لا تقدموا بين يدي الله ورسوله
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1434/02/21 - 2013/01/03 07:01AM
[لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ]
22/2/1434
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ؛ أَتْقَنَ مَا صَنَعَ، وَأَحْكَمَ مَا شَرَعَ، وَأَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، نَحْمَدُهُ عَلَى هِدَايَتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى رِعَايَتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ لاَ حُكْمَ لِأَحَدٍ مَعَ حُكْمِهِ، وَلاَ أَمْرَ بَعْدَ أَمْرِهِ، تَفَرَّدَ بِالخَلْقِ فَكَانَ لَهُ الحُكْمُ؛ [أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {الأعراف:54}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ إِمَامُ المُرْسَلِينَ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى؛ [مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ] {النساء:80}، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَسْلِمُوا لِأَمْرِهِ، وَتَمَسَّكُوا بِحَبْلِهِ، وَالْتَزِمُوا دِينَهُ، وَاسْلُكُوا سَبِيلَهُ، وَجَانِبُوا سُبُلَ الأَهْوَاءِ؛ فَإِنَّهَا تَسِيرُ بِأَصْحَابِهَا إِلَى الضَّلاَلِ وَالانْحِرَافِ، وَتَهْوِي بِهِمْ إِلَى الهَلاَكِ وَالعَذَابِ؛ [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {الأنعام:153}.
أَيُّهَا النَّاسُ: لَنْ يُعَظِّمَ اللهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يُعَظِّمْ أَمْرَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَنْ يُوَقِّرَهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ شَرِيعَتَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَنْ يَقْدُرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ لاَ يَسْتَسْلِمْ لِحُكْمِهِ، وَلاَ يَخْضَعُ لِشَرْعِهِ، وَمَنْ حَكَّمَ أَهْوَاءَ النَّاسِ عَلَى الشَّرْعِ فَهُوَ جَاهِلٌ بِرَبِّهِ، مُزْرٍ بِعَقْلِهِ، مُغْتَرٌّ بِبَشَرٍ مِثْلِهِ، وَأَنَّى لِمُقَارَنَةِ شَرْعِ الخَالِقِ بِهَوَى المَخْلُوقِ، كَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الرَّبِّ وَالعَبْدِ، تَعَالَى رَبُّنَا عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَكُلُّ تَقَدُّمٍ بَيْنَ يَدِيِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مِنَ الاسْتِهَانَةِ بِاللهِ تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِذَا نَهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنْهُ؛ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {الحجرات:1}، قَالَ العَلاَّمَةُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ العَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ تَعَالَى {لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} أَصْلٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيجَابِ اتِّبَاعِهِ، وَالاقْتِدَاءِ بِهِ.
وَهَذِهِ الآيَةُ العَظِيمَةُ نَزَلَتْ فِي إِثْرِ مُنَاقَشَةٍ جَرَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلاَفِي، قَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {الحجرات:1}؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ، قَالَ التَّابِعِيُّ الجَلِيلُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: كَادَ الخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
وَهَذَا القَوْلُ مِنَ هَذَا التَّابِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى خُطُورَةِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ لِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَى رَسُولِ اللهِ تَقَدُّمٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالتَّقَدُّمُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ إِشْرَاكٌ لِغَيْرِهِ مَعَهُ فِي حُكْمِهِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ [وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا] {الكهف:26}، وَنَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ آيَاتٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ نَحْوَ: [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ] {النساء:59}، [إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لله] {الأنعام:57}، [وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله] {الشُّورى:10}.
إِنَّ الْكَبِيرَ فِي قَومِهِ يَكْرَهُ تَقَدُّمَهُمْ عَلَيهِ، وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْاِسْتِخْفافِ بِهِ؛ فَالْأَميرُ يَرْفُضُ تَقَدُّمُ رَعِيَّتِهِ عَلَيهِ، وَالْمُدِيرُ يَأْبَى تَقَدُّمَ مُوَظَّفِيهِ عَلَيهِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ لَا يَقْبَلُ تَقَدُّمَ أهْلِ وَلاَيَتِهِ عَلَيهِ، هَذَا فِي الْمَخْلُوقِ مَعَ الْمَخْلُوقِ، فَكَيفَ بِالْمَخْلُوقِ مَعَ خَالِقِهِ سُبْحَانَه وَتَعَالَى؟!
إِنَّه أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْمَلاَئِكَةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَه [لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ]{ الْأنبياءَ : 27 } وَيا لَهُ مِنْ شَرَفٍ عَظِيمٍ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِمَا اتَّصَفَ بِهِ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فَيَمْتَثِلُوا .
فَلَا يَسْبِقُ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إلَهَهُ سُبْحَانَهُ فِي أَمْرٍّ أَوْ نَهْيٍ، وَلَا يَفْتَاتُ عَلَيهِ فِي قَضَاءٍ أَوْ حُكْمٍ، وَلَا يَتَجَاوَزُ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَمَا يَنْهَى عَنْه، وَلَا يَجْعَلُ لَنَفْسِهِ إِرَادَةً أَوْ رَأْيًا مَعَ خَالِقِهِ؛ تَقْوَىً مِنْهُ وَخَشْيَةً، وَحَيَاءً مِنْهُ وَأَدَبَا.
قَالَ ابْنُ الْقِيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَعْجَلُوا بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ أَوْ يَفْعَلَ ... أَيْ: لَا تَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ، وَلَا تَفْعَلُوا حَتَّى يَأْمُرَ... وَالتَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَي سُنَّتِهِ بَعْدَ وفاتِهِ، كَالْتَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي حَيَّاتِهِ.
وَلِلْسَلَفِ أحْوَالٌ عَجِيبَةٌ فِي الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي التَّأَدُّبِ مَعَ حَديثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وَالْاِسْتِسْلامِ لَهُ، وَعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ فِيه .
كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لَا يَرَى التَّمَتُّعَ فِي الْحَجِّ، ويرى أنَّ مَنْ أَحَلَّ التَّحَلُّلَ الْأَوْلَ لَا يَحِلُّ لَهُ الطَّيبُ، وَخَفِيَ عَلَيه فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ وَحَفِيدُهُ سَالِمٌ يَقُولَانِ بِخِلاَفِ قَوْلِ أَبِيهِمَا عُمَرَ؛ لئلا يُقَدِّمَا عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ قَوْلَ أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ أَبَاهُمَا، وَلَوْ كَانَ عُمَرَ الَّذِي يَجْرِي الْحَقُّ عَلَى لِسَانِهِ، وَيَفِرُّ الشَّيْطَانُ مِنْ أَمَامِهِ؛ حَتَّى قَالَ حَفِيدُهُ سَالِمٌ:"فَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ نَأْخُذَ بِهَا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ"رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَحَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِحَديثٍ فَأَورَدَ عَلَيهِ رَجُلٌ أَمْثِلَةً مُتَكَلَّفَةً فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ «يَا ابْنَ أَخِي، إِذَا سَمِعْتَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَضْرِبْ لَهُ مَثَلًا»رواه التِّرْمِذِيَّ .
وَحَدَّثَ ابْنُ عُمَرَ بِحَديثِ عَدَمِ مَنْعِ النِّساءِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إِنْ أَرَدْنَ الصَّلاَةَ فِيهَا، فَقَالَ ابْنُهُ بِلَالٌ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، قَالَ سَالِمُ: فَأَقْبَلَ عَلَيه عَبْدُ اللهِ: فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سمعتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ وَقَالَ:"أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ"رواه مُسْلِمَ .
وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِ الصَّحَابَةِ فِي تَوْقِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وَتَعْظِيمِ أَقْوَالِهِ أَنَّهُم يَكْرَهُونَ أَنْ يُقْرَنَ بِقَولِهِ قَوْلُ غَيرِهِ مِنَ النَّاسِ وَلَوْ كَانَ قَولاً صَحِيحًا، حَدَّثَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ:«الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلّا بِخَيْرٍ» فَقَالَ بُشَيْرُ ابْنُ كَعْبٍ:"مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً" فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ:«أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ»رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَا تَخَافُونَ أَنْ تُعَذَّبُوا أَوْ يُخْسَفَ بِكُمْ أَنْ تَقُولُوا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وَقَالَ فُلاَنٌ.
قَارِنُوا هَذَا بِحَالِ زَنَادِقَةِ الْعَصْرِ وَهُمْ يَتَعَقَّبُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وَيَرُدُّونَ قَوْلَهُ، وَدَعَا بَعْضُهُمْ إِلَى تَصْحِيحِ دِينِهِ، عَامِلَهُمْ اللهِ تَعَالَى بِمَا يَسْتَحِقُّونَ هُمْ وَمِنْ وَراءَهُمْ.
هَذَا؛ وَسَبَبُ تَعْظِيمِ الصَّحَابَةِ لِقَولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وَكَرَاهِيَتِهِمْ أَنْ يُقْرَنَ قَوْلُ غَيرِهِ مِنْ النَّاسِ بِقَوْلِهِ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًا، وَأَمَا غَيرُهُ فَيَقُولُ حَقًا وَبَاطِلًا، وَصَوَابًا وَخَطَأً، قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إلّا وَحْي يُوحَى ]{النَّجْمَ : 3 - 4}
وَسَارَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ الَّذِي رَسَمَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي تَعْظِيمِ السُّنَةِ، وَعَدَمِ التَّقَدُّمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ لَا فِي قَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، فَالتَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يُكْثِرُ فِيهَا الرُّكوعَ وَالسُّجُودَ فَنَهَاهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، يُعَذِّبُنِي اللهُ عَلَى الصَّلاَةِ ؟ قَالَ:"لَا، وَلَكِنْ يُعَذِّبُكَ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ".
وإِشْعَارُ الْهَدْيِّ ثَابِتٌ بِالسُّنَةِ، وَحَدَّثَ وَكِيعُ بنُ الْجرَّاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا وَرَدَ فِيه، فَقَالَ رَجُلٌ: فَإِنَّه قَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْإِشْعارُ مُثْلَةٌ، قَالَ أَبُو السَّائِبِ: فَرَأَيْتُ وَكِيعًا غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَقُولُ لَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وَتَقُولُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، مَا أَحَقَّكَ بِأَنْ تُحْبَسَ، ثُمَّ لَا تُخْرَجُ حَتَّى تَنْزِعَ عَنْ قَوْلِكَ هَذَا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَكَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى النَّاسِ: إِنَّه لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ مَعَ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ .
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَهُ مَالِكٌ بِحَديثٍ، فَأَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُوْرِدَ عَلَى الْحَديثِ إيرَادًا فَقَطَعَ مَالِكٌ قَوْلَهُ وَقَرَأَ [ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فتنةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ]{ النُّورَ : 63 }.
وَحَدَّثَ الْإمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَدِيثٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: تَأْخُذُ بِهِ يا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟ فَقَالَ: أَفِي الْكَنِيسَةِ أَنَا؟ أَوْ تَرَى عَلَى وَسَطِي زُنَّارًا؟ نَعَمَ أَقَوْلُ بِهِ، وَكُلُّ مَا بَلَغَنِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ قُلْتُ بِهِ.
وَكَانَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ يَتْرُكُونَ قَوْلَ إِمَامِهِمْ إِذَا خَالَفَ السُّنَّةَ مَعَ شَدَّةِ مَحَبَّتِهِمْ لِإمَامِهِمْ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيهِمْ مِنْهُ، وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِاِتِّبَاعِهِ وَطَرْحِ مَا خَالَفَهُ مَهْمَا كَانَ وَزْنُ قَائِلِهِ، فَفِي الْأَجْنَاسِ الرَّبَوِيَةِ جَعَلَ مَالِكٌ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ شَيئًا وَاحِدًا، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، فَسَاقَ الْمُفَسِّرُ الْقُرْطُبِيُّ قَوْلَ مَالِكٍ وَهُوَ إِمَامُهُ ثَمَّ تَعَّقَبَهُ فَقَالَ: قُلْتُ: وَإذا ثَبَتَتِ السُنَّةُ فَلَا قَوْلَ مَعَهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْضَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي تُخَالِفُ الْحَدِيثَ ثَمَّ قَالَ: فَلَعَمْرُ الله لَهَدْمُ أَلْفِ قَاعِدَةٍ لَمْ يُؤَصَّلْهَا اللهُ وَرَسُولُهُ أَفْرَضُ عَلَينَا مِنْ رَدِّ حَدِيثٍ وَاحِدٍ.
فَهَؤُلَاءِ أئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، يَطْرَحُونَ أَقْوَالَ الرِّجَّالِ الْأَعْلاَمِ لِأَجْلِ السُّنَةِ، وَيُعَظِّمُونَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلَهُ، وَيُعْظِمُونَ التَّقَدُّمَ عَلَيهِ لِلْنَهْيِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا النَّهْيُ قَدْ ذُيِّلَ بُقولِ اللهِ تَعَالَى [وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ]{ الْحُجْرَاتِ : 1 } فَالتَّقَدُّمُ عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَيِسَ مِنَ التَّقْوَى فِي شَيْءٍ، وَاللهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِمَنْ يَفُوهُ بِذَلِكَ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَفْعَلُهُ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ بَلِيغٌ لِلْزَّجْرِ عَنِ التَّقَدُّمِ عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فِيَا لَسَعَادَةِ مَنِ امْتَثَلَ ذَلِكَ، وَيَا شَقَاءَ مَنْ عَارَضَهُ.
[ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذاً قَضَى اللهُ وَرَسُولَهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالًا مُبِينًا ] { الْأحْزَابَ : 36 }.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقَوْا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوه [ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ] { آلَ عُمْرَانُ : 131 - 132 }.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: دَلَّتِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ مِنْ الْكُتَّابِ وَالسُّنَةِ، ثَمَّ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِيْنَ، وَالْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقَيْنَ عَلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَعَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ خَطَرٌ كَبِيرٌ يُؤَدِّي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْفِتْنَةِ وَتَرْكِ الدِّينِ، وَإِبْدَالِ غَيرِهِ بِهِ .
وَدَلَّتْ دَلَائِلُ الْوَاقِعِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقَعُونَ فِي هَذِهِ الْكَبِيرَةِ مِنْ الذُّنُوبِ، بِسَبَبِ الْجَهْلِ أَوِ الْهَوَى. وَالْإعْلاَمُ الْمُنْحَرِفُ الَّذِي تَشَرَّبَ النِّفَاقَ حَتَّى تَخْمَّرَ بِهِ يُجَرِّئُ النَّاسَ عَلَى هَذَا الْحِمَى الْعَظِيمِ لِلْشَرِيعَةِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى رَدِّ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَةِ، وَيُعَلِّمُهُمْ التَّقَدُّمَ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؛ حَتَّى صَارَتِ الْوَاجِبَاتُ وَالْمُحَرْمَاتُ أُلْعُوبَةً يَتَقَاذَفُهَا الْمُنَافِقُونَ وَالسُّفَهَاءُ عَبْرَ الصُّحُفِ وَالْفَضَاءِ؛ فَيُحِلُّونَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَيُسْقِطُونَ الْوَاجِبَاتِ، بِمَحْضِ الْأَمْزِجَةِ وَالْأَهْوَاءِ .
وَيُرْهِبُونَ مَنْ يَرُدُّ النَّاسَ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ بِمُصْطَلَحَاتٍ مُحْدَثَةٍ كَالْتَّشَدُّدِ وَالْاِنْغِلَاقِ وَالتَّطَرُّفِ وَالْإِرْهَابِ، وَيُسَوِّغُونَ أَفْعَالَهُمُ الشَّنِيعَةَ بِتَغَيُّرِ الزَّمانِ، وَلُزُومِ تَجْدِيدِ الْإِسْلامِ، وَكَأَنْ خَالِقَ الزَّمانِ الْأَوْلِ لَيِسَ هُوَ خَالِقَ الزَّمانِ الْحاضِرِ!!
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِتَطْوِيعِ الْإِسْلامِ لِلِيبرَالِيَّةِ الْغَرْبِ الزَّائِفَةِ الزَّائِلَةِ، وَهِيَ الْفِكْرَةُ الَّتِي تَتَرَنَّحُ وَلَمَّا تُبْلَغْ رُبُعَ عُمْرِ الْإِسْلامِ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْبَقاءَ إِلَى آخِرِ الزَّمانِ.
لَقَدْ رَأَينَا فِي هَذَا الزَّمَنِ مَنْ يَرْفُضُ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ يُنَاضِلُ ضِدَ تَحْكِيمِهَا، وَمَنْ يُسَوِّدُ الصُّحُفَ بِالتَّحْذِيرِ مِنْهَا، وَمَنْ يَنْبُزُهَا بِالْظَّلَامِيَّةِ وَالْاِنْغِلاقِ. وَرَأَيْنَا عَمَائِمَ مُنْتَسِبَةً لِلْعِلْمِ وَالدَّعْوَةِ تَنْقُضُّ عُرَى الشَّرِيعَةِ عُرْوَةً عُرْوَةً؛ إِرْضاءً لِلْبَشَرِ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَقَرَأْنَا لِأَسَافِلِ النَّاسِ وَهُمْ يَتَمَنْدَلُونَ بِالشَّرِيعَةِ، وَيَرُدُّونَ السُنَّةَ. وَكُلُّ أُولَئِكَ يُنْسَبُونَ لِلْإِسْلَامِ، وَيَدَّعُونَ الْإيمَانَ، وَهَمَّ يَرْفُضُونَهُ دَاعِينَ إِلَى شَرَائِعِ الطَّاغُوتِ.
وَرَأَينَا بَعْضَ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْفِكْرِ وَالثَّقَافَةِ يَجْعَلُونَ سِيادَةَ الْبَشَرِ فَوْقَ سِيَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيَتَقَدَّمُونَ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهُ فَيُقَدِّمُونَ أَقْوَالَ فُقَهَاءِ الْقَانُونِ الْوَضْعِيِّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ وَأَقْوَالِ فُقَهَاءِ الشَّرْعِ، وَيَطَّرِحُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْوَحْيُ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيبِ، وَالْمُبْتَدَإِ وَالْمُنْتَهَى، وَيَلْهَثُونَ خَلْفَ أَفْكَارِ الْفَلاَسِفَةِ وَالْمَلاَحِدَةِ، وَتَحْلِيلَاتِ الْمَهْوُوسِينَ بِأُحْفُورَاتِ الْمَغَارَاتِ وَرُسُومِ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ؛ فِيَا خَيْبَةَ الْأَعْمَارِ الَّتِي تَضِيعُ فِي الْوَهْمِ وَالظَّنِّ حِينَ تَرَكَتِ الْيَقِينَ وَالْوَحْيَ .. أُولَئِكَ قَوْمٌ شَقُوا فِي غَيرِ مَا طَائِلٍ، وَشَقَاءُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى، نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ الْخِذْلاَنِ، وَمِنَ التَّقَدُّمِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَالْمُوافاةَ عَلَى السُّنَةِ..
وَصَلُوا وَسَلَّمَوا ...
المرفقات
لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ مشكولة.doc
لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ مشكولة.doc
لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ.doc
لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ.doc
المشاهدات 5578 | التعليقات 5
أجدت وأفدت نفعنا الله بك وغفر لنا ولك
الأخوان الكريمان شبيب وأبا عمر: شكر الله تعالى لكما مروركما وتعليقكما على الخطبة وأسأل الله تعالى أن ينفع بكما ويجزيكما خيرا..
اختيار موفق وموضوع مميز وكلام مؤثر جزاك الله كل خير
شكر الله تعالى لك شيخ منديل الفقيه مرورك وتعليبقك على الخطبة وأسأل الله تعالى أن ينفع بك.. اللهم آمين.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق