لا أمن في الأرض إلا بالعدل

لا أمن في الأرض إلا بالعدل
8/2/1437
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؛ خَلَقَ الْبَشَرَ فَجَعَلَ بِالْعَدْلِ أَمْنَهُمْ، وَجَعَلَ الظُّلْمَ سَبَبًا لِخَوْفِهِمْ؛ فَبِالْعَدْلِ يَأْمَنُ الضُّعَفَاءُ، وَبِالظُّلْمِ يَخَافُ الْأَقْوِيَاءُ ﴿سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:62]، نَحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْمَدَ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى هِدَايَةٍ مَنَحَهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَنِعْمَةٍ أَتَمَّهَا، وَشَرِيعَةٍ أَكْمَلَهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود:102]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى بِشَرِيعَةٍ كُلُّهَا عَدْلٌ وَرَحَمْةَ؛ٌ لِيُقِيمَ بِهَا الْعَدْلَ، وَيَمْنَعَ الظُّلْمَ، وَيُشِيعَ الْأَمْنَ، وَيُزِيلَ أَسْبَابَ الْخَوْفِ؛ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَنَصَحَ الْأُمَّةَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِلُزُومِ التَّقْوَى، وَالِاسْتِمْسَاكِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، فَرَاجِعُوا دِينَكُمْ، وَزِيدُوا إِيمَانَكُمْ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [لقمان:22].
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي عَالَمٍ يَمُوجُ بِالْفِتَنِ وَالمِحَنِ وَالِاضْطِرَابَاتِ، وَيُصْبِحُ وَيُمْسِي عَلَى مَنَاظِرِ الدِّمَاءِ وَالْأَشْلَاءِ وَالتَّفْجِيرَاتِ؛ يَبْحَثُ الْعُقَلَاءِ عَنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَالْخَلَاصِ، وَيَتَلَمَّسُونَ طُرُقَ الْهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ؛ لِيَهْتَدُوا بِهَا، وَيَدُلُّوا غَيْرَهُمْ عَلَيْهَا.
وَالْأَمْنُ ضَرُورَةُ الضَّرُورَاتِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسَ الَّتِي اتَّفَقَتْ كُلُّ الشَّرَائِعِ الرَّبَّانِيَّةِ عَلَى حِفْظِهَا، وَهِيَ الدِّينُ وَالنَّفْسُ وَالْعَقْلُ وَالْعِرْضُ وَالمَالُ، لَا تُحْفَظُ إِلَّا بِالْأَمْنِ:
فَإِذَا اخْتَلَّ الْأَمْنُ لَمْ يُمْكِنْ لِلنَّاسِ إِظْهَارُ الشَّعَائِرِ، وَلَا تَطْبِيقُ الشَّرَائِعِ. وَلمَّا نَشَرَ التَّتَارُ الْهَلَعَ فِي بَغْدَادَ تَعَطَّلَتِ الْجُمَعُ وَالْجَمَاعَاتُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَإِذَا اخْتَلَّ الْأَمْنُ أُزْهِقَتِ النُّفُوسُ بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ، بَلْ بِالمَجَّانِ، وَعَمَّتِ الْفَوْضَى، وَاسْتَوْحَشَ النَّاسُ، فَلَا يَدْرِي الْقَاتِلُ لِمَ قَتَلَ، وَلَا المَقْتُولُ لِمَ قُتِلَ.
وَإِذَا اخْتَلَّ الْأَمْنُ ذَهَبَتِ الْعُقُولُ إِمَّا عَلَى الدَّوَامِ، وَإِمَّا إِلَى عَوْدَةِ الْأَمْنِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَحْتَمِلُ مَنَاظِرَ الدِّمَاءِ وَالْأَشْلَاءِ، وَيُصْبِحُ وَيُمْسِي عَلَى الْقَتْلِ، وَفِي مَوَاطِنِ النِّزَاعِ فَقَدَ أُنَاسٌ عُقُولَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا الضَّعَفَةُ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ. وَفِي دَوَّامَةِ الْخَوْفِ لَا عَقْلَ لِعَاقِلٍ، بَلِ الْحِيرَةُ وَالدَّهْشَةُ وَسُوءُ التَّصَرُّفِ تَضْرِبُ أَعْقَلَ الرِّجَالِ حَتَّى تَدْفَعَهُمْ إِلَى مَا لَا يُرِيدُونَ.
وَإِذَا اخْتَلَّ الْأَمْنُ عَدَا اللُّصُوصُ عَلَى الْأَعْرَاضِ فَانْتَهَكُوهَا؛ لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ يَحْمِيهَا أَوْ يَنْتَصِرُ لَهَا، وَعَلَى الْأَمْوَالِ فَانْتَهَبُوهَا؛ لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ يَحْرُسُهَا وَيُحْرِزُهَا.
وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْنَ ضَرُورَةٌ لِلْبَشَرِ لمَا كَانَ ذِكْرُهُ مُلَازِمًا لِقِصَّةِ هُبُوطِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ وَهُوَ أَوَّلُ الْبَشَرِ ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [الأعراف:24]، وَلَا تَكُونُ الْأَرْضُ مُسْتَقَرًّا لِلْبَشَرِ إِلَّا بِأَمْنٍ فِيهَا؛ وَلِذَا فَإِنَّ النَّاسَ يُهَاجِرُونَ مِنَ الْأَرْضِ المَخُوفَةِ إِلَى أَرْضٍ آمِنَةٍ تَارِكِينَ دُورَهُمْ وَمَزَارِعَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ؛ حِفْظًا لِأَرْوَاحِهِمْ.
وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْنَ ضَرُورَةٌ لِلْبَشَرِ لمَا بُشِّرَ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي مَقَامِ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ [النمل:89]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء:103].
وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْنَ ضَرُورَةٌ لِلْبَشَرِ لمَا أَغْرَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَجَعَلَهُ مِنْ أَرْكَانِ نَعِيمِهِمْ فِيهَا ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ [الدُخان:51]، أَيْ: مَقَامٍ آمْنٍ لَا خَوْفَ فِيهِ.
وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْنَ ضَرُورَةٌ لِلْبَشَرِ لمَا كَانَ هُوَ أَوَّلَ نَعِيمٍ يُبَشَّرُونَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر:46]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾ [الدُخان:55]، وَفِي ثَالِثَةٍ ﴿وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ:37]، فَهَذَا التَّكْرَارُ فِي ذِكْرِ أَمْنِ المُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَعْدَ دُخُولِهِ الْجَنَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْأَمْنِ لِلنَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَنَّهُ أَعْلَى مَطْلُوبِهَا، وَأَشَدُّ مَرْغُوبِهَا، وَخَسَارَتُهُ لَا يُعَوِّضُهَا شَيْءٌ.
وَالْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ مُرْتَهَنٌ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، لَكِنَّهُ فِي الدُّنْيَا مُرْتَهَنٌ بِالْعَدْلِ، فَلَا أَمْنَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا بِعَدْلٍ، وَعَلَى الظَّالِمِ تَدُورُ الدَّوَائِرُ.
وَلِأَنَّهُ لَا أَمْنَ إِلَّا بِعَدْلٍ كَانَ الْعَدْلُ فِي الشَّرَائِعِ الرَّبَّانِيَّةِ قِيمَةً مُطْلَقَةً مَأْمُورًا بِهَا بِلَا اسْتِثْنَاءٍ ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ [النحل:90]، وَكَانَ النَّهْيُ عَنِ الظُّلْمِ قِيمَةً مُطْلَقَةً بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ فِي الظُّلْمِ مِنْ قَوْلِ اللَّـهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَارْتِبَاطُ الْأَمْنِ بِالْعَدْلِ، وَالْخَوْفِ بِالظُّلْمِ بَاتَ مَعْرُوفًا لَدَى النَّاسِ أَفْرَادًا وَدُوَلُا وَأُمَمًا، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ تَجَارِبُ الْبَشَرِ الثَّرِيَّةِ فِي تَارِيخٍ طَوِيلٍ مِنَ الْحُرُوبِ وَالنِّزَاعَاتِ وَالِاضْطِرَابَاتِ وَالِاتِّفَاقَاتِ، فَحَيْثُ وُجِدَ الْعَدْلُ يَحِلُّ الْأَمْنُ، وَحَيْثُ وُجِدَ الظُّلْمُ يَحِلُّ الْخَوْفُ، وَلمَّا جِيءَ بِمَلِكِ الْأَهْوَازِ الْهُرْمُزَانَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَرَآهُ نَائِمًا وَحْدَهُ قَالَ قَوْلَتَهُ المَشْهُورَةَ: عَدَلْتَ فَأَمِنْتَ فَنِمْتَ.
إِنَّ كَوْنَ الْعَدْلِ فِي الْإِسْلَامِ قِيمَةً مُطْلَقَةً لَا يَجْرِي عَلَيْهَا أَيُّ اسْتِثْنَاءٍ، يَعْنِي: تَحْرِيمَ ظُلْمِ أَيِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُؤْمِنًا كَانَ أَمْ كَافِرًا، بَرًّا كَانَ أَمْ فَاجِرًا، وَلَا يَجُوزُ لِعَالِمٍ عَابِدٍ قَانِتٍ صَالِحٍ أَنْ يَظْلِمَ مُشْرِكًا فَاجِرًا دَاعِرًا؛ فَلَا يَسْتَبِيحُ دَمَهُ أَوْ مَالَهُ بِلَا حَقٍّ. وَهَذَا مِنْ مَعَانِي كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107] فَإِنَّهُ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ تَأْمُرُ بِالْعَدْلِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ، وَتَنْهَى عَنْ ظُلْمِ أَيِّ أَحَدٍ. وَهَذَا يُحَتِّمُ عَلَى المُؤْمِنِ لُزُومَ الْعَدْلِ، وَاجْتِنَابَ الظُّلْمِ، وَتَعْظِيمَ مَا عَظَّمَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الدِّمَاءِ فَلَا يَسْفِكُهَا إِلَّا بِحَقٍّ، وَالْأَمْوَالِ فَلَا يُتْلِفُهَا إِلَّا بِالْحَقِّ.
إِنَّ الْبَشَرِيَّةَ لَمْ تَنْعَمْ بِالْأَمْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ مُنْتَشِرٌ فِيهَا، وَيَزْدَادُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَبِازْدِيَادِ الظُّلْمِ يَزْدَادُ الْخَوْفُ وَتَتَّسِعُ دَائِرَتُهُ.
إِنَّ عَلَى الْبَشَرِ أَنْ يَسْعَوْا جُهْدَهُمْ فِيمَا يُحَقِّقُ الْأَمْنَ، وَيَرْفَعُ الْخَوْفَ، وَذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَرَفْعِ الظُّلْمِ.
وَأَظْلَمُ الظُّلْمِ الشِّرْكُ ثُمَّ المَعَاصِي، فَمَنْ أَرَادَ الْأَمْنَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ، وَأَتَى بِالطَّاعَاتِ، وَجَانَبَ المُحَرَّمَاتِ، وَحَاذَرَ مِنْ ظُلْمِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اسْتَقْوَى عَلَى الضُّعَفَاءِ سَلَّطَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَظَلَمَهُ ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام:129].
إِنَّ عَلَى الدُّوَلِ أَنْ تَسْعَى فِي رَفْعِ الظُّلْمِ عَنِ الشُّعُوبِ المَقْهُورَةِ المَظْلُومَةِ المُشَرَّدَةِ، الَّتِي يُقْتَلُ أَفْرَادُهَا وَيُشَرَّدُونَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَإِلَّا سَوْفَ يَزْدَادُ الْعُنْفُ وَيَتَفَاقَمُ، وَتَتَّسِعُ دَائِرَتُهُ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ المَقْهُورَةَ تَنْزِعُ إِلَى الِانْتِقَامِ مِمَّنْ ظَلَمَهَا وَمِمَّنْ لَمْ يَنْتَصِرْ لَهَا.
وَإِنَّ عَلَى الْأَفْرَادِ أَنْ يَجْتَنِبُوا ظُلْمَ أَنْفُسِهِمْ بِالمَعَاصِي، وَظُلْمَ غَيْرِهِمْ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالظُّلْمَ سَبَبٌ فِي رَفْعِ الْأَمْنِ وَحُلُولِ الْخَوْفِ.
وَإِنَّ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَعْتَصِمُوا بِاللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا يَتَفَرَّقُوا، وَلَا يُفَرِّقُوا دِينَهُمْ؛ لِأَنَّ تَفْرِقَةَ الدِّينِ سَبَبٌ لِتَفْرِقَةِ الْقُلُوبِ وَتَبَاغُضِهَا، وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّنَاحُرِ وَالْفَشَلِ ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الرُّوم:31-32].
وَإِنَّ عَلَى الشَّبَابِ أَنْ يَجْتَنِبُوا مَوَاطِنَ الْفِتَنِ، وَأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ كُلِّ دَعِيٍّ يُورِدُهُمُ المَهَالِكَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَنْ يَصْدُرُوا عَنِ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وَقَدْ شَابَتْ ذَوَائِبُهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَعَرَّكَتْهُمْ تَجَارِبُ السِّنِينَ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَنَا مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ، وَأَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ الزَّلَلِ، وَأَنْ يَتَوَّفَانَا عَلَى الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ الْإِرْهَابَ الَّذِي تَضِجُّ دُوَلُ الْعَالَمِ مِنْ شَرِّهِ، وَتَتَدَاعَى لِمُحَارَبَتِهِ لَمْ يَعْرِفْهُ الْغَرْبِيُّونَ وَلَمْ يُحَدِّدُوهُ، بَلْ ظَلَّ مُصْطَلَحًا عَائِمًا مَفْتُوحًا؛ لِيُدْخِلُوا فِيهِ مَنْ أَرَادُوا وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ، وَيُخْرِجُوا مِنْهُ مَنِ اتَّصَفَ بِهِ إِذَا كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ أَوْ يُنَفِّذُ أَجِنْدَتَهُمْ.
وَلَوْ أَنَّهُ حُدِّدَ وَضُبِطَ لَدَخَلَ فِيهِ حُلَفَاؤُهُمْ مِنَ الصَّهَايِنَةِ وَالصَّفَوِيِّينَ وَالنُّصَيْرِيِّينَ الَّذِينَ يُمَارِسُونَ الْقَتْلَ وَالتَّرْوِيعَ وَالتَّفْجِيرَ كُلَّ يَوْمٍ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُوضَعْ أَحَدٌ مِنْ قَادَتِهِمْ، وَلَا تَنْظِيمٌ مِنْ تَنْظِيمَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَنْتَهِجُ الْعُنْفَ عَلَى قَوَائِمِ الْإِرْهَابِ الْغَرْبِيَّةِ.
وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ تَفْجِيرٌ هُنَا أَوْ هُنَاكَ انْبَرَتْ كَتَائِبُ المَارِينْزِ الْإِعْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ الْإِعْلَامِ الصَّفَوِيِّ الْفَارِسِيِّ، وَالْإِعْلَامِ المُمَانِعِ الْقَوْمِيِّ؛ لِيَلْصِقُوا كُلَّ حَدَثٍ بِالسَّلَفِيَّةِ، وَبِالْوَهَّابِيَّةِ خُصُوصًا وَبِمَنَاهِجِهَا وَمَسَاجِدِهَا وَدُعَاتِهَا، حَتَّى صَارَتْ أُسْطَوَانَةً مَشْرُوخَةً مَمْجُوجَةً، يَمُجُّهَا الْعَامَّةُ قَبْلَ الْخَاصَّةِ. يَخُوِّفُونَنَا مِنْ دِينِنَا وَمَنْهَجِنَا، ظَانِّينَ أَنَّ هَذِهِ النِّيَاحَةَ المُسْتَأْجَرَةَ، وَالتَّبَاكِيَ الْكَذُوبَ؛ يَصْرِفُ النَّاسَ عَنْ دِينِهِمْ وَعَقِيدَتِهِمْ. إِنْ هُوَ إِلَّا الِارْتِزَاقُ بِمَصَائِبِ النَّاسِ، وَالِاكْتِسَابُ بِرَمْيِ الْأَبْرِيَاءِ بِتُهَمٍ هُمْ أَوْلَى بِهَا. وَإِلَّا فَإِنَّ الدُّوَلَ الْإِسْلَامِيَّةَ اكْتَوَتْ بِنِيرَانِ التَّفْجِيرِ وَالتَّخْرِيبِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَنَالَتِ الْبِلَادُ الَّتِي يَصِمُونَهَا بِالْوَهَّابِيَّةِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنْهَا.
وَمَهْمَا عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ، وَأَغْرَقُوا صُحُفَهُمْ بِافْتِرَاءَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ دِينَ الْحَقِّ سَيَبْقَى، فَلَنْ يَزُولَ، وَلَنْ يَتَخَلَّى عَنْهُ أَهْلُهُ، وَلَوْ رَمَاهُمُ الْعَالَمُ كُلُّهُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ كَذَبُوا فَجَعَلُوهَ سَبَبَ كُلِّ بَلَاءٍ وَقَعَ وَيَقَعُ وَسَيَقَعُ؛ لِأَنَّهُ نُورُ اللَّـهِ تَعَالَى الَّذِي أَعْيَا السَّابِقِينَ إِطْفَاؤُهُ، كَمَا عَجَزُوا عَنْ تَحْرِيفِهِ وَتَبْدِيلِهِ، أَوْ صَرْفِ النَّاسِ عَنْهُ ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:33].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

لا أمن في الأرض إلا بالعدل-مشكولة.doc

لا أمن في الأرض إلا بالعدل-مشكولة.doc

لا أمن في الأرض إلا بالعدل.doc

لا أمن في الأرض إلا بالعدل.doc

المشاهدات 2443 | التعليقات 3

جزاك الله خيرا




إِذا اختل الأمن توقف عجلت الحياة ، بل إنها ترجع للوراء ، يتوقف البناء ويحل محله الهدم ، ويتوقف التعليم ويحل محله الجهل ، ويتوقف الإنتاج وتحل محله الديون ..

سلمت يا شيخ ابراهيم وبورك فيك وفي علمك وعملك ، وفي عقلك وقلمك ..

كعادتك وفقك الله .. خطبة رائعة وعلى الجرح ..

دمت موفقاً مسدداً مهدياً ..


شكر الله تعالى لكما مروركما
وجزيت الجنة شيخ عبد الله على تعليقك ودعائك وفقك الله تعالى لكل خير