لا إِجْبَارَ بِالزَّوَاجِ – سُنَّة نَبَوِيَّةٌ مع بَوَاكِيرِ النَّخِيْلِ
راشد بن عبد الرحمن البداح
الحَمْدُ للهِ الْوَهَّابِ الَّذِي يَجُودُ بِالْعَطَاءِ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِ استِثَابَةٍ. الحَمْدُ للهِ الرَّزَّاقِ: الْقَائِمِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا يُقِيمُهَا مِنْ قُوتِهَا، الحَمْدُ للهِ الْفَتَّاحِ: الَّذِي يَفْتَحُ الْمُنْغَلِقَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ أُمُورِهِمْ دِينًا وَدُنْيَا. الحَمْدُ للهِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ، لَا مُذِلَّ لِمَنْ أَعَزَّهُ، وَلَا مُعِزَّ لِمَنْ أَذَلَّهُ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، صاحِبِ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ، والمَبْعُوثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَقَامًا مَحْمُودًا، يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، فاللهم اجْمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ([1])، آمينَ، أمَّا بَعْدُ:
فَالتَّقْوَى التَّقْوَى؛ فَإِنَّ أَجْسَادَنَا عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
إِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَصْلُحْ إِلَّا بِصَلَاحِ الْبُيُوتِ، وَلَا تَصْلُحُ الْبُيُوتَ إِلَّا بِصَلَاحِ الزَّوْجَيْنِ وَاِسْتِقَامَتِهِمَا عَلَى أَمْرِ اللهِ، وَحِفْظِ كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا لِحُقوقِ الْآخِرِ.
وَمَتَى أُهْمِلَتْ هَذِهِ الْحُقوقُ فَلَابُدَّ أَنْ تَشْقَى الْبُيُوتُ، وَيَحُلُّ بِالْأُمَّةِ التَّفَكُّكُ، وَحِينَهَا نَفْقِدُ مَا شَرَعِهِ اللهَ –سُبْحَانَهُ- مِنَ الْمَقَاصِدِ الْعُظْمَى لِلزَّوَاجِ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. يَتَفَكَّرُونَ فِي هَذَا الزَّوَاجِ الَّذِي جَعَلِهِ اللهَ سَكَنًا وَمَوَدَّةً وَمَحَبَّةً وَرَحْمَةً.
أَلَمْ تَرُوا إِلَى الْفَتَاةِ تَكُونُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا لَا تُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْهُ، ثُمَّ مَا إنْ تَدْخُلُ بَيْتَ زَوْجِهَا وَتَبْدَأُ بَيْنَهُمَا الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ، حَتَّى يَكُونَ هَذَا الْعِشُّ الْجَدِيدُ السَّعِيدُ أَحَبَّ إِلَيْهَا مِنْ بَيْتِ أَبِيهَا.
وَثَمَّتَ خَطَأٌ مِنْ بَعْضِ الْخَاطِبِينَ وَأَوْلِيَاءِ الْمَخْطُوبَةِ، إِنَّهُ خَطَأٌ يَدَعُ الْبُيُوتُ جَحِيمًا لَا يُطَاقُ، وَتَنْقَلِبُ السَّكِينَةُ إِلَى قَلَقٍ دَائِمٍ، وَتَنْتَهِي غَالِبًا بِالْقَطِيعَةِ ثُمَّ بالطَّلَاَقِ. إِنَّهُ إِجْبَارُ الْبِنْتِ عَلَى الزَّوَاجِ بِمَنْ لَا تُرِيدُهُ.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ e فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَخَيَّرَهَا([2]).«ورَدَّ نِكَاحَهُ»([3]).
ألَمْ يَسْمَعُوا أنَّهُ جَاءَتْ فَتَاةٌ إِلَى النَّبِيِّ e فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِيْ زَوَّجَنِيْ ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِيَ خَسِيسَتَهُ! [كمَنْ يُزوِّجَها؛ ليُسَدِّدَ دَيْنًا عليِه] فَجَعَلَ e الأَمْرَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الآبَاءِ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ([4]).
ألَمْ يَبْلْغُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ: لاَ تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: «أَنْ تَسْكُتَ»([5]).
هذهِ ثَلاثةُ أحاديثُ مُرهِّبةٌ، وإليكُمْ ثَلاثةَ أقوالٍ للعُلماءِ مُؤكِّدةٍ:
قالَ ابنُ القيِّم –رحمهُ اللهُ-: (لَا تُجْبَرُ الْبِكْرُ الْبَالِغُ عَلَى النِّكَاحِ، وَلَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا..وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ، وَلَا نَعْتَقِدُ سِوَاهُ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ e وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَقَوَاعِدِ شَرِيعَتِهِ، وَمَصَالِحِ أُمَّتِهِ)([6]).
وقال ابن حجر – رحمه الله -: (فالْبِكْرَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، ولَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا أَمَرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَلَا يُجْبِرُهَا فَإِذَا..أَعْلَنَتْ بِالْمَنْعِ لَمْ يَجُزِ النِّكَاحُ)([7]).
وقالَ شيخُنا ابنُ عُثيمينَ –رحمه الله-: (لو أُكْرِهَتِ البنتُ على أن تَتزوَّجَ مَن لا تُريدُ فإن النكاحَ باطلٌ، حتى لو كانَ أباها..وما يَفعلُهُ بعضُ الباديةِ يَحبِسُ ابنتَهُ على كثرةِ ما يُعطَى منَ الأموالِ فقد خانَ أمانَتُه، وسَقطتْ ولايتُه، وفَعَلَ إثماً مبيناً -والعياذُ بالله-ِ، ولن تُغنيَهُ الدُنيا عنِ الآخرةِ)([8]).
فَاِتَّقَوْا اللهَ أَيُّهَا الْآبَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ: لَا تُحَطِّمُوا مُستْقْبَلَ بنَاتِكُمْ، فَإِنْ كَانَ مَرْضِيَّ الدِّيْنِ والخُلُقِ فرَفَضَتْه فَالْإقْنَاعُ لَا غَيْرَ، بِلَا إِجْبَارٍ.
الحمدُ للهِ وكفَى، وصلاةً وسلامًا على النبيِ المُصطفًى، وعلى آلهِ وصحبِهِ ومَنِ اقتفَى، أما بعد: فمِنَ التَّبَاشِيرِ الْمُفْرِحَاتِ الْمُؤْنِسَاتِ هَذِهِ الْأيَّامُ: بَدْءُ ظُهورِ بَوَاكِيرِ ثِمَارِ النَّخِيلِ، وَبَعْضِ الْفَوَاكِهِ. وَهِي لِمُحْتَرِفِي الزَّرَّاعَةِ مِنَ الْحَسْنَاتِ الْجَارِيَاتِ، يُهْدُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَمَا أَكَلَ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ فَإِنَّهُمْ يُؤْجَرُونَ.
وَالزِّرَاعَةُ قَدْ رَأَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا أَعْظُمُ الرِّزْقِ الْحَلَالَ؛ لِأَنَّهَا مَنْ عَمَلِ الْيَدِ، وَالمُزارِعُ أعْظَمُ تَوَكُّلًا، مِنْ حِينَ بدِئهَا فَسِيلَةً، إِلَى أَنْ تَصِيْرَ مُثْمِرةً سَالِمَةً مَنِ الآفَاتِ. وَمِنْ جَمِيلِ عِبَارَاتِ الْعَوَامِّ: حَبٍّ تَحْتَ رَبٍّ.
وَثَمَّتَ سُنَّتَانِ نَبَوِيَّتَانِ تُشْرَعَانِ لِمَنْ رَأىَ البَاكُورةَ مِن أوَّلِ ثَمَرِ مَزْرَعَتِهِ:
الدُّعَاءُ، وإعْطَاءُ أَصْغَرِ الأَطْفَالِ. ففِي صَحيحِ مُسْلِمٍ أنَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاؤُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ e، فَإِذَا أَخَذَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا. ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ من يَحضُره من الولدان، فَيُعْطِيْهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ([9]). [ورُوِيَ أنَّه يَقُولُ: "اللَّهُمَّ كمَا أريْتَنا أوّلَهُ فأرِنا آخِرَهُ]([10]). فَعَلَهُ e تَفَاؤُلاً بِنُمُوِّ الثَّمَرَةِ، وزِيَادَتِهَا، بأنْ يَدْفَعَهَا إلى مَنْ هُوَ في سِنِّ النَّمَاءِ([11]). وفيهِ مُلَاطَفَةٌ للصِّغَارِ، وإنَّ إدْخَالَ الْمَسَرَّةِ عَلَى مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ أَعْظَمُ مِنْ سُرُورِ الْكَبِيرِ([12]).
ومَنْ أُهْدِيَ لهُ ثَمَرٌ أوْ خَرَافٌ فَليَقُلْ: بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ، ولِيَقُلِ المُهدِيْ كَمَا كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: وَفِيهِمْ بَارَكَ اللهُ. تَقولُ: نَرُدُّ عَلَيْهِمْ مِثْلَ مَا قَالُوا، وَيَبْقَى أَجْرُنَا لَنَا([13]).
اللّهُمّ أَنْتَ ثِقَتُنا، وَأَنْتَ رَجَاؤنَا. عَزّ جَارُكَ، وَجَلّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ.
اللّهُمّ بِكَ انْتَشَرْنا وَإِلَيْكَ تَوَجّهْنا، وَبِكَ اعْتَصَمْنا، وَعَلَيْكَ تَوَكّلْنا.
اللّهُمّ اكْفِنا مَا أَهَمّنا، وَمَا لَا نهْتَمُّ لَهُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّا. وَوَجِّهْنا لِلْخَيْرِ أَيْنَمَا تَوَجّهْنا.
اللهم احفظْ أمنَنا واستقرارَنا. اللهم احفَظْ ثرواتِنا وثمراتِنا، واقتصادَنا وعتادَنا.
اللهم إنا نعوذ بك من الغلاء والوباء، اللهم يا من قدرت كورونا بقدرتك اللهم فارفعها برحمتك.
اللهم وفَّقْ وليَّ أمرِنا ووليَّ عهدِه لما تحبُّ وترضَى، وخُذْ بناصيتِهِما للبرِّ والتقوى.
اللهم احفظ جنودَنا في حدودنا وتفتيشاتنا ومستشفياتنا، وأيِّدْهُم بتأييدِكَ.
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ. وأقمِ الصلاةَ إنَّ الصلاةَ تَنهَى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ، ولَذِكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعونَ.
([1])الاعتقاد للبيهقي (ص: 59 و32)
([2])صححه ابن القطان، وحسنه ابن القيم. قال ابن حجر في فتح الباري (9/ 196)وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ ..وطُرُقُهُ يَقْوَى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ
([6])زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 88)
([7])فتح الباري لابن حجر (9/ 194)
([10])الأذكار النووية للإمام النووي (1/ 392) وما بين المعقوفين عند ابن السني.
([11])إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 492)
المرفقات
لا-إجبار-بالزواج-بواكير-النخيل
لا-إجبار-بالزواج-بواكير-النخيل
لا-إجبار-بالزواج-بواكير-النخيل-2
لا-إجبار-بالزواج-بواكير-النخيل-2