لاَ حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِالله
سلطان الحصين
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ [سورة الكهف:1-2]، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[سورة الأحزاب:70-71]
عباد الله: إن الإنسانَ بغير إيمانٍ مخلوقٌ ضعيفٌ، إن أصابَه شرٌّ جزِع، وإن أصابَه خيرٌ منَع، وهو في كِلتا الحالَين قلِقٌ هلِع، ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾[سورة النساء: 28]
.وما منَّا من أحدٍ إلا تعتَرِيه هُمومٌ وغُمومٌ ومضايِق، تتقاذَفُه نوائِبُ الحياةِ وصُروفُها يمنةً ويسرةً، ثم يَلهَثُ جاهِدًا للنجاة مما اعْتَراه
يطرُقُ أبوابَ الناسِ المُغلَقة ولا يطرُقُ بابَ الله المفتُوح، يُقطِّعُ الأوقات في بثِّ همِّهِ وغمِّهِ إلى الناسِ مع ضعفِهِم وقلَّةَ حيلتِهم، ولا يُقطِّعُ وقتَه في بثِّ همِّه وغمِّه إلى من لا تخفَى عليه خافِيَة، من لا يُعجِزُه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، من يُجيبُ المُضطرَّ إذا دعاه، ويكشِفُ السوءَ، من بيدِه ملكُوتُ كلِّ شيءٍ وهو يُجيرُ ولا يُجارُ عليه
ولو فرَّ مثلُ هذا إلى ربِّه لأحيا ضَميرَه، وزكَّى نفسَه، وطهَّر قلبَه، وأمدَّه بالعَون والتوفيقِ، ومن ذلكم: أن يهدِيَه إلى كنزٍ من كُنوز الجنة، وبابٍ من أبوابِها التي قد غَفلَ عنها، في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عبدَ اللهِ بن قيس! قُل: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله؛ فإنها كنزٌ من كنوز الجنة»، وفي روايةٍ «أنها بابٌ من أبوابِ الجنة
.عباد الله: لا حول ولا قوة إلا بالله، هي الكنزُ الذي يَفْتَقِرُ إليه كلُّ واحدٍ منَّا، إنه الكنزُ الغائِبُ عن أوساطِنا، إنها كلمةٌ عظيمةٌ مليئةٌ بكل معاني التوحيد واللُّجوء إلى الله، والبراءة من حَولِ العبدِ الضعيفِ وقوَّتهِ إلى حَولِ العظيمِ الجبَّارِ وقوَّتهِ
لا حول ولا قوة إلا بالله هي الزَّادُ لمن أرادَ السَّداد، إنها أُنسُ المهمُومِ وجَلاءُ المغمُومِ، من التزمَها سعِد وربِح، ومن زهِد فيها شقِيَ وخسـِر؛ كيف لا وهي من الباقِيات الصالِحات التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «استكثِروا من الباقِيات الصالِحات»، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: «التكبير، والتهليل، والتسبيح، والحمدُ لله، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله»، أخرجه أحمد وابن حبان
!عجبًا للعبد يشغَلُه حولُ البشر وقوَّتِهم عن حَولِ الله وقوَّتهِ
أما لو ردَّد المظلُومُ وذُو المضَايِق، وأكثرَ من قولِها مُوقِنًا بها؛ لفتحَ الله بها من أبواب الرِّضا ما يطيشُ أمامَها كلُّ همٍّ وغمٍّ وحُزنٍ وكآبة؛ فهي مِفتاحُ الإيمان، ومِفتاحُ الإعانة، وبها يُفوِّضُ المسلمُ أمرَهُ إلى القاهرِ فوقَ عبادِه وهو الحكيمُ الخبير
.ومعناها أي: لا حركةَ لي ولا استطاعةَ ولا تحوُّلَ من حالٍ إلى حالٍ إلا بحَول الله وقوَّته
فلا حول للمظلوم ِ ولا قوةَ على الظالمِ إلا بالله
ولا حول للمريض ولا قوة على الشفاء إلا بالله
ولا تحول عن المعصية ولا قوة على الطاعة إلا بالله
ولا تحول عن الفقر ولا قوة على الغنى إلا بالله
ولا حول على صلاح الأبناء والأهل ولا قوةَ على هدايتهم إلا بالله
.ولا تحول من أي شيء ولا قوة على أي شيء إلا بالله
.فلا حول ولا قوة إلا بالله تُوجِبُ الإعانةَ من الله لقائلِها، فلأجل ذلك سنَّها النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال المُؤذِّن: "حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح"، فيقول المُستمِع: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، أي لا حول على التزام الطاعة وتحقيق الفلاح إلا بالله
أُسِرَ ابنٌ لعوفٍ بن مالكٍ الأشجعيِّ رضي الله عنه، فقال: يا رسولَ الله! أسرَ العدوُّ ابنِي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ الله واصبِر، وأكثِر من قولِ: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله» أخرجه الحاكم، ففعلَ الرجلُ ذلك، فبينما هو في بيتِه إذ أتاه ابنُه وقد غفلَ عنه العدوُّ، فأصابَ إبلاً فغنِمَها وجاءَ بها إلى أبيه
الله أكبر! ما أعظمَها من كلمة، وما أعظمَ أثرَها، والله أكبر! ما أغفلَ الناسَ عنها قولاً وعملاً، عجبًا لمن يقنَط وعنده لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله! وعجبًا لمن يَقْلَق ويخاف وعنده لا حول ولا قوةَ إلا بالله! وعجبًا لمن استثقَلَ شيئًا أو استبطأَه وعنده لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله
.أيها الإخوة في الله: لا حول ولا قوة إلا بالله حَبْلٌ مَتين وكَنز ثَمين ومفتاح لكل ضائقة، فالزموه وأكثروا منه يكن لكم ذخرا في الدارين
.بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكرِ والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إن ربي كان غفورًا رحيمًا
الخطبة الثانية.الحمد لله أولا وآخر وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
: أيها المسلمون، ثمَّةَ أقوامٌ يُخطِئون مع هذه الكلمة العظيمة خطأين
أولُهما: أنهم يقولون هذه الكلمة في المصائِبِ والمِحَن التي ينبغي أن يُقال فيها: "إنا لله وإنا إليه راجِعون"، وهذا خلافُ ما دلّت عليه النصوصُ من موضعِ إيرادِها، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وذلك أن هذه الكلمة - أي: لا حول ولا قوة إلا بالله - هي كلمةُ استِعانة لا كلمةَ استِرجاع، وكثيرٌ من الناس يقولُها عند المصائِب بمنزلةِ الاستِرجاع، ويقولُها جزعًا لا صبرًا". انتهى كلامُه
وأما الخطأُ الآخر فهو إهمالُ بعضهم وتساهُلُهم في نُطقِها، إما جهلاً أو كسلاً، فيقولُون: لا حولِ الله! وفي هذا إخلالٌ كما لا يخفَى؛ حيث لا تحمِلُ إلا معنى النفيِ وحسب، وهذا خطأٌ ظاهرٌ؛ فالكلمةُ نفيٌ وإثباتٌ، ثبَّتَنا الله وإياكُم على طاعتِه، وأعانَنا على ذكرِه وشُكرِه وحُسن عبادتِه، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، عليه توكَّلنا وإليه المصير
ثم صلُّوا على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة؛ فقد أمرَكم الله بأمر ٍ قال فيه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾[سورة الأحزاب:56]
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ صاحبِ الوجهِ الأنوَر، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابةِ والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم يا أكرم الأكرمين
___
المرفقات
1626435322_لا حول ولا قوة إلا بالله.docx
1626435323_لا حول ولا قوة إلا بالله.pdf