لَا تَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَكَ (1442/2/15هـ) موافقة لتعميم الاحتراز من كورونا

يوسف العوض
1442/02/13 - 2020/09/30 23:41PM
الخطبة الأولى :

الحمَّدُ للِّهِ الرَّحيمِ الْحَكِيمِ ، اللطيفِ بعبادهِ ، البَرِّ الْكَرِيم ، وأشهدُ أَنْ لَا إلهَ إلاَّ اللهُ الْمُدبِّرُ لجميعِ الأُمورِ ، الَّذِي يَبْتَلِي عبادَهُ فِي المحابِّ والمكارهِ والميسورِ وَالْمَعْسُور ، ليَظْهَرَ بذلكَ الجازعُ الساخطُ مِن الشاكرِ المُحتَسبِ الصَّبُورِ ، وأشهدُ أَن محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي أرشدَ أُمَّتَه للشُّكرِ عندَ الرَّخاءِ ، والصبرِ والرِّضا بِمُرِّ القضاءِ ، اللَّهُمّ صلِّ وسلِّم عَلَى محمدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ مَن اقتدَى بِهِم فَقَد سَعُدَ وَاهْتَدَى ، وَمَن زاغَ عَنْ طَرِيقِهِمْ فَقَد ضلَّ ولَقِيَ الرَّدَى . 

أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : مازالَت أَزْمَةُ جَائِحَةِ كورونا تُلقي بظلالِها عَلَى الْفَرْدِ والمجتمعِ وَعَلَى الدَّوْلَةِ وَالْقِيَادَةِ وَاَلَّتِي نَحْتَاجُ فِيها إلَى التَّعَايُشِ مَعَهَا وِفْقَ الاشتراطاتِ الصِّحيَّةِ والبروتوكولاتِ الإحترازيةِ ، لِأَنَّ عَدَمَ الِاحْتِرَازِ يُطِيلُ مَدَاهَا وَيُؤَخِّر شِفَاها ، وحِينَها لا يَلومَنَّ الواحدُ منَّا إلا نفسَه ، فَلَا بُدَّ أَنْ نُعِيدَ وَنَزِيد ونُحذِّرُ ونُفيدُ بِكُلِّ تَسَاهُلٍ لَا مَسْؤُولَ وَتَصَرَّفٍ مغرورٍ يُفضي إلى تركِ الإحترازاتِ حتى لا نصل إلَى مَا لَا تُحْمَدُ عُقْبَاهُ وَلَا ينتهي مَداه وَلِهَذَا نَذْكُّرُ  أنفسَنا بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاَلَّتِي نَقْتَبِسُ مِنْهَا الْهُدَى وَالنُّورَ  والوِقايةَ وَالْعَافِيَةَ والله الشَّافي والهَادي سُبحانَه وتعالى . .
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : رَوَى الإمام البُخاريُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ». وَالجُذَامُ: هُوَ عِلَّةٌ يَحْمَرُّ مِنْهَا العُضْوُ، ثُمَّ يَسْوَدُّ، ثُمَّ يَتَقَطَّعُ وَيَتَنَاثَرُ.
وروى الإمامُ مُسلمٌ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ». (أَيْ: مَرِيضٌ عَلَى صَحِيحٍ، أَو صَاحِبُ إِبِلٍ مَرِيضَةٍ عَلَى صَاحِبِ إِبِلٍ صَحِيحَةٍ) الحَدِيثُ الأَوَّلُ قَالَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا عَدْوَى» ثُمَّ قَالَ: «وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» ، وَالحَدِيثُ الثَّانِي قَالَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ».
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : حَاشَا للهِ تعالى أَنْ يَكُونَ كَلَامُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيهِ تَعَارُضٌ وَكَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ أَنْ يَتَعَارَضَ الوَاقِعُ مَعَ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، لِأَنَّ كَلَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَمَا خَرَجَ مِنْ فَمِهِ الشَّرِيفِ إِلَّا حَقٌّ (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى).
يَقُولُ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قَالَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ: يَجِبُ الجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ قَالُوا: وَطَرِيقُ الجَمْعِ أَنَّ حَدِيثَ: «لَا عَدْوَى» الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ مَا كَانَتْ الجَاهِلِيَّةُ تَزْعُمُهُ وَتَعْتَقِدُهُ أَنَّ المَرَضَ وَالعَاهَةَ تَعَدَّى بِطَبْعِهَا لَا بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ: «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» فَأُرْشِدَ فِيهِ إِلَى مُجَانَبَةِ مَا يَحْصُلُ الـضَّرَرُ عِنْدَهُ فِي العَادَةِ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى وَقَدْرِهِ ، فَنَفَى فِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ العَدْوَى بِطَبْعِهَا، وَلَمْ يَنْفِ حُصُولَ الضَّرَرِ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى وَفِعْلِهِ وَأَرْشَدَ فِي الثَّانِي إِلَى الاحْتِرَازِ مِمَّا يَحْصُلُ عِنْدَهُ الضَّرَرُ بِفِعْلِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَدَرِهِ. اهـ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : فَعَقِيدَتُنَا أَنَّ الفَاعِلَ الحَقِيقِيَّ إِنَّمَا هُوَ اللهُ تعالى، وَالأَسْبَابُ خَادِمَةٌ لِقَدَرِ اللهِ تعالى، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ اعْتِقَادَاً جَازِمَاً بِأَنَّ المَرَضَ وَالعَاهَةَ لَا تُعْدِي بِطَبْعِهَا، إِلَّا إِذَا شَاءَ اللهُ تعالى، جَاءَ فِي حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ» ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا بَالُ الإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيَجِيءُ البَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيُجْرِبُهَا كُلَّهَا؟ قَالَ: «فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟» رواه مُسلمٌ .
وَلَكِنْ عَلَيْنَا بِالأَخْذِ بِالأَسْبَابِ، وَهُوَ الابْتِعَادُ عَمَّا في ظَاهِرِهِ قَدْ يُعْدِي، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» مِنْ حَيْثُ السَّبَبُ، وَالحَقِيقَةُ: لَا عَدْوَى، لِأَنَّهُ قَد يُؤَثِّرُ المَرَضُ وَالعَاهَةُ إِذَا شَاءَ اللهُ تعالى، وَإِذَا لَمْ يَشَأْ لَا تُؤَثِّرُ، فَالعَبْدُ يَأْخُذُ بِالأَسْبَابِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ تعالى، فَقَدْ يَبْتَعِدُ السَّلِيمُ عَنِ المَرِيضِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَمْرَضُ السَّلِيمُ، وَقَدْ يَقْتَرِبُ السَّلِيمُ مِنَ المَرِيضِ وَلَا يَأْذَنُ اللهُ تعالى بِالعَدْوَى وَهَذَا أَمْرٌ مُلَاحَظٌ لَا مَجَالَ لِإِنْكَارِهِ.
 الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ؛ أَمَّا بَعْدُ :
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : هُنَاكَ حَقِيقَةٌ، وَهُنَاكَ سَبَبٌ ، فَالحَقِيقَةُ (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) وَالسَّبَبُ: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبَاً * فَأَتْبَعَ سَبَبَاً) ، الحَقِيقَةُ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) وَالسَّبَبُ: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
الحَقِيقَةُ لَا يُفَرِّجُ الكَرْبَ إِلَّا اللهُ تعالى وَالسَّبَبُ:  كما في حَديثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُـعْسِرٍ، يَـسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» رواه مُسلمٌ.
 
فَالمَرَضُ وَالعَاهَةُ لَيْسَتْ فِيهَا قُوَّةٌ ذَاتِيَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ في الغَيْرِ، وَلَكِنْ إِذَا شَاءَ اللهُ تعالى أَنْ تُؤَثِّرَ أَذِنَ في التَّأْثِيرِ (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) .
وَنَسْأَلُ الْمَوْلَى جَلَّ فِي عُلَاهُ أَن يحميَنا ويحميَ بِلَادَ الْحَرَمَيْن وَبِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَمَكْرُوهٍ ، إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ . .
المشاهدات 2717 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا