لا ثم لا للعلمانية
ناصر محمد الأحمد
1438/03/14 - 2016/12/13 03:47AM
لا ثم لا للعلمانية
17/3/1438ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: يتردد كثيراً في وسائل الإعلام والمنتديات وعلى المنابر مصطلح "العلمانية"، والقليل من الناس من غير المتخصصين مَنْ لديه معلومات دقيقة، أو مفاهيم محددة واضحة عن العلمانية.
أصل العلمانية بحسب الترجمة الغربية أنه من العِلْم، أو من العَالَم، وهي ترجمة غير أمينة ولا دقيقة ولا صحيحة، لأن الترجمة الحقيقية هي "لا دينية، أو لا غيبية"، لكن المسوّقين الأُوَل لمبدأ العلمانية في بلاد الإسلام علموا أنهم لو ترجموها الترجمة الحقيقية لما قبلها الناس، ولردُّوها ونفروا منها، فدلَّسوها تحت كلمة العلمانية لإيهام الناس أنها من العلم، ونحن في عصر العلم، أو أنها المبدأ العالمي السائد والمتفق عليه بين الأمم والشعوب غير المنحاز لأمة أو ثقافة. وكان أول من طرح هذا المصطلح في الساحة الثقافية العربية نصارى بلاد الشام في القرن التاسع عشر.
لقد نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة لظروف ومعطيات تاريخية: دينية واجتماعية وسياسية وعلمية واقتصادية خلال قرون من التدرج والنمو الطبيعي، والتجريب والتكامل، حتى وصلت إلى صورتها التي هي عليها اليوم. والظروف التي برزت فيها العلمانية في الغرب هي:
طبيعة الديانة النصرانية: ومبادئها الأساسية التي تقوم على الفصل بين الدين والدنيا، أو بين الكنيسة والدولة ونظم الحياة المختلفة، ولهذا فإن النصارى أمماً وشعوباً حين يندفعون للبحث عن تنظيم أمور حياتهم في العلمانية أو غيرها لا يشعرون بأي حرج من ناحية دينهم ومعتقدهم، بل إن طبيعة دينهم تدفعهم لهذا الأمر، ولذلك فإن نشأة العلمانية وانتشارها وسيادتها في المجتمعات الغربية أمر طبيعي.
وكذلك: الصراع الذي نشأ بين الكنيسة والكشوف العلمية في جوانب الحياة المختلفة: وحين تكشفت للناس الحقائق وقامت البراهين القاطعة على صحة أقوال العلم انحازوا للحقيقة ونبذوا الكنيسة ودينها.
وأيضاً: ظهور حركات اجتماعية فكرية سياسية نفضت غبار الماضي، وثارت على كل قديم، واحتدمت نيران الصراع بين القوى الاجتماعية والسياسية الجديدة والقوى القديمة فالتفَّت الشعوب والجماهير حول القوى الجديدة وكانت العلمانية اللادينية هي اللافتة والراية التي اجتمعت القوى الجديدة تحتها. فنتج عن ذلك: التقدم العلمي الهائل، والرخاء الاقتصادي الواسع الذي أصبحت تعيشه الشعوب الغربية، والاستقرار السياسي واستبعاد صور العنف وأشكاله في التعبير عن الآراء والتوجهات السياسية، وترسيخ آليات وأخلاقيات وقوانين وأعراف للحوار، وتوفير ضمانات للحريات السياسية، وعدم الاضطهاد، وتنظيم العلاقة بين الشعوب وحكامها، بعد عصور الدماء والتطاحن والثورات، واحترام حقوق الإنسان وحرياته وبالذات الإنسان الغربي، وبالمفهوم الغربي أيضاً للحقوق والحريات، حيث أصبح زعيم أكبر دولة في العالم وأقواها يُحقق معه، ويُحاكم كأي فرد مهما ضعف وتضاءل من شعبه، وبحيث أصبحت السيادة للقانون، ودَور السلطة هو حماية القانون وتنفيذه، وخدمة الأمة وحمايتها، وأدى هذا إلى انتشار الإلحاد بجميع صوره وأشكاله في حياة الغربيين، وبعده التنافس بين الدول الغربية في ذلك مما تسبب في قيام حربين عالميتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين من البشر، وما زال التهديد قائماً بحرب ثالثة قد تكون سبباً في دمار الأرض، والقضاء على الحضارة البشرية، ومنجزاتها عبر التاريخ.
ولكن ها نحن بعد أن عاشت الحضارة الغربية قرابة ثلاثة قرون في ظل العلمانية نرى الإنسان الغربي يعيش مأزقاً نفسياً روحياً فكرياً وجودياً أشد عمقاً وتأزماً من مأزقه حين بشرت العلمانية بحل معضلته، على الرغم من التقدم المادي والرفاه المعيشي الذي يعيشه هذه الأيام، وصدق القائل سبحانه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) ( طه: 124 ).
وانتقلت العلمانية من الغرب للشرق: من خلال الاحتلال العسكري الاستعماري: وعبر فوهات مدافع البوارج البحرية، ولئن كانت العلمانية في الغرب نتاج ظروف ومعطيات محلية متدرجة عبر أزمنة متطاولة، فقد ظهرت في الشرق وافداً أجنبياً متكامل الرؤى والأيديولوجيات والبرامج، يطبق تحت تهديد السلاح وبالقسر والإكراه ولذلك فلا عجب إن كانت النتائج مختلفة تماماً.
وأيضاً انتقلت إلينا العلمانية من خلال البعثات العلمية التي ذهبت من الشرق إلى الغرب لطلب العلم والتقدم، فعاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم، ذهبوا لدراسة الفيزياء والأحياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية، بل بدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي في الجامعات الغربية، ولك أن تتصور حال شاب مراهق يحمل الشهادة الثانوية ويُلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه، بعد أن يكون قد سقط إلى شحمة أذنيه في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي، وما أوجده كل ذلك لديه من صدمة نفسية واضطراب فكري ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب الأكاديمية، وفي أهم المراكز العلمية، بل القيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها بازدراء، وإلى تاريخها بريبة واحتقار، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها في أحسن الأحوال بشفقة ورثاء، إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلاً تجارياً لمن علَّموه وثقَّفوه ومدَّنوه، وهو لا يملك غير ذلك، ولئن كان هذا التوصيف للبعثات الدراسية ليس عاماً فإنه الأغلب وبالذات في أوائل عصر البعثات، وقلَّ من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية، حتى أصبح في داخل الأمة طابور خامس، وجهته غير وجهتها، وقبلته غير قبلتها، وإنهم لأكبر مشكلة تواجه الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة.
وكذلك انتقلت إلينا العلمانية من خلال البعثات التبشيرية: فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي جابت العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من شتى الفرق والمذاهب النصرانية جعلت هدفها الأول زعزعة ثقة المسلمين بدينهم، وإخراجهم منه، وتشكيكهم فيه، حتى وإن لم يعتنقوا النصرانية، وليس أجدى من العلمانية وسيلة لهذا الغرض، والأمر ليس من باب التخمين والافتراض، بل نطقت بهذا أفواههم، وخطَّته أقلامهم، وإن شئت فارجع إلى كتاب: "الغارة على العالم الإسلامي" مثلاً ليتبين لك ذلك، وهؤلاء المبشرون إما من الغربيين، وإما من نصارى العرب وأضرابهم.
وأيضاً انتقلت إلينا العلمانية من خلال المدارس والجامعات الأجنبية: ففي أواخر الدولة العثمانية وحين سيطر الماسونيون العلمانيون على مقاليد الأمر سُمح للبعثات التبشيرية والسفارات الغربية بإنشاء المدارس والكليات، وانتشرت في بلاد الشام والأناضول انتشار النار في الهشيم، وخرَّجت أجيالاً من أبناء المسلمين الذين أصبحوا بعد ذلك قادة الفكر والثقافة، ودعاة التحرر والانحلال، ومن الأمثلة على ذلك الجامعة الأمريكية في بيروت، والتي في أحضانها نشأ العديد من الحركات والجمعيات العلمانية، وقد سرت العدوى بعد ذلك إلى الكثير من الجامعات والمؤسسات التعليمية الرسمية في العديد من البلاد العربية والإسلامية، وقد قام خريجو هذه المدارس والجامعات بممارسة الدور نفسه حين عادوا لبلدانهم أو ابتعثوا للتدريس في بعض البلدان الأخرى.
وأيضاً انتقلت إلينا العلمانية من خلال الجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية التي انتشرت في الأقطار العربية والإسلامية، ما بين يسارية وليبرالية وقومية وأممية وسياسية واجتماعية وثقافية وأدبية، بجميع الألوان والأطياف، وفي جميع البلدان، وبعد أن تكاثروا في المجتمع عمدوا إلى إنشاء الأحزاب القومية أو الشيوعية أو الليبرالية، وجميعها تتفق في الطرح العلماني، وكذلك أقاموا الجمعيات الأدبية والمنظمات الإقليمية أو المهنية، وقد تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية، والسعي لعلمنة الأمة كلٌ من زاوية اهتمامه، والجانب الذي يعمل من خلاله.
وكذلك انتقلت إلينا العلمانية من خلال وسائل الإعلام المختلفة: من مسموعة أو مرئية أو مقروءة، لأن هذه الوسائل كانت من الناحية الشكلية من منتجات الحضارة الغربية صحافة أو إذاعة أو تلفزة، فاستقبلها الشرق واستقبل معها فلسفتها ومضمون رسالتها، وكان الرواد في تسويق هذه الوسائل وتشغيلها والاستفادة منها إما من النصارى أو العلمانيين من أبناء المسلمين، فكان لها الدور الأكبر في الوصول لجميع طبقات الأمة، ونشر مبادئ العلمانية وأفكارها وقيمها، وبالذات من خلال الفن، وفي الجانب الاجتماعي بصورة أكبر.
هكذا سرت العلمانية في كيان الأمة، ووصلت إلى جميع طبقاتها قبل أن يصلها الدواء والغذاء والتعليم في كثير من الأحيان.
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: وهكذا انتشرت العلمانية في العالم الإسلامي والذي كان من نتائجه:
أولاً: مواجهة التراث الإسلامي: إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط والتخلف كما عند غلاة العلمانية أو بإعادة قراءته قراءة عصرية كما يزعمون لتوظيفه توظيفاً علمانياً من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية، ولغة عربية، وأعراف اجتماعية، ولم ينجُ من غارتهم تلك حتى القرآن والسنة، إما بدعوى بشرية الوحي، أو بدعوى أنه نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة، أو بدعوى أنه مبادئ أخلاقية عامة، أو مواعظ ورقائق روحية لا شأن لها بتنظيم الحياة، ولا بيان العلم وحقائقه.
ثانياً: اتهام التاريخ الإسلامي: بأنه تاريخ دموي استعماري عنصري غير حضاري، وتفسيره تفسيراً مادياً، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغربية العلمانية على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائية غير نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ، وتجاهل ما فيه من صفحات مضيئة مشرقة، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها، والإشادة بها، والثناء عليها، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة.
ثالثاً: خلخلة القيم الخلقية الراسخة في المجتمع الإسلامي، والمسيِّرة للعلاقات الاجتماعية القائمة على معاني الأخوة والإيثار، والطهر والعفاف، وحفظ العهود، وطلب الأجر، وأحاسيس الجسد الواحد، واستبدالهم بها قيم الصراع، والاستغلال والنفع، وأحاسيس قانون الغاب والافتراس، والتحلل والإباحية، من خلال الدراسات الاجتماعية والنفسية، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية، مما هزّ المجتمع الشرقي من أساسه، ونشَرَ فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه في تاريخه.
رابعاً: وَصْم الإسلام بالأصولية والتطرف وممارسة الإرهاب الفكري عبر غوغائية إعلامية غير شريفة ولا أخلاقية، لتخويف الناس من الالتزام بالإسلام، والاستماع لدعاته، وعلى الرغم من وقوع الأخطاء وأحياناً الفظيعة من بعض المنتمين أو المدَّعين للإسلام، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب العلماني الذي يُمارس على شعوب بأكملها، وعبر عقود من السنين، لكنه عدم المصداقية، والكيل بمكيالين، والتعامي عن الأصولية النصرانية واليهودية الموغلة في الظلامية والعنصرية والتخلف.
خامساً: تمييع قضية الحِلِّ والحُرمة: في المعاملات والأخلاق، والفكر والسياسة، وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة والربح المادي محلها، واستخدام هذه المفاهيم في تحليل المواقف والأحداث، أي فك الارتباط بين الدنيا والآخرة في وجدان الإنسان وفكره وعقله.
سادساً: الترويج للمظاهر الاجتماعية الغربية: وبخاصة في الفن والرياضة والطب وشركات الطيران والحفلات الرسمية وقضية المرأة، ولئن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر عن قيم خلقية ومنطلقات عقائدية وفلسفة خاصة للحياة، من هنا كان الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضوع المرأة، والسعي لنـزع حجابها، وإخراجها للحياة العامة، وتعطيل دورها الذي لا يمكن أن يقوم به غيرها في تربية الأسرة ورعاية الأطفال.
اللهم ..