كيف يحافظ المجتمع على عراقته؟ الشيخ أحمد بن عبد المحسن العسَّاف

الفريق العلمي
1441/02/25 - 2019/10/24 08:46AM

العراقة سمة تسعى إلى الفوز بها وحياطتها المجتمعات قاطبة، فتحافظ عليها حماية لتاريخها وتأكيدًا لاستقلاليتها واعتزازًا بإرثها، ومن ذلك أن مدينة روما تغني المتجول فيها عن زيارة المتاحف لما في ميادينها وشوارعها من مناظر قديمة آسرة، بينما تعاني مجتمعات حديثة من حزازة مريرة لكونها قريبة عهد بظهور كما قرأت عن أمريكا في مذكرات سفير مصري كثير الترحال، ومثلما نلاحظه في مساعي دول حديثة لصناعة ماض تليد لها، وانتحال خصوصيات غيرها من البلاد، وهذه علة تصاحب المجتمعات الناشئة والاستيطانية إذ تفقد التاريخ؛ هذا التاريخ الذي اتكأ عليه هتلر لبعث أمة الألمان من مرقدها، ونفض ركام الذل عنها.

 

ويحرص المجتمع العريق على قوة شخصيته وسلامتها من المؤثرات التي تخرجها عن خصائصها، أو تقود لتفتيت هذه الشخصية أو اغتيالها، فيستعصي على المؤثرات السلبية، ولا يستسلم للمؤامرات التي تحاك له على ظهر دبابة، أو فوق جناح ذبابة، أو تأتيه في زينة ظاهرة جاذبة، وهي تخفي سمومًا باطنة قاتلة، ولازلنا نسمع عن مقاومة دول غربية للأفلام الأمريكية، وانتقاص كبار نقاد الأدب في فرنسا للأدب الأمريكي الوافد بحجة انعدام الأصالة فيه، وتشبث ألمانيا واليابان وإيران بلغاتها الوطنية، ونجم عن هذا التمسك أن تمتم إنشتاين بلغته الألمانية في مرضه ومع غرغرة الموت متجاوزًا الإنجليزية لغة أمريكا التي آوته وعاش فيها آخر عمره.

 

كما أنه مجتمع متشارك لا يُهزم، متصالح لا يُخترق، متكامل لا يُستثار، متسامح بيد أنه لا يدجن مهما كان العدو غشومًا، فأهل فلسطين المرابطين قاوموا جرائم اليهود لطمس هوية بلادهم وسرقة تاريخها، واستشهد من أبطال الجزائر ثمانية ملايين مجاهد لطرد المحتل الفرنسي العنيف خلال قرن وثلث القرن، وهم الآن في كفاح لمحو آثار الفرنسة وسيغلبون ولو بعد حين، وقبلهم بقرون حمل أهل صنهاجة الميامين على اليهود الذين كانوا مسيطرين على مقاليد الأمور في بلدتهم حتى أخرجوهم، وجابه المصريون دولة الباطنية وجيش نابليون قدر استطاعتهم للحفاظ على معتقدهم ومجتمعهم.

 

وهكذا فعل المجتمع الليبي الشجاع تجاه مؤامرات التقسيم القديمة والحديثة وله في ذلك مواقف وأبطال ركزوا أنفسهم في سجل الخلود، وصبر المسلمون في آسيا الوسطى وتركيا وصابروا ورابطوا على دينهم متحدين شراسة لينين وستالين وأتاتورك، وقاتل أهل الجزيرة العربية في قرون ماضية الغزاة في صحراء نجد، وفوق جبال اليمن، وعلى ساحل الخليج لتسلم لهم ديارهم وأعراضهم، ولإيران قوى ضغط مؤثرة في الغرب لصالح بلادهم حتى مع خلاف رموز هذه القوى مع حكام طهران؛ إذ الوطن والمجتمع لا ينحصران في الفئة الحاكمة فقط.

 

وثمة صفة مشتركة صاحبت أغلب المجتمعات العريقة خلاصتها المحافظة على حد الاعتدال، ومنع تجاوز ركائز المجتمع وقيمه ورموزه بهيجان غضب، أو دعوى فرح، مع الوقوف الصلب بوجه المغرضين وأدواتهم من سفهاء ودخلاء وأجراء، وكل ذلك بحكمة تدفع البلاء، فالثورة على القيم في أوروبا حظيت بدعم خفي ثمّ كان لها أثر ارتدادي على سطوة الكنيسة الكهنوتية، وعلى طغيان النخب وفساد الإدارة، وهي آثار لم تكن في الحسبان أول الأمر.

 

كما يوجد في كل مجتمع عريق سلطات تقليدية يفترض فيها التعاون مع السلطة الرسمية لتحقيق الأمن والنماء، ومن الخطأ بمكان تقليل أهميتها فضلًا عن تحطيمها، فللأسرة والقبيلة مكانة عظيمة في المجتمعات العربية والشرقية، وللكبير كلمة فاصلة في بعض مجتمعات أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وعند أهل القرى والبوادي وأصحاب المهن تراتبية يصعب زحزحتها عن مواقع التأثير، وللمرجعيات الدينية منزلتها التي لا تزول؛ ومن يشاهد الاستقبالات السياسية المهيبة لرهبان النصارى وأحبارهم أينما حلوا، أو يتابع حضور الكهنة لدى الهندوس والبوذيين، ويلاحظ مشاركة الآيات والمراجع الشيعية في سياسة بلادهم وأحزابهم سيؤمن بذلك ولو كان من أعداء فكرة الدين والقبيلة والأسرة.

 

فيساند العرف العام النظام السائد لحفظ سمت المجتمع ومصالحه، وهو ضرورة يسعى لتقويتها عقلاء الفرقاء حتى تكون موضع اتفاق ومأرزًا مأمونًا في الشدائد، وهي قواعد يُتعارف عليها انطلاقًا من الثقافة والتقاليد، تهدف إلى التماسك، ورص الصفوف، والاجتماع على مرجعية عليا، وغاية أساسية، وقمع الفوضى، وهذا دأب الحكماء في كل مجتمع وبلد، وتزداد أهمية ذلك لدفع خطر الإرجاف والإفساد، فلو خلا المجتمع في مجاله العام من أعراف ضابطة وازنة فلن يصبح للنظم الجانبية والإصلاحات الجزئية قيمة ذات شأن.

 

من ذلك ما قرأته سابقًا أن حكومة الهند وهي علمانية هندوسية وضعت تعليمات وضوابط للوفود الرياضية المشاركة في أولمبياد رياضي عالمي على أراضيها، تدور على توقير أعراف الهنود وتقاليدهم، والحذر من خدش الشعور الشعبي بإهانة ثقافته وعاداته ولو من غير قصد، ومع حاجة البلد لهذه الاستضافة فلم يطرِق الهنود رؤوسهم لأجل التوافق مع ثقافة الغير، ولم يتنازلوا عن مسلمات حضارتهم لاسترضاء الآخر، وهكذا يفعل المجتمع العريق الذي يكيف العالم مع مُثله، ويطوعه لثقافته قدر استطاعته، ويأنف من كسر حضارته أو الانحناء للضغوط المهينة، ويدخل في هذا الباب أن قوائم الطعام في حفلات جائزة نوبل أصبحت إسكندنافية خالصة مستغنية عن حساء السلاحف الفرنسي الذي كان الطبق الاستهلالي!

 

ويحتاج أيّ مجتمع إلى مقومات لحماية عراقته وضمان استمرارها، وجعلها سببًا في نهضته، وأبرزها:

  1. ‏أن يكون للمجتمع شخصية مستقلة ذات قيم وتقاليد.
  2. ‏بناء عقل استراتيجي فاعل مستثمر يعرف الماضي، ويتعامل مع الحاضر، ويخطط للمستقبل.
  3. ‏التوافق على أهداف كبرى وترتيبها حسب الأولوية.
  4. تمكين رموز مخلصة موضوعية صاحبة علم وخبرة واختصاص.
  5. امتلاك أكبر نصيب ممكن من القوة المادية بصنوفها.
  6. ‏وجود منظومة تدير ما سبق وتراجعه، وتعالج الخلل وتمنع الحيدة عن الأسس.
  7. توافر نعمة الأمن، والحرية، والمسؤولية، والنزاهة من الكافة وللكافة دون استثناء.

 

إن المجتمع العريق في مكوناته من أسرة ونظم وأمكنة وكيانات لمجتمع قوي متين يزداد ارتباط أهله به، ويسعد فيه الحاكم والمحكوم، ويأنفون كلهم من أيّ عمل يشينه أو يقلل من عراقته وسموه، ويدافعون عنه بالكلمة والإجراء والنفس والنفيس، ويجتهدون ليغدو في مستوى رفيع من الحصانة التي تنأى به عن أن يبتلى بسيولة شديدة تتماهى مع الأمزجة وتفقد كتلتها الصلبة، وهيئتها العتيقة، أو أن يكون عجينة مطواعة بين الأيادي.

 

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

@ahmalassaf

الاثنين 08 من شهرِ صفر عام 1441

07 من شهر أكتوبر عام 2019م

المشاهدات 601 | التعليقات 0