كيف يغير الله حالنا

أبو عبد الله الأنصاري
1435/12/02 - 2014/09/26 00:31AM
[align=justify]إن ما نراه اليومَ في العالم من غلاءِ الأسعار وارتفاعٍ كبير في قيمة السّلع والحاجيات وانخفاض في القيمة الشرائية للعملات وصعوبة وصول المرء إلى ما لا غنى له عنه من حاجيات ، وانحباس الأمطار والجدب وقلّة البركات وانتشار الأمراض والأوبئة ، وانهيار الأسواق المالية ، وكساد المعايش والأحوال ، وتتابع البلاء العام والخاص ، فضلا عن تسلّط أعداء الدين وضَعف كلمة المسلمين، إن ذلك كله أثر من آثار ابتعاد العباد عن ربهم، وكفرهم بنعمته، وغفلتهم عما خلقوا له من عبادة الله وطاعته، وعمارتهم للدنيا عمارة من يخلد فيها، وتهاونهم بالآخرة تهاون من هو بها مكذب غير موقن ، ربط الخلق قلوبهم بخلق مثلهم وأعرضوا عن الخالق فأعرض الله عنهم ، لأن من أعرض عن الله أعرض الله عنه ، خلت قلوب أكثر الشعوب من توكلها على ربها ، ووكلت حاجاتها بالشرق والغرب فوكلها الله إليها ، لأن من تعلق شيئاً وكل إليه ، ذلت نواصي شعوبنا حين انحنت جباهنا واتجهت وجوهنا للدول المانحة ، التي تعطينا من دنياها أقل القليل وتأخذ من ديننا ومنهجنا الكثير والكثير ، مرضت القلوب بما يلقى فيها من شبهات وشهوات، وتشرّبت النفوس ما يعرض عليها من فواحش ومنكرات في آلاف مؤلفة من القنوات الخبيثات الماجنات ، ولغت الدول والشعوب في الربا وأكل أموال الناس بالباطل، تهاون العامة والخاصة بحدود الله وحقوقه ، وتجاوزوها بأدنى الحيَل ، ثم بعد ذلك نريد أن يصلح الله لنا الحال ؟! ، ويصير أمرنا إلى حسن المآل ؟! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو،كما يدل عليه الكتاب والسنة ، فإذا أقيمت الحدود وظهرت طاعة الله ، ونقصت معصية الله حصل الرزق والنصر) .
الذنوب ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها، ولا في نفوس إلا أفسدتها، ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، إنها تقضّ المضاجع، وتدع الديار بلاقع ، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ما عند الله لا يستنزل إلا بالتوبة النصوح، يقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : (ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة) .
ما لي ألوم زماني كلما نزلت *** بي المصائب أو أرميه بالتهم
أو أدعى أبداً أني البريء وما *** حملت في النفس إلا سقطة اللمم
أنا الملوم فعهد الله أحمله *** وليس يحمله غيري من الأمم
إن غفلات الشعوب عن دينها وإصرار غالبية أفرادها على المعاصي والسيئات وتفشي المنكرات هو أعظم أسباب ابتلاء هذه الشعوب بما تعانيه من الفقر ، والضيق في العيش، والإصابة بالأمراض والأسقام، والحرمان من الخيرات العاجلة والآجلة، وهي أعظم الأسباب في إهلاك الأمم والجماعات والأفراد بالدمار والهلاك ، كما قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ، اقشَعَرَّتِ الأَرضُ وَأَظلَمَتِ السَّمَاءُ، وَظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ مِن ظُلمِ الفَجَرَةِ، وَذَهَبَتِ البَرَكَاتُ، وَقَلَّتِ الخَيرَاتُ، وَتَكَدَّرَتِ الحَيَاةُ مِن فِسقِ الظَلَمَةِ، وَبَكَى ضَوءُ النَّهَارِ وَظُلمَةُ اللَّيلِ مِنَ الأَعْمَالِ الخَبِيثَةِ وَالأَفعَالِ الفَظِيعَةِ، وَشَكَا الكِرَامُ الكَاتِبُونَ إِلَى رَبِّهِم مِن كَثرَةِ الفَوَاحِشِ وَغَلَبَةِ المُنكَرَاتِ وَالقَبَائِحِ! قَسَتِ القُلُوبُ وَكَثُرَتِ الذُّنُوبُ وَانصَرَفَ الخَلقُ عَمَّا خُلِقُوا لَهُ، فَعَظُمَ بِذَلِكَ المُصَابُ وَاستَحكَمَ الدَّاءُ وَعَزَّ الدَّوَاءُ. وَهَذَا - وَاللهِ - مُنذِرٌ بِسَيلِ عَذَابٍ قَدِ انعَقَدَ غَمَامُهُ، وَمُؤذِنٌ بِلَيلِ بَلَاءٍ قَدِ ادلَهَمَّ ظَلَامُهُ ، كل ذلك بِمَا كَسَبَتْ أَيدِي العِبَادِ .
إِنَّ ذنوب الناس ومَعَاصِيهم تُخَرِّبُ الدِّيَارَ العَامِرَةَ، وَتَسلُبُ النِّعَمَ البَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ. فَكَم لَهَا مِنَ العُقُوبَاتِ وَالعَوَاقِبِ الوَخِيمَةِ؟! وَكَم لَهَا مِنَ الآثَارِ وَالأَوصَافِ الذَّمِيمَةِ؟! وَكَم أَزَالَت مِن نِعمَةٍ وَأَحَلَّت مِن مِحنَةٍ وَنِقمَةٍ ؟! وَمَا مُحِقَتِ البَرَكَةُ مِنَ الأَرْضِ إِلَّا بِمَعَاصِي الخَلْقِ ، وَمَا حَصَلَ لِلعَبْدِ حَالٌ مَكْرُوهَةٌ قَطُّ إِلَّا بِذَنْبٍ وقع فيه ، وَمَا يَعْفُو اللّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ .
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ جَزَاءً لِلنَّاسِ لِمَا ارْتَكَبُوهُ: مِنْ خَبَائِثَ وَسَيِّئَاتٍ، وَمَظَالِمَ، وَمُحَرَّمَاتٍ، وَبِدَعٍ، وَنَشْرِ الرَّذِيلَةِ، وَأَكْلِ الحَرَامِ، وَعَمَلِ الزِّنَا وَالخَبَائِثِ، وَتَرْوِيجِ الفَسَادِ، وَرَفْضِ أَوَامِرِ اللّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالدِّينِ وَأَهْلِهِ. {لعلهم يرجعون} عَنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي أَثَّرَتْ لَهُم مِنَ الفَسَادِ مَا أَثَّرَتْ. فَتَصْلُحُ أَحْوَالُهُم، وَيَسْتَقِيمُ أَمْرُهُم ، مَا أصَابَ العِبَادَ مِنْ مُصِيبَةٍ، فِي أَبْدَانِهِم، وَأَمْوَالِهِم، وَأَوْلَادِهِم، وَفَيمَا يُحِبُّونَ، وَيَكُونُ عَزِيزًا عَلَيْهِم، إِلَّا بِسَبِبِ مَا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِم مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ مَا يَعْفُو اللّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ.
انظروا إلى ديار المسلمين اليوم طولاً وعرضاً كم يوجد فيها من ضريح يعبد من دون الله ويطاف عليه ويستغاث بصاحبه ؟ كم هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله بل يتحاكمون إلى الطاغوت ؟ كم من بدعة تقام في ديار المسلمين صباح مساء ؟ كم من فاحشة تنتهك في ظلام الليل الدامس،وفي الصباح المتفتح الزاهر؟ كم من ظلم وغش وزور ونهب يغشى علاقة الناس ببعضهم ؟ كم من صَرْحٍ لبنوك الربا التي جاهرت الله بالحرب والمعصية ؟ كم هم الناس المعرضون عن دين الله وحكمه ، كم هم المقبلون على الملاهي والخمور والأغاني والمسلسلات ؟ كم هم الناس الذين لا يصلون ويدعون بأنهم مسلمون ؟ أنظروا للشوارع والأسواق لتروا فيها - وللأسف - تخنث الشباب ، وترجل النساء ، والغيبة ، والكذب، والنميمة ، والغش ، والظلم ، وخفر العهود، وإخلاف المواعيد ، وأكل حقوق الناس، والعصبية القبلية والعرقية المنتنة ، والزنا، واللواط، والنفاق، وسوء الأخلاق ـ إلا قليلاً ممن رحم ربك ، ثم مع هذا كله نريد نصر الله ، وأن يهزم عدونا ويكف شره ويكبت أمره !!
صح عن رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : ( مَا اختَلَجَ عِرقٌ، وَلَا عَينٌ إِلَّا بِذَنبٍ، وَمَا يَدفَعُ اللّهُ عَنهُ أَكثَرُ ) رواه الطبراني وصححه الألباني.
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( لَوْ أَنَّ اللّهَ يُؤَاخِذُنِي وَعِيسَى بِذُنُوبِنَا، لَعَذَّبَنَا وَلَا يَظْلِمُنَا شَيْئًا ) قَالَ: وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيْهَا . رواه ابن حبان وصححه الألباني.
وعن ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَقْبَلَ عَلَينَا رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: ( يَا مَعشَرَ المُهَاجِرِينَ خَمسٌ إِذَا ابْتُلِيتُم بِهِنَّ، وَأَعُوذُ باللّهِ أَنْ تُدرِكُوهُنَّ: لَم تَظهَرِ الفَاحِشَةُ فِي قَومٍ قَطُّ حَتَّى يُعلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوجَاعُ الَّتِي لَم تَكُن مَضَت فِي أَسلافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا؛ وَلَم يَنقُصُوا المِكيَالَ وَالمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ المَؤُونَةِ وَجَورِ السُّلطَانِ عَلَيهِم؛ وَلَم يَمنَعُوا زَكَاةَ أَموَالِهِم، إِلَّا مُنِعُوا القَطرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَولَا البَهَائِمُ لَم يُمطَرُوا؛ وَلَم يَنقُضُوا عَهدَ اللّهِ وَعَهدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللّهُ عَلَيهِم عَدُوًّا مِن غَيرِهِم، فَأَخَذُوا بَعضَ مَا فِي أَيدِيهِم؛ وَمَا لَم تَحكُم أَئِمَّتُهُم بِكِتَابِ اللّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنزَلَ اللّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللّهُ بَأسَهُم بَينَهُم ) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
وَالبَصِيرُ العَاقِلُ: يَرَى مَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذِهِ العُقُوبَاتِ فِي هَذَا الحَدِيثِ عَيَانًا، لِأَنَّ مُوجِبَاتِهَا قَد وَقَعَتْ، فَإِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وروى الحاكم بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله – - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ( إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ) ، والربا اليوم ظاهر كل الظهور بأنظمة وقوانين ولوائح تبيحه وتنظمه بل وتفرضه فرضاً كأنه الحلال الزلال ، وفي حديث ثوبان – رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه).
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفيرٍ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُسُ، وَفُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا، فَبَكَى بَعضُهُم إِلَى بَعْضٍ، رَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي؛ فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللّاهُ فِيهِ الإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟! قَالَ: ( وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ، مَا أَهْوَنَ الخَلْقَ عَلَى اللّهِ! إِذَا هُمْ تَرَكُوا أَمْرَهُ؛ بَيْنَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ المُلْكُ، تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى ).
عَنْ حُذَيْفَةَ – رضي الله عنه - قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَدَعَا النَّاسَ، فَقَالَ: «هَلُمُّوا إِلَيَّ» فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَجَلَسُوا، فَقَالَ: «هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وآله وسلم - نَفَثَ فِي رُوعِي: أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا؛ فَاتَّقُوا اللّاهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزقِ: أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللّهِ، فَإِنَّ اللّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ» ، وعَن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ – رضي الله عنه - قَالَ: أَوْصَانِيَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِعَشرِ كَلِمَاتٍ، وَذَكَرَ مِنهَا: ( إيَّاكَ وَالمَعْصِيَةَ؛ فَإِنَّ بالمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخَطُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ ) .
الخطبة الثانية
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : ( ومَنْ له معرفة بأحوال العالَم ومبدئه يعرِف أنَّ جميع الفساد فى جَوِّه ونباته وحيوانه وأحوالِ أهله، حادثٌ - بعد خلقه - بأسباب اقتضت حدوثَه، ولم تزل أعمالُ بنى آدَم ومخالفتُهم للرُّسُل تُحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام، والأمراض، والأسقام، والطواعين، والقحوط، والجدوب، وسلب بركات الأرض، وثمارها، ونباتها،وسلب منافعها، أو نقصانها أُموراً متتابعة يتلو بعضُهَا بعضاً ، واكتفِ بقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ}، ونَزِّل هذه الآية على أحوالِ العالَم، وطابِقْ بين الواقع وبينها، وأنت ترى كيف تحدث الآفاتُ والعلل كل وقت فى الثمار والزرع والحيوان، وكيف يحدُث من تلك الآفات آفاتٌ أُخَرُ متلازمة، بعضُها آخذ برقاب بعض، وكُلَّما أحدث الناسُ ظلماً وفجوراً، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل فى أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وصُورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم ، ولقد كانت الحبوب من الحِنطة وغيرها أكبرَ مما هي اليوم ، كما كانت البركةُ فيها أعظمَ ، وقد روى الإمام أحمد بإسناده : أنه وُجد فى خزائن بعض بني أميةَ صرةٌ فيها حِنطةٌ أمثال نوى التمر مكتوبٌ عليها : هذا كان ينبُت أيامَ العدل).
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ – رضي الله عنه - قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ - وَنَحْنُ جُلُوسٌ عَلَى بِسَاطٍ -: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ». قَالُوا: كَيْفَ نَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: فَرَدَّ يَدَهُ إِلَى البِسَاطِ؛ فَأَمْسَكَ بِهِ، قَالَ: «تَفْعَلُونَ هَكَذَا»، وَذَكَرَ لَهُم رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا: «أَنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ» فَلَمْ يَسْمَعْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ مُعَاذٌ: تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟ قَالُوا: مَا قَالَ؟ قَالَ: يَقُولُ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ». قَالُوا: فَكَيْفَ لَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ؟ أَوْ كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: «تَرْجِعُونَ إِلَى أَمْرِكُمُ الأَوَّلِ».
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: « إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِيْنَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيْتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا، لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوْا إِلَى دِيْنِكُمْ» رواه أبو داود ، وصححه الألباني.
فَالذُّلُّ قَد نَزَلَ بِنَا، وَالهَوَانُ قَد أَحَاطَ بِخِيَامِنَا، وَالعَذَابُ قَد أَحْدَقَ بِسَاحَتِنَا، فَلَا يَرْفَعُ اللّهُ كُلَّ ذَلِكَ عَنَّا حَتَّى نَعُودَ إِلَى دِينِنَا. إِذًا لَا بُدَّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ العَوْدَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَى الدِّينِ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ: فِي العَقِيدَةِ، وَفِي العِبَادَةِ، وَفِي السُّلُوكِ، وَفِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الشَّرِيعَةِ ، قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رحمه الله: «لَنْ يَصْلُحَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ، إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا .
يا معاشر الناس : إذا أردنا أن يغير الله حالنا ويصلح أمرنا ، إذا أردنا يبدل الله فقرنا إلى غنى ، وخوفنا إلى أمن ، وفرقتنا إلى ألفة ، وذلنا إلى عزة ، وضعفنا إلى قوة ، وحاجتنا إلى جدة ، فلنغير من حالنا ومن فساد قلوبنا وأنفسنا ، لنقبل على ديننا ، ولنتمسك بهدى ربنا ، لنعظم حقوق الله علينا ، ولنقف عند حدوده فينا ، هذا إذا أردنا أن يغير الله حالنا ، ويرفع ما بنا من مصائب أرقتنا وبلايا أقلقتنا ، ذلك هو قانون الله في قدره وشرعه كما قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ) ، وقال تعالى: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، ومن أول الأمور التي نغير بها حال أنفسنا التوبة النصوح من ذنوبنا وغفلتنا ، التوبة الصادقة هي وظيفة العمر، وطريق الفلاح ، والتي تفتح كل عمل خير وبر وصلاح ، ومن ثمَّ الأعمال الصالحة ، التي تقرب من رضوان الله عز وجل وجنته ، وتبعد عن سخطه وأليم عقابه ، ورحم الله أبا الدر داء حيث كان يقول للغزاة : ( يا أيها الناس: عليكم بالعمل الصالح قبل الغزو ، فإنما تقاتلون بأعمالكم ) ، ولله در الفضيل بن عياض - حين قال للمجاهدين عندما أرادوا الخروج لقتال عدوهم : ( عليكم بالتوبة، فإنها ترد عنكم ما ترده السيوف ).
يا معاشر المسلمين : إذا صلحت أديان الناس صلحت لهم دنياهم ، وإذا فسدت أديانهم فلا أمل في صلاح شيء من أمر الدنيا ، يا أيتها الشعوب المسلمة الفقيرة المرهقة أنقذوا أنفسكم مما أنتم فيه من عقوبات الذنوب بالعودة الصادقة إلى من بيده خزائن السماوات والأرض ، أدركوا أن سعة الدنيا ورخاء المعاش إنما هو في تقوى الله وطاعته والاستقامة على دينه ومرضاته ، ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) ، ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى : ( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل عليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) ، أما تأملتم وعد الله تعالى في قوله : ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدا ) ، أما وعيتم عن رسل الله قولهم ( استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبينين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) .
[/align]
المشاهدات 2644 | التعليقات 0