كيف نستعيد قيمنا وأخلاقنا الجميلة؟
الشيخ السيد مراد سلامة
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، تباركَ اللهُ في علياء عزتهِ وجلَّ معنى فليسَ الوهمُ يُدنِيهِ، سبحانهُ لم يزل فردًا بلا شَبَهٍ وليس في الورى شيءٌ يُضاهِيهِ لا كونَ يحصُرهُ، لا عونَ ينصُرهُ، لا عينَ تُبصِرُهُ، لا فِكرَ يحويهِ لا دهرَ يُخلِقُهُ، لا نقصَ يلحَقُهُ، لا شيءَ يسبِقُهُ، لا عقلَ يدريهِ لا عدَّ يجمعُهُ، لا ضِدَّ يمنعُهُ، لا حدَّ يقطعُهُ، لا قُطرَ يحويهِ جلالُهُ أزليٌّ لا زوالَ لهُ وملكُهُ دائمٌ لا شيءَ يُفنِيهِ حارت جميعُ الورى في كُنه قُدرتهِ فليسَ تدرِكُ معنىً من معانِيهِ.
وأشهدُ أن محمدًا عبد اللهُ ورسولهُ، وصفيهُ وخليلهُ؛ نبيٌ سلمَ الحجرٌ عليهِ، وحنَّ الجذعُ إليهِ، ونبعَ الماءُ من بينِ كفيهِ، وناشدهُ الحمامُ أن يردَ عليهِ فرخيهِ، ولاحَ خاتُم النبوةِ بين كتفيهِ فصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ وأنعم عليهِ وعلى آله وأصحابهِ وتابعيهِ، وتابعي تابعيهِ، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم نلاقيهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أما بعد:
العنصر الأول: الحكمة العلية من الرسالة المحمدية
أمة الحبيب الأعظم –محمد صلى الله عليه وسلم-إن من أجل الأهداف السامية التي جاءت الشريعة الخالدة لتحقيقها هو إتمام الأخلاق و تهذيبها هذا من اعظم مقاصد الرسالة
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ([1])
وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " ([2])
فقد كانت بعثته صلّى اللّه عليه وسلّم في جوهرها لإتمام هذا الجانب التطبيقي المتمثل في إتمام مكارم الأخلاق، قولا وفعلا، دعوة وممارسة،
وها هو سبحانه يمتن على البشرية بهذه النعمة نعمة النبوة التي من أسمي أهدافها التزكية والسمو الأخلاقي يقول الله تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]
و الأخلاق شرط كمال الإيمان كذا أخبرنا نبينا العدنان – صلى الله عليه و سلم-عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»([3])
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكمل الناس إيمانا أحاسنهم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف"([4])
العنصر الثاني : كيف نسموا بأخلاقنا؟
اعلم علمني الله تعالى وإياك: أن هناك عدة محاور لاكتساب الأخلاق القويمة وتحقيق الأخلاق الفاضلة وإليك بيانها باختصار:
المحور العقدي: فالبناء العقدي للفرد والمجتمع هو السياج الذي يحميه من هوة الرذيلة ومن الانحراف الأخلاقي
فالتعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته ينمي ويزكي أخلاق الفرد والمجتمع
فالله هو السميع: إذن فلن أتكلم إلا بما يحب الله تعالى فلا غيبه ولا نميمة ولا كذب ولا سخرية
فالله هو البصير: إذن لن يراني الله تعالى حيث نهاني ولن يفتقدني حيث أمرني
فالله سبحانه هو العليم الذي يعلم السر وأخفى: إذن فلن احمل رفي قلبي حقدا ولا حسدا وبغضاء
فالله سبحانه هو الرقيب: إذن كل حركة وسكنة محسوبة بحساب دقيق
توبة شاب مسرف على نفسه على يد إبراهيم بن أدهم وروي أن رجلا جاء إلى إبراهيم بن أدهم فقال له يا أبا إسحاق إني مسرف على نفسي فاعرض علي ما يكون لها زاجرا ومستنقذا لقلبي قال إن قبلت خمس خصال وقدرت عليها لم تضرك معصية ولم توبقك لذة قال هات يا أبا إسحاق قال أما الأولى فإذا أردت أن تعصي الله عز و جل فلا تأكل رزقه قال فمن أين آكل وكل ما في الأرض من رزقه قال له يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه قال لا هات الثانية قال وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئا من بلاده قال الرجل هذه أعظم من الأولى يا هذا إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين أسكن قال يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه قال لا هات الثالثة قال إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده فانظر موضعا لا يراك فيه مبارزا له فاعصه فيه قال يا إبراهيم كيف هذا وهو مطلع على ما في السرائر قال يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به قال لا هات الرابعة قال إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له أخرني حتى أتوب توبة نصوحا وأعمل لله عملا صاحلا قال لا يقبل مني قال يا هذا فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير فكيف ترجو وجه الخلاص قال هات الخامسة قال إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذونك إلى النار فلا تذهب معهم قال لا يدعونني ولا يقبلون مني قال فكيف ترجو النجاة إذا قال له يا إبراهيم حسبي حسبي أنا أستغفر الله وأتوب إليه ولزمه في العبادة حتى فرق الموت بينهما ([5])
فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: يقول تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]
عن أبي هريرة: أن رسول -صلى الله عليه وسلم-قال: ((أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدِكم يغتسلُ منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟))، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)). ([6])
و الزكاة تطهر صاحبها من الشح و البخل و الأثرة: يقول تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [التوبة: 103]
والصوم يُنبت التقوى ويحصن المرء:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم))؛ ([7]) رواه البخاري ومسلم.
والحج تربية وتهذيب و تأديب: يقول تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد:
المحور الثالث: محور المجاهدة: وهو أن يجاهد نفسه ويدربها على الأخلاق الفاضلة قال الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم من يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول الجنة من تكهن أو استقسم أو رده من سفر تطير) ([8]) "
يقول الغزالي في الإحياء: الأخلاق على ضربين فمنها ما هو غريزي جبلي ، ومنها ما هو اكتسابي يأتي بالدربة والممارسة والرياضة والمجاهدة ، ولو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات "([9])
وهذا المسك يحتاج إلى تكرار ودوام حتى يؤتى أثره. وهذا الدوام يستلزم الصبر فعلى الإنسان الذى يريد التخلق بنوع من الأخلاق الحسنة أن يتجمل بالصبر فإذا صبر وداوم انقادت نفسه وألفت الفعل ([10])
المحور الرابع محور القدوة:
قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21} , ثم أمره بأن يقتدي بمن سبقه من الأنبياء , قال تعالى : [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ] {الأنعام:90} .
ذكر عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- محامد الصحابة –رضي الله عنهم أجمعين- وفضائلهم ووجوب الاقتداء بأفعالهم الحميدة وأخلاقهم النبيلة فقال : " ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : «من كان مستنا ، فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا أفضل هذه الأمة : أبرها قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، اختارهم الله لصحبة نبيه ، ولإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم على أثرهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم». " . ([11])
وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطًا في مسجد بيته يخوّف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفًا، حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا دخلت الفترة (الفتور) تناول سوطه وضرب به ساقه، وقال: أنت أولى بالضرب من دابتي، وكان يقول: أيظن أصحاب محمد أ ن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لُتُزاحمَنَّهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً.
فتشبهوا بهم إن لم تكونوا*** مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
[1] - أخرجه البيهقي (1) (10/191، رقم 20571) انظر الصحيحة: 4542-
[2] -(البخاري في الأدب المفرد ) 273 , (والإمام احمد ) 8939 , (و البيهقي ) 20572 , صحيح الجامع: 2833 , صحيح الأدب المفرد: 207
[3] - أخرجه الترمذي (3/466 رقم 1162) وقال: حسن صحيح. وابن حبان (9/483، رقم 4176) والبيهقي في شعب الإيمان (1/61، رقم 27)
[4] - أخرجه الطبراني في الأوسط (4/356، رقم 4422) قال الهيثمي (1/58): رواه الطبراني فى الأوسط صحيح الجامع: 1231 , الصحيحة: 751
[5] - التوابين (ص: 286)
[6] - أخرجه أحمد (2/379 ، رقم 8911) ، والبخارى (1/197، رقم 505) ، ومسلم (1/462 ، رقم 667)
[7] - أخرجه البخاري (2/670 ، رقم 1795) ، ومسلم (2/807 ، رقم 1151)
[8] - أخرجه الخطيب البغدادى فى تاريخه (9/127) ، والطبرانى فى الكبير (19/395) ، وحسنه الألبانى فى الصحيحة (342) وفى صحيح الجامع (1/2328)
[9] - إحياء علوم الدين ، الإمام الغزالي (3/55)
[10] - أصول الدعوة ، عبد الكريم زيدان صـ100
[11] - أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/97) .
المرفقات
كيف-نستعيد-قيمنا-وأخلاقنا-الجميلة
كيف-نستعيد-قيمنا-وأخلاقنا-الجميلة