لا تكن ككلب الصيد (عن الغيبة)
سامي بن محمد العمر
لا تكن ككلب الصيد
(عن الغيبة)
أما بعد:
فإن كلب الصيد لا يخفى على أحدٍ في قوته وسرعته ونشاطه وتدريبه وتعليمه.
فأنت تراه يجري ويلهث، لا يكل ولا يمل، يتعقب الفريسة من هنا وهناك بمثابرة وحيوية ونشاط؛ ليمسك بالفريسة التي أتعبته وأنهكته ثم يقدمها لصاحبه الذي أرسله هنيئة مريئة؛ له غُنْمها ولذتها وفائدتها؛ وعلى الكلب تعبها وجهدها وضنكها؛ منتظرا من الصاحب أن يذكره منها بقطعة أو يرمي له بعظمة!
ولو كان الكلب يعقل ما يفعل، ما ركضت منه ساق ولا تعب منه بدن، وهو يعلم أن فائدة تعبه ينالها غيره، وأن جائزة كدِّه يهنأ بها سواه.
فكلب الصيد يمسك وهو طاوٍ *** فريسته ليأكلَها سواه.
لقد فطر الله عقلاءَ البشر عامة، وأهلَ الإيمان منهم خاصة على أن قمة الجهل والغباء تكمن في تعب بلا فائدة، وجهد بلا جائزة، وعمل بلا ثواب؛ فكيف تطيق الأذهان النيرة تخيُّلَ تعب وجهد وكدٍّ وعملٍ تذهب جائزته وفائدته وثوابه لغيرها ممن لم يكن له فيها ناقة ولا جمل!
فكيف لو كان هذا الغير ممن لا ترتضي النفس حالَه ولا تقبلُ مجالسته لكُرْهٍ أو عداوة!
تلك هي الغبينة بعينها؛ التي يصنعها المرء بنفسه على نفسه، فيجمع من دنياه ضيق عيشه وإنهاك جسده، ويلقى في أخراه حساب عمله وعاقبة ذنبه؛ ويسعد بحسناتِ أفعاله الآخرون ممن أهداهم ثوابه على طبق من ذهب.
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]
لقد منّ الله على أناس في هذه الحياة بالإكثار من الحسنات والتزود من الأعمال الصالحات؛ فمنهم من يُكثر التلاوة؛ ومنهم من يجتهد في نوافل الصلاة، ومنهم من يحب المتابعة بين الحج والعمرة، ومنهم من يذكر الله كثيراً حتى إذا ما جلس أحدهم مجلساً نصب فيه منجنيقاً يرمي به تلك الحسنات يمينا وشمالا؛ ويوزع به ثواب تلك الصالحات شرقاً وغرباً؛ بحركة يسيرة من لسانه يفري بها في أعراض الناس فرياً؛ وينهش بها من لحومهم نهشاً؛ وقد تراه أعد الناس عن غيرها من الذنوب؛ وذاك أمر غريب.
وقد قال ابن القيم رحمه الله:
"ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنى والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالا، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول"([1]) ا.هـ.
لقد فضحت الغيبة عقول المتحدثين، وأبانت سرائر المتكلمين، وأفسدت أعمال الصالحين، وأحبطت أجور العاملين، وأسخطت رب العالمين، لأنها ذكر لإخوانك بما يكرهون، وكشف لما يسترون، وفيها احتقار وانتقاص وَ"بحَسْبِ أمرئ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحقِرَ أخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلم عَلَى المُسْلم حَرَامٌ، دَمُهُ ومَالُهُ وعرْضُهُ"([2]) كما قال صلى الله عليه وسلم.
عباد الله:
إن حكم الغيبة وصورها وأشكالها معلوم لكثير من الناس؛ ولكن الذي يغفل عنه المغتابون: أنهم بفعلهم هذا يلمعون أنفسهم وينفون عنها التقصير والخلل؛ وإلا لكانوا أشد حذرا من ذكر عيوب الآخرين وعندهم من أمثالها.
قال ابن سيرين رحمه الله: "أكثر الناس خطايا أكثرهم ذكراً لخطايا الناس"
وقيل للربيع بن خثيم: ما نراك تعيب أحداً! فقال: ما أنا عن نفسي براضٍ فأتفرغ من ذنبي إلى الحديث عن ذنوب الناس.
اللهم بصِّرنا بعيوبنا، وثبتنا على طاعتك حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
أما بعد:
لقد أبان الله عن بشاعة الغيبة بقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]
وأبان النبي صلى الله عليه وسلم عن خطورة موقف فاعلها يوم القيامة بقوله:
((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ)). قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ))([3]).
ولأجل هذا المعنى الخطير كفَّ المؤمنون العاقلون ألسنتهم عن الخوض في أعراض الناس صيانة لحسناتهم؛ وإرضاءً لربهم؛ ولو كانوا فاعلين لأهدوها لمن يحبون.
قال ابن المبارك: "لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والديّ لأنهما أحق بحسناتي".
ثم اعلموا أن السامع للغيبة مع قدرته على الذبَّ عن عرض إخوانه ولم يفعل؛ شريك للمغتاب في الإثم؛ مفوِّتٌ على نفسه ثوابا عظيماً قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة))([4]).
وسمعك صُنْ عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن القول به
فإنك عند استماع القبيح ... شريك لقائله فانتبه
([1]) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء (ص: 159)
([2]) أخرجه: مسلم 8/ 10 (2564) (32).
([3]) رواه مسلم (2581).
([4]) أخرجه الترمذي (1931) وأحمد (27543) وقال محققو المسند: حسن لغيره.
المرفقات
1671130256_لا تكن ككلب الصيد عن الغيبة.docx