لئن أدركت رمضان ليَرينَّ اللهُ ما أصنع
منصور بن هادي
الحمد لله الذي فاضل بين الأزمان، وجعل سيد الشهور رمضان، ووفق لاغتنامه أهل الطاعة والإيمان، أحمده سبحانه وأشكره ، ومِن مَسَاوِي عَمَلي أسْتَغفِـرُهْ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ، أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
..عنوان هذه الخطبة لَئِنِ أَشْهَدَنِي اللهُ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أَصْنَعُ
قال أَنَسٍ بن مالك -رَضِيَ الله عَنْه-: " غابَ عَمِّي أَنَسُ بنُ النَّضْرِ عن قِتالِ بَدْرٍ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ غِبْتُ عن أَوَّلِ قِتالٍ قاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أَصْنَعُ، فَلَمّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ ممّا صَنَعَ هَؤُلاءِ -يَعْنِي أَصْحابَهُ-، وأَبْرَأُ إلَيْكَ ممّا صَنَعَ هَؤُلاءِ، -يَعْنِي المُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ، فاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعاذٍ، فَقالَ: يا سَعْدُ بنَ مُعاذٍ، الجَنَّةَ ورَبِّ النَّضْرِ إنِّي أَجِدُ رِيحَها مِن دُونِ أُحُدٍ، قالَ سَعْدٌ: فَما اسْتَطَعْتُ يا رَسولَ اللَّهِ ما صَنَعَ، قالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنا به بضْعًا وثَمانِينَ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً برُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بسَهْمٍ ووَجَدْناهُ قدْ قُتِلَ وقدْ مَثَّلَ به المُشْرِكُونَ، فَما عَرَفَهُ أَحَدٌ إلّا أُخْتُهُ ببَنانِهِ .
رجال تتفطر قلوبهم أن يفوتهم سباق للجنة، إنهم بحق (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)؛ فكم مِن قائل كان يقول: لئن أشهدني الله إتمام رمضان، وبلّغني شهر الصيام لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أَصْنَعُ ؟ وكم من قائل كان يقول: لئن أشهدني الله رمضان لأكثرن من البذل والإحسان؟ ومن قائل يقول: لئن أشهدني الله رمضان لانتهين من متابعة أهل السفه والخسران واعودا الى الرحمن .
لسانُ حالهم يقول : واهًا لريح الجنة.. إنَّا لنجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ رمضان. هِمَم عالية تستنشق ريح الجنة في أنسام الظمأ، وتستعذب الرحيق في جوّ العبادة.
لن يدرك البَطاّلُ منازل الأبطال، وعند تقلُّب الأحوال تعرف جواهر الرجال. ولا تطلب السلعة الغالية بالثمن التافه.. والجنة حُفَّت بالمكاره.
لَولا المَشَقَّةُ سادَ الناسُ كُلُّهُمُ ــــــــــــ الجودُ يُفقِرُ وَالإِقدامُ قَتّالُ
منازل الأبرار لا تُنَال إلا بجسر من التعب (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، الصبر على الطاعات تُنَال بها أعلى الجنات، والصبر عن المحرمات تقي لهيب النار ، روى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم.. وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ
سينقضي رمضان وسوف تشرق شمس العيد ، ونتلقي في المصلى ، سيكون بمشيئة الله عيدا مختلفا ، لكن هل نحن راضين عن ماقدمنا في هذا الشهر الفضيل هل منا من
نتخيل أن بيننا أنه فاته السبق ولم يلحق بالركب ولم يشعر الا هو في مصلى العيد ..
أخذ مكانه في مصلى العيد، وبدأ يناجي نفسه ويحادثها، ويسترجع معها شريط الذكريات لشهر كاملٍ... شهرٍ مضى وكأنه يوم واحد... جلس وهو يعتصر ألماً على تلك الليالي التي تصرمت، والأيام التي تقضت، ومما زاد ألمه، أنه قارن نفسه ببعض من حوله، فإذا المسافة بينه وبينهم كبيرة .. لقد دخلوا الميدان في يوم واحد بل في ساعة واحدة، ولكنه تباطأ وسوّف؛ بل ونام كثيراً حتى سبقه السابقون، لقد حاول أن ينظر إليهم فلم يستطع، فقد سبقوه سبقاً بعيداً، وظفروا بالجوائز الكبرى..
استنجد صاحبي بذاكرته ليقلب من خلالها صفحات عمله في هذا الشهر الذي انصرم، لعله يجد فيها ما يرفع من معنويات نفسه المنكسرة، فبدأ يقلب صفحات البر التي تيسر له أن يقوم بشيء منها.. ففتح صفحة قرآءة القرآن، فإذا هو لم يصل إلى ختمة واحدة !
حاول أن يخفف حسرته هذه ليفتح صفحة البذل والجود والعطاء لمن هم حوله، خاصة وأنه يعلم أن الله تعالى قد أعطاه وأنعم الله عليه بالمال، وإذا هو لم يكن له النصيب الذي يليق بمثله من الصدقة والصلة والإحسان.. تنهد .. سكت قليلاً... نظر فإذا صدقته وبذله لا يتناسب مع ما آتاه الله تعالى من المال.. فالسائل والمحروم ليس لهم من ماله في هذا الشهر نصيب إلا النـزر اليسير، بل قد يكون بعض كرام النفوس الذين عافاهم الله تعالى من شح النفس ـ مع قلة ذات أيديهم ـ أكثر منه بذلاً...
عندها أشاح بوجهه عن هذه الصفحة، وحاول أن يخفي ألمه وحسرته، بتقليب صفحة أخرى لعله يجد نفسه سابقاً ولو في ميدان واحد، فإذا بصفحة صوم الجوارح تواجهه، وهنا أسقط في يده، لقد تذكر الليالي الكثيرة أطلق لبصره ولسمعه وللسانه فيها العنان...
وتذكر صحابنا ـ والألم والحسرة يكادآن يفلقان كبده ـ كم ضاع وقته في تتبع المسابقات الدنيوية في القنوات التي أشغلته عن المسابقات الأخروية ... تذكرها وهو يبكي على ما أصيب به من خذلان : كيف أشغل نفسه بهذه المسابقات دنيوية نسبة فوزه بها في أحيان كثيرة تصل إلى الواحد من 500.000 أو أكثر، يبذل فيها جهداً ومالاً ووقتاً، وفي النهاية لا يفوز إلا خمسة أو عشرة أو حتى مئة من ملايين المتسابقين ! تذكرها وهو يعاتب نفسه كيف أعرضت عن مسابقات الفوز بها مضمون؟! وأي فوز هو ؟ إن جائزة مسابقتنا هي الجنان، ورضا الرحمن، وأنهار، وأشجار، وحور عين كأمثال اللؤلؤِ المكنون ، ونسبة الفوز فيها لمن أخلص وتابع مضمونة 100% ولكنه حب الدنيا الذي زاد عن حده، واللهث وراءها
وبينما هو جالس في المصلى، التفت صاحبي في مصلى العيد فرأى بعض أصحابه الذين كان يجلس معهم في الاستراحة و الجلسة الليلية الرمضانية... رآهم في أحسن حُلّة، وأجمل لباس، والابتسامات تتوزع هنا وهناك...
أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى وبعد .. نعود لمصلى العيد ، ولما حوّل بصره إلى ناحية أخرى نظر فإذا جملة من العباد والصالحين في مقدمة الصفوف ممن عرفهم بأنواع الطاعات وأصناف القربان، رآهم والبشر والسرور يطفح على وجوههم ، وكأن الواحد منهم ـ لولا الخشية من إفشاء العمل ـ لقال بلسان حاله : هاؤم اقرؤوا كتابيه .. لقد لبسوا الجديد كما لبسه أصحابه، ولكن شتان بين ابتسامة وابتسامة !! وشتان بين جديد وجديد... ، هنا، أخذت الأحاسيس تتردد في نفسه، وبدأت الأسئلة تتدفق على ذهنه... هؤلاء أصحابي الذين أمضيت ما أمضيت معهم من الوقت فيما دون لا فائدة فيه؛ بل فيما حرَّم الله أحياناً.. على ماذا يبتسمون يا ترى ؟! أهم يبتسمون ويضحكون على التخلص من رمضان أم على ماذا ؟ أم فرحا بإطلاق العنان لشهوات النفس ؟ أم على لبس الجديد أم على ماذا يا ترى ؟ وتذكر لحظتها كلمة قد كان يسمعها في خطب الأعياد ،ليس العيد لمن لبس الجديد ، ولكنه لمن رضي عنه ربُّ العبيد ، وأعتقه من العذاب الشديد ...
طافت به هذه التساؤلات وهو يقلب طرفه في أولئك الصالحين والعباد وهو يتذكر ما يقرأه ، وهو أن الصالحين يفرحون بالعيد لتمام نعمة الله عليهم ببلوغ الشهر وتمامه ، والرجاء يحدوهم من الرب الكريم أن يقبله منهم ! وتذكر أيضا دعاء طالما سمعه الآن استشعره وتمعنه ،اللهم سلمني لرمضان وسلم لي رمضان ، وتسلمه مني مُتقبلا.
خرج صاحبنا من مصلى العيد ، وهو يعد نفسه الوعود الصادقة ، ويمنيها بالعزمات الأكيدة ، ويقول في نفسه : لئن أحياني الله تعالى إلى رمضان القادم ليَرينَّ اللهُ ما أصنع !! ولأعيشنَّ هذه الفرحة التي عاشها الصالحون العاملون... لن يسبقني الى الله أحد في رمضان
هذه ـ أخي الكريم : مشاعر نادم على التفريط، جالت في ذهنه وبسرعة وهو في مصلى العيد ينتظر الصلاة مع المسلمين في عيد الفطر ، وهي بالتأكيد مشاعر كل مؤمن في قلبه حسٌ وإدراك لفضائل هذا الشهر الكريم، ومناقبه وعظيم منزلته عند الله، تدعوه لاستغلال أيام وليالي هذا الشهر المبارك بكل ما يستطيع!.
أخي المبارك : حتى لا أكون انا وأنت مثل هذا الرجل وحاله في مصلى العيد ، فالسباق قد اشتد والجنة تزينت لمن جد فليكن شعاري انا وأنت في هذه الأيام ، لن يسبقني إلى الله أحد لن يسبقني إلى الله أحد ، لن يسبقني إلى الله أحد
ما لنا لا نشتاق، وننافس في السباق: ونحن نسمع قول الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول : "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " ؟ "ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" ؟ "ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" ؟
ما لنا لا نشتاق، وننافس في السباق: ونحن نعلم أن أبواب الجنة ما فتحت، وأن أبواب النار لم تغلق من أجل الملائكة ! ولا من أجل الجبال ! ولا من أجل الشجر ! ولا من أجل الدواب ! بل فتحت أبواب الجنة من أجلنا... نعم ! من أجلنا ،من بين مخلوقات السماوات والأرض ! ولا أغلقت أبواب النار إلا لأجلنا ...
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) اللهم صل وسلم على نبينا محمد عدد ما ذكره الذاكرون وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون ..
اللهُم رمضان مُختلف اللهُم خِفافًا لِطافًا لا نَأذي ولا نُؤذى، لا نَجرَحُ ولا نُجرَح، لا نَهينُ ولا نُهان، اللهم لا نشقى بأحدٍ ولا يشقى بنا أحد
اللهم إذا لم نحسن الاستقبال أحسن لنا الوداع ، اللهم عونك وتيسيرك وتوفيقك وبركتك اللهم التأييد والإعانة اللهم انا نسألك الثبات حتى نلقاك
المرفقات
1648704550_لئن أدركت رمضان ليرين الله ما أصنع.doc