{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} 7 / 3 / 1445هـ
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الأولى : {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} 7/3/1445هـ
الحمد لله الذي لا يبلغُ مِدحَتَه القائلون، ولا يُحصِي نعماءَه العادُّون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه و من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}
فضائلُ ربِنا علينا لا تعدُ ولا تحصى ، وجميلهُ وإحسانُه يُغدق علينا بالغدو والآصال.
لو كنتُ أعرفُ فوق الشكرِ منزلةً أعلى من الشكرِ عند اللهِ في الثمنِ
إذاً منحتكـــــــــــــــها ربي مهذبــــــةً شكراً على صنعِ ما أوليتَ من حسنٍ
أنعمَ اللهُ علينا نعماً لم تشهدِ الدنيا لها مثيلًا ، يعبدُ الإنسانُ ربَهُ آمنا ظاهراً ، ويختارُ من الطيباتِ ما لذ وطاب، ونستدفئُ من صروف الأيامِ بما تعجَزُ عن حملهِ الأجسام ..
فهل نقصنا من نعمةٍ لم تظهر آثارهُا علينا ؟، وهل في خاطرِكم فضلُ وإحسانٌ لم يمنحنا به ربنُا ؟
خَرَجَ رَسُولُ اللهِ r ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟» قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ،، قَالَ: «وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا»، فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللهِ r لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ " أخرجه مسلم
يا للهِ كم نتقلبُ بنعمٍ من الطيباتِ ، فلا تكادُ تخْمصُ بطونُنا من الجوعِ، فقد رزقنا ربُنا من الطيباتِ وفضلنا على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلا .
فأيُّ عذرٍ لنا عند ربِنا إذا لم نشكُره، وأيُّ بقاءٍ نستحقُه، إذا أنكرنا جميلَه، وآلائَه ونعمائَه تغشانا بالليلِ والنهار ، تُجبى إلينا ثمراتُ كلِ شيء ، وأرضُنا يخرجُ من أكمامِها الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ، وسهولُنا فيها جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}
استدامت علينا الطيباتُ من النعمِ حتى ملها البعضُ إذا قُدمت بين يديه، وتندرَ منها آخرون بأنها من طعامِ الأجدادِ الأولين . أولم يبلغ هؤلاءِ ما حدثت به عَائِشَةُ رضي الله عنها، بقولها: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ r وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ» استدامت أكل الشعير وما ملته أو تذمرته.
وفي صحيح مسلم قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، أَخَذَ رَسُولُ اللهِ r بِيَدِي ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى مَنْزِلِهِ ، فَلَمَّا انْتَهَى قَالَ: " هل مِنْ غَدَاءٍ أَوْ عَشَاءٍ ؟ قَالَ: فَأَخْرَجُوا فَلْقًا مِنْ خُبْزٍ، فَقَالَ: «مَا مِنْ أُدُمٍ؟» فَقَالُوا: لَا إِلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ، قَالَ: «فَإِنَّ الْخَلَّ نِعْمَ الْأُدُمُ»، قَالَ جَابِرٌ: «فَمَا زِلْتُ أُحِبُّ الْخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُهَا مِنْ نَبِيِّ اللهِ r .
كُلْ من الطيباتِ ما شئت ، واستمتعْ من بما أحل الله لك، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } ولكن من غير إسراف ولا مخيلة.
التفاخر والمباهات بتصوير المآكل والمشارب مُرآةٌ للناس منهي عنه، قال عليه الصلاةُ والسلام «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " كُلْ مَا شِئْتَ، وَالبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ، أَوْ مَخِيلَةٌ "أخرجهما البخاري.
هل شكرَ نعمة اللهِ من يرى اللقمةَ من الطعامِ ساقطةً تدوسها الأقدام فلا يرفعها ويكرمها ، وهل شكرَ نعمة الله من يأخذ أطيب الطعام ويلقي في الأرض باقيه.
كثرةُ الأطعمةِ بأصنافِها وأشكالِها لايعني عدمَ حفظِ باقيها واحترامها .. ترى ذلك جلياً في الحفلاتِ والبوفيهات، والأعراسِ والمناسبات ، وفي المطاعمِ وأسواقِ الخضار ، حين تُخلطُ باقي الأطعمةِ مع باقي النفايات {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}
قالت هندُ بنتُ المهلب: إذا رأيتمُ النعيمَ مستدرا فبادروه بالشكرِ قبل الزوال.
لايُزيل النعمَ ، ولا يهلكُ الأممَ إلا البطرُ والأشرُ {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)
فهل يراكَ الإلـــهُ معترفاً ** بشكر نعمائه التي وهبا
(فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}
شُكرُ اللهِ على نعمةِ الأمنِ والأمان.. إعلانُ التوحيدِ وإظهارُ السنة، ونشرُ الفضيلةِ ومحاربةُ الرذيلة {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ومن علّقَ نفسَه وقلبَه بغيرِ اللهِ وكَلَهُ اللهُ إلى من تعلّق به، وكان قلق النفس، مضطرب البال، متعثر الخطى .
شكرُ اللهِ على نعمةِ المساكنِ والمدافئ أن تنهض لنداء الله إذا نادى (الصلاةُ خيرٌ من النوم)
شكرُ اللهِ برغدِ العيشِ حفظُها وإطعامُ الطعام، وتلمسُ ذي المسغبة ..
شكرُ اللهِ على المراكبِ.أن تَحملَ من لا ظهرَ له، وتصلُ بها الأرحام، ولا تؤذي بها الناسَ والجيران.
شكرُ اللهِ على أجهزةِ التواصلِ .. تسخيرُها لأن تكون منبرَ دعوةِ خيرٍ ، ومنطلقَ توعيةِ وتوجيه ، ووسيلةَ برِ وصلة ، لا سلةً لتجميعِ ترهاتِ التافهين ، ولا مستودعاً لأفكارِ الساقطين، ولا محطةً لاستقبالِ فراغات الآخرين ..
كفرُ بهذه النعمةِ ..أن يُهدم حصنُ الفضيلةِ من خلالها ، ويُكسر بابُ الحياء برسائلها، وتُنتهك حرمات الله بمواقعها ..
كفر بنعمتها أن تُقتل بها الأوقاتُ، أو تستنزف من أجلها الأموالُ ، أو يُضَيع ببرامجها الأطفالُ ، أو تكونَ مصدرَ أذيةٍ وابتزازٍ. (وقليل من عبادي الشكور )
ولو أنّ لي في كل منبت شعرة ... لسانا يطيل الشكر كنت مقصّرا
استغفر الله لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه إن ربي رحيم ودود
الخطبة الثانية الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطَفى، وعلى آله وصحبه ومَن اجتبى... أما بعد:
العملُ بتقوى اللهِ هي اساسُ اجتماعِ الكلمةِ ووحدةِ الصفِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}
يواجَهُ عدوانُ المعتدين وعملُ المفسدين بالنصحِ لأئمةِ المسلمين وعامتِهم، بالتعاونِ لصدِ كلِ إفسادٍ يستهدفُ هدمَ جدارِ أمننا ويحطمُ أخلاقَنا وعقيدتَنا .
العملُ بدين الإسلامِ القويم، ومنهجِه السليم، هو سرُ وحدتِنا وتآلفنا وأمنِنا ورخائِنا، والاعتزازُ بتشريعاته الخالدة ، وأخلاقياته السامقة ، ومبادئه الراسخة ، وأن كلَ إخلالٍ بهذه الثوابتِ وتقصيرٍ في هذه المباديء ينشأ عنه خللٌ في الرخاءِ والأمنِ والنماء {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
المواطنُ الحق .. إيجابيٌ في تعامله مع المنكر، فهو يأنفُ منه ولايألفه، ويرغبُ عنه ولايرغبُه ، ينكرُ المنكرَ ولو كان من المذنبين وذلك بأضعف الإيمان .. بكراهيةِ المنكرِ في قلبهِ وهجرهِ ببدنهِ.
المسلمُ الحقُ .. ثابتٌ في طريقهِ إلى اللهِ يتقدمُ ولايتأخر .. لايقبلُ أن يدنسَ سمعُه بالمعازفِ والألحانِ، أو يلجَ أماكنَ يذهبُ فيها حياءُ النساءِ وقِوامةُ الرجالِ .
تربيةُ الأسرةِ والمجتمعِ على الشكرِ واجبُ المُنعم، وركيزةُ أمانٍ لبقاء النعم {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} والشكرُ وإن قلَ فهو ثمنٌ لكلِ نوالٍ وإن جلّ
اللهم زدنا من خيرك وبرك وإحسانك وجعلنا لنعمك شاكرين ولأوامرك ونواهيك ممتثلين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا، وأدم الأمن والإيمان في ربوعنا ..
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد..
المرفقات
1695294353_{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}.docx
1695294415_{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}.pdf