، وَأَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَأَوْصَافِهِ وَأَفْعَالِهِ أَهْلُ الضَّلَالِ
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ يَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى فِي كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَيُعَظِّمُهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ. أما بعد:-
فيا عباد الله، اتقوا الله ربكم، واحذروا الغفلات والاغترار، واعتَبِروا بتقضي الدهور والأعمار، واتخذوا تقواه -سبحانه- ألْحَبَ سبيلٍ لكم ومنار، تفوزوا بالنعيم المقيم وأزكى القرار، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(
سبحان الله العظيم، وأستغفر الله من ذنبي، إني وإن كنت مستورًا لَخَطَّاء.
اسمعوا هذا الافتتاح: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3)وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى).
ثم اسمعوا لهذا الختم: (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
سبحان الله العظيم، (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
سبحان الله العظيم ... عن أبي هريرة- t- قال: قال رسول اللّه r: «من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان اللّه وبحمده، مائة مرّة، لم يأت أحد يوم القيامة، بأفضلَ ممّا جاء به إلّا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه». رواه مسلم.
سبحان الله العظيم .. كلما استعصت الأفكار ويبست الألسنة وحارت الضمائر واستوحش التسبيح منا. كلمةٌ ظلَمتْها الألسن كثيرًا، وعصت على التذكر، وطوائف إبليس تحفر في الأفئدة خدوج النسيان.
سبحان الله العظيم .. حتى هذه الجملة أصابتها الغربة، ومن يسبح فحقه أن يُلتفت إليه، لا أن يسبَّح اللهُ معه. كان خالد بن معدان –رحمه الله- يسبّح كلّ يوم أربعين ألفَ تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن، فلمّا مات وُضع على سريره ليغسّل فجعل يشير بإصبعه يحرّكها بالتّسبيح)
ضعفاء مفتونون في إسرافنا حتى اعتراف البغي ما قلناه، نسبح اللهَ العظيمَ تعبدًا، سبحانك يا الله.. سبحان الله وبحمده؛ لأننا مفتقرون إلى الله –عز وجل- وإلى رحمته وإلى كَنفه وستره .. نقول: سبحان الله؛ )يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا(
نسبح الله؛ لأنا نعلم أننا لو وردنا على الله بأعمالنا هذه دون استجلاب مغفرة الله لما كان إلا الهلاك والخلود في نقمة الله. هذا نبينا r يقوله له ربه ومولاه (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) فَكَانَ r يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا وَفِي الرُّكُوعِ وَفِي السُّجُودِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ -تَعَالَى- حِينَ أَمَرَهُ بِالتَّسْبِيحِ مَعَ التَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ.
وَتَسْبِيحُ اللَّهِ -تَعَالَى- يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِمَّا أَلْصَقَهُ بِهِ بَعْضُ خَلْقِهِ، وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَقُولُهُ الْإِنْسَانُ فِيمَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ مُنْبَهِرًا بِقُدْرَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَى عَجِيبِ صُنْعِهِ وَخَلْقِهِ، أَوْ حُسْنِ تَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَكَأَنَّ التَّسْبِيحَ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ فِي حَالَةِ انْبِهَارِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: وَقَعَ كَذَا قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ بِأَمْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَقَدَرِهِ، فَاسْتَوْجَبَ تَسْبِيحَهُ؛ إِذْعَانًا لَهُ، وَإِقْرَارًا بِقُدْرَتِهِ، وَتَسْلِيمًا لِقَدَرِهِ.
وَلِأَهَمِّيَّةِ التَّسْبِيحِ فِي حَيَاةِ المُؤْمِنِ، وَعَظَمَتِهِ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- فَإِنَّهُ كُرِّرَ فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوٍ مِنْ تِسْعِينَ مَوْضِعًا، وَافْتُتِحَتْ بِهِ سَبْعُ سُوَرٍ سُمِّيَتْ (المُسَبِّحَاتِ) وَخُتِمَتْ بِهِ سُوَرٌ أَرْبَعُ، وَجَاءَ بِصِيَغٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ فَاسْتُخْدِمَ فِيهِ الْمَاضِي (سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [الحديد:1]. وَالمُضَارِعُ (يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [الجمعة:1] وَالْأَمْرُ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ) [الواقعة:74]، وَالمَصْدَرُ (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون: 91].
سبحان الله العظيم كلمة قالتها الملائكة والرعد )وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ( )تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(
سبحان الله العظيم.. كلمة تقولها كل المخلوقات )أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ(
سُبْحَانَ مَنْ يُعْطي المــُنى بخواطرٍ *** في النَّفْسِ لم يَنْطِقْ بهنَّ لِسَانُ
سُبْحَانَ مَنْ لاشئَ يحجُبُ علمَهُ *** فالسِّرُّ أجمعُ عـندَهُ إعْلانُ
سُبْحَانَ مَنْ هُـوَ لا يَـزَالُ مُـَسبَّحَاً *** أبداً ولـيس لغـيرِه الـسُّبْحَانُ
سُبْحَانَ مَنْ هـو لايزالُ ورِزقُـهُ *** للـعالَمـيـنَ بـه علـيه ضَمَانُ
سُبْحَانَ مَنْ في ذكره طُرُقُ الرضى *** منـهُ وفيـه الرَّوْحُ والـرَّيْحَانُ
كلما رأيت الرجل يعزف عن التسبيح ويكثر نسيانه، فاخشَ عليه من الحرمان، حتى الملائكة وهم أهل السماء يسبحون الله، فلماذا يعرض ابن آدم. )فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ(
أقول قولي هذا، وأسبح الله وأستغفره الله لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم الله
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم الوهاب، خالقِ البشر من تراب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وأناب، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أولي النُّهى والألباب، أما بعد:-
نسبح اللهَ العظيمَ ونحمدُه؛ لأنا نعلم أحوالنا ونعلم أعمالنا، ونعلم إهمالنا، نسبح الله ونستغفره؛ لأن الذنب جزء لا يتجزأ من طبع الإنسان، والاستغفار والتسبيح جزء لا يتجزأ من شريعة الصالحين.
سبحان الله العظيم وبحمده .. محرقةُ الذنوب وممحاة العيوب، عن أبي هريرة- t- أنّ رسول اللّه r قال: «من قال سبحان اللّه وبحمده في يوم مائة مرّة حطّت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» رواه البخاري.
سبحان الله العظيم وبحمده .. أليس منا من قد غش؟! أليس منا من كذب؟! أليس منا من اغتاب؟! أليس منا من ترك الجماعة يومًا؟! أليس منا من انتهك محارم الله في خلواته؟! أليس منا من عصى والديه يومًا؟! أليس منا مَن فرَّط في جنب الله؟! أليس منا من قد زنى؟! أليس منا من ظلم؟! أليس منا من زوَّر الحقيقة لاغتصاب حق؟! أليس منا من نام عن صلاة الفجر؟! أليس منا من أخلف وعدًا؟! أليس منا من أضاع الأمانة وارتضى الخيانة؟! أليس منا من قطع الأرحام وبارز اللهَ والناسُ نيام، وارتكب الحرام والآثام والإجرام؟!
إذاً فلنستغفر الله على كل حال، ولنسبح بحمده
ونحن السابحون ببحرٍ من جرائمنا *** والغارقون بشطّ الذنب أزمانا
عن عائشة- رضي اللّه عنها- قالت:كان رسول اللّه rيكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللّهمّ ربّنا وبحمدك. اللّهمّ اغفر لي» رواه مسلم.
قال العلامة ابن رجب رحمه الله: كان عامّة كلامِ ابنِ سيرين: سبحان اللّه العظيم، سبحان اللّه وبحمده) وقيل لعمير بنِ هانىء: ما نرى لسانك يفتر، فكم تسبّح كلّ يوم؟ قال: مائة ألفِ تسبيحة).
نسبح اللهَ العظيم؛ لأن الله -عز وجل- يقول: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى)
يا رب نسبحك ونحمد ونتوب إليك
تتحدثون عن الأذى وبلوغ الإحباط واليأس إلى القلوب، إذن أكثروا من التسبيح والتحميد، فإنه مُثَبِّتٌ للقلوب، مُقَوٍّ لِعَزْمِهَا، مُذْهِبٌ لِجَزَعِهَا، مُزِيلٌ لِخَوْفِهَا، اقرؤوا إن شئتم (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ).
في ابتداء اليوم تسبيح (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)، وفي ختام اليوم تسبيح (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) وفي أواخر العمر تسبيح؛ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) وأختم هذه الخطبة بالتسبيح (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
المرفقات
320615
320615