لا تنْس رحيلك إلى الدار الآخرة 16 / 11 / 1445
أحمد بن ناصر الطيار
الحمد لله ربّ العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, شهادةً يُزيح ظلامَ الشكوك صُبْحُ يقينها، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله, المبعوثُ لرفع كلمة الإسلام وتشييدها، وخفضِ كلمة الكفر وتوْهينها، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ليوثِ الغابةِ وأُسْدِ عرينها, وسلم تسليمًا كثيرًا, أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, ومن يتق الله يشرح صدره، ويرفع قدره، ويعلي ذكره.
معاشر المسلمين: كم تُراود أحدَنا نفسُه أنْ يستمتع في حياته, ويُفكرَ في مستقبله الدّنيوي, ومع هذا التفكير والأمل ينسى السعيَ إلى الآخرة, والعملَ الدؤوب لأجلها, وهنا تكمن المشكلة, فنحن ما خُلقنا للمتعة الدنيوية, بل خلقنا لغاية شريفة نبيلة عظيمة, وهي توحيد الله وعبادته, كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
فلماذا تَرَكْنَا هذا المقصد الأعظم, المقصودَ لذاته, وتوجهنا إلى المقصد الدنيء, المقصودِ لغيره؟
والانشغال بالله حُبًّا وتعظيمًا وعبادةً: يجْلب صلاح البال, وانشراح النفس, ونور القلب, والسعادة والطمأنينة, وأما الانشغال بغيرِه: فإنه يجلب الهمّ والقلق والكَدَر.
قال بعض السلف: ذهب المحبُّون لله بشرف الدنيا والآخرة, إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» [رواه البخاري (6168), ومسلم (2640).], فهم مع الله في الدنيا والآخرة.
"ومن عرف الله صفَا له العيش, وطابت له الحياة, وهابه كلُّ شيء, وذهب عنه خوفُ المخلوقين, وأنِس بالله, واستوحش من الناس, وأورثتْه المعرفة الحياءَ مِن الله, والتعظيمَ له, والإجلالَ والمراقبةَ والمحبةَ, والتوكلَ عليه والإنابةَ إليه, والرضا به والتسليمَ لأمره.
فحياة القلب مع الله, لا حياةَ له بدون ذلك أبدًا". [روضة المحبين لابن القيم: 409-411]
وما أقصر وأَتْفَهَ الحياة الدنيا مقارنةً بالحياة الآخرة, التي سنمرّ فيها على أخطار وأهوال الفظيعة, ومنها: هولُ القبر, وهولُ نَفْخَةِ الْفَزَعِ {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ}, وهولُ نَفْخَةِ الصَّعْقِ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ}, وهولُ قيامِ الساعة والبعثِ من القبور {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}, وهولُ الحشر, وهولُ يوم تدنو الشمس قدر ميل, وأهوالُ الحساب والعرضِ على الله تعالى, وأهوالُ تطاير الصحف, فلا تدري: هل تأخذها بيمينك أم بشمالك؟, وهولُ العرض على الميزان, فلا تدري: هل ترجح حسناتُك أم سيّئاتُك؟ وهولُ الوقوفِ بين يدي الله تعالى, ومُخاطبتِه بلا تُرجمان, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». [رواه البخاري (6539), ومسلم (1016)], وهولُ العبورِ على الصراطِ, والنارُ تضطرم تحتك, والكلاليب تتخطف مَن حولَك, وهولُ القصاصِ في المظالم على القَنْطَرَةِ التي بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا». [رواه البخاري (6535)]
فكم نحن منشغلون في هذه الحياة - التي هي في الأصل مزرعة للآخرة - عن أهوال يوم القيامة, التي ستواجهنا فيها أمورٌ نتمنى حينها أن نرجع إلى الدينا لنعمل صالحًا.
إنَّ كلَّ عاقل يعلم أنه سيُبعث بعد الموت, ثم لا يجِدُّ في الاستعداد لذلك لهو مسكينٌ ظالم لنفسِه.
وهذه الحياة الدنيا كساعةٍ بالنسبة للحياة الآخرة, كما قال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ).
فالعاقل يستغلّ هذه الساعة القصيرة, ولا يُضيعها فتضيع عليه آخرته الباقية التي لا نهاية لها.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا شكر نعمه, ودوام طاعته, إنه على كل شيء قدير.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: معاشر المسلمين: لو قارن العاقل حياته الدنيويّة بالحياة الأخروية لعلم أنه مغبونٌ ظالمٌ لنفسِه, إن سخَّر اهتماماتِه في تحصيل لذائذِه الدنيويّة فحسب.
فهل يليق بعاقلٍ أن يُفني هذا العمر القصير في اللهو واللعب, وفعلِ الحرام, وهو يعلم أنّ ضياعه يعني خسارتَه في الآخرةِ وندامتَه الشديدة؟
وهل يُقدِّم التمتع في هذا العمر القصير, ويخسر الحياة الباقية التي لا حدّ لها ولا عدّ؟
قال بعض السلف: الدُّنيا كلها قليلٌ، والذي بقي منها قليلٌ، والذي لكَ من الباقي قليلٌ، ولم يبقَ من قليلِك إلا قليل، فاشترِ نَفسك لعلَّك تنجو.
فكيف لعاقل أنْ يجعل هَمَّهُ وجهده في هذا القليل الحقير الفاني! ويغفل عن الكثير الجليل الباقي!
وصدق الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}.
هَبِ الدُّنْيَا تُسَاقُ إِلَيْكَ عَفْوًا ... أَلَيْسَ مَصِيرُ ذَاكَ إِلَى انْتِقَالِ؟
وَمَا دُنْيَاكَ إِلَّا مِثْلُ فَيْءٍ... أَظَلَّكَ ثُمَّ آذَنَ بِالزَّوَالِ
اللهم أصلح فساد قلوبنا, وتجاوز عن تقصيرنا، إنه ربنا غفور رحيم.
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على نبي الهدى, وإمام الورى, فقد أمركم بذلك جل وعلا فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.. يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, وخُصَّ منهم الحاضرين والحاضرات, اللهم فرِّج همومهم, واقض ديونهم, وأنزل عليهم رحمتك ورضوانك يا رب العالمين.
عباد الله: إنَّ اللَّه يأْمُرُ بالْعدْل والْإحْسانِ وإيتاءِ ذي الْقُرْبى ويَنْهى عن الْفحْشاءِ والمنْكرِ والبغْيِ يعِظُكُم لَعلَّكُم تذكَّرُون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
1716461741_لا تنْس رحيلك إلى الدار الآخرة.pdf