كيف نحافظ على المداومة على الأعمال الصالحة بعد رمضان :

الخطبة الأولى :
عباد الله :
إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) [النحل53] أجلُّها وأعظمُها الهدايةُ لدين الإسلام ، والتوفيقُ للطاعة ، والإعانةُ على أدائها ، والقيامُ بها .
وإنه ليس شيء أحب إلى المؤمن الصادق من أن يبذل ما يملك ويترك ما يحب ، من أجل نيلِ رضا ربه عنه ، ومغفرةِ ذنوبه ، ومحو زلاته، وإقالةِ عثراته ، فهو يجتهد لله بالطاعة بقلب منيبٍ وجل خائف ، أمله في الله لا ينقطع ، ورجاؤه في رحمة أرحم الراحمين لا يخيب .
عباد الله :
وفي تقلباتِ الدهر وتصرمِ الأيام ، ومضيِ المناسبات ، مواقفٌ للمحاسبة والمساءلة ، وعلى المرء أن يقفَ وقفةَ صدقٍ مع نفسه ووقته ، فكل الناس عند ربهم موقوفون ، وجميعهم بين يديه مسؤولون ، الرسلُ وأممهم مسؤولون ( فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ ) [الأعراف6].
وأهلُ الصدق مسؤولون ( لِيَسْأَلَ ٱلصَّـٰدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ) [الأحزاب8]. وذوو النعمة مسؤولون ، وعن النعيم محاسبون ( ثُمَّ لَتُسْـئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ ) [التكاثر:8].
كل الناس يغدو ، فبائع نفسه: فمعتقها أو موبقها .
فالاستمرار على الطاعة والحرص على إتقان العمل ، دليل على توفيق الله للعبد ، فلقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه ، ثم يهتمون بعدويخافون من رده ، وهؤلاء هم المؤمنون الذين قال الله فيهم: ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) [المؤمنون 60 ] « قالت عائشة : يا رسول الله ! هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : لا يا بنت أبي بكر ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف الله عز وجل » رواه الترمذي ، وابن ماجه (1) ، وفي رواية « وهم يخافون ألا يقبل منهم » رواه أحمد في المسند ، والترمذي في سننه (2) ، ولذلك لما قيل لابن عمر - رضي الله عنهما - ، ما أكثر الحاج ، قال : (بل ما أكثر الركب وأقل الحاج ) ، وقال علي - رضي الله عنه - : (كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل ، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (المائدة الآية 27) ) (3) ، وقال أبو الدرداء – رضي الله عنه - : ( لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها ، إن الله يقول : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) [المائدة 27] (4) ، وقال عبد العزيز بن أبي رواد - حاكياً حال السلف رحمهم الله- : " أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم ، أيقبل منهم أم لا ؟ ) (5) ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل ( أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبلُ غيرَها ، ولا يرحمُ إلا بها ، ولا يثيبُ إلا عليها ، فإن الواعظين بها كثير ، والعاملين بها قليل ) (6) .
وإن من الخسارة كذلك ، أن يلوث الصائم ما عاشه فيما مضى من لذة المناجاة ، ونعيم الطاعة ، بالمعاصي والذنوب ، وأن ينقضَ تلك العهود التي قطعها على نفسه ألا يعود إلى الخطأ والزلل مرة أخرى ، وإذا كان فعلُ السيئة قبيحا ، والوقوعُ قي الخطيئة جرما ، فإن ذلك يعظمُ ويقبحُ إذا كان بعد طاعةٍ من أجل الطاعات ، ألا وهي صيامُ شهر الصوم والعبادة والطاعة .
إن الخيرَ كلَّ الخير ، والطُّهرَ كلَّ الطهر، أن يصومَ أحدُنا وترى أثارَ صومهِ عليه ، بلزوم العهد القديم والمسلك القويم ، الذي كان عليه في الصيام ، وليكن خروجنا من هذه الطاعات ، خروجُ الغانمِ الكاسب المغتبط بما وفقه الله لطاعته ولزوم عهده ، فالمؤمنُ الصادقُ لا يخرج من طاعة إلا ويدخل في أخرى ، محياه ومماته لله رب العالمين .
وإن من علامةِ قبولِ الطاعة أن توصلَ بالطاعة بعدها ، وعلامةُ ردها أن توصل بمعصية بعدها – كما ذكر ذلك أهلُ العلم والمعرفة بالله - ، فما أوحشَ ذُلَّ المعصيةِ بعد عز الطاعة ، ولذلك كان الإمام أحمد - رحمه الله – يقول : ( اللهم أعزني بطاعتك ولا تُذلني بمعصيتك ) (7) ، وكان عامةُ دعاءِ إبراهيمَ بنِ أدهم - رحمه الله- : ( اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة ) (8) . وقد تضعف النفس في الاستمرار على العمل الصالح والمداومة عليه ، ولمعالجة هذا الداء لا بد من العزيمة الصادقة على لزومِ العمل والمداومةِ عليه ، أيا كانت الظروفُ والأحوالُ ، وهذا يستلزم نبذَّ العَجْزِ والكسلِ والدَّعةِ والخمول ، وإذا كان الإنسانُ يكره الموتَ الذي فيه انقطاعُ حياتِهِ ، ويكره الهَرَمَ الذي فيه انهيارُ شبابهِ وقوتِه ، ألا يدرك أن هناك أمراً - لربما كان أشدَّ منهما - وهو العَجْزُ والكسل ، وضعفُ الهمةِ والتراخي ، والتسويفُ وركوبُ بحر التمني ، مما يُقعده عن كل عمل صالح ، ويُثبطه عن كل بر وطاعة .
وقد كانت حياةُ السلف - رحمهم الله - معمورةً بطاعة الله حتى يلقوا ربهم ، وأقوالُهم وأحوالهُم في ذلك كثيرة ، قال ميمون بن مهران :
( لا خير في الحياة إلا لتائب ، أو رجلٍ يَعمل في الدرجات، ومن عداهما فخاسر ) ، وقال بعضهم يحكي حالهَم : (كانوا يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس ) (9) ، يريد : أنهم كانوا لا يرضون كلَّ يوم إلا بالزيادة من عمل الخير ، أما حالنا فكل يوم أسوء من الذي قبله . سئل – صلى الله عليه وسلم - : أي الناس خير؟ قال: « من طال عمره وحسن عمله ، قيل: فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره وساء عمله » رواه الترمذي ، أحمد في المسند . (10) .
فالمؤمن الصادق لا يزدادُ بطول عمره إلا خيرا ، روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « لا يتمنين أحدكم الموت ، إما محسناً فلعله يزدادُ خيرا ، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب » (11) ، وعنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يتمنى أحدكم الموت ، ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه ، إنه إذا مات أحدُكم انقطع عمله ، وإنه لا يزيدُ المؤمنَ عمرُهُ إلا خيراً » رواه مسلم في صحيحه (12) ، وعنه أيضاً – رضي الله عنه - قال : قال رسولالله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَحَد يَمُوتُ إِلاَّ نَدِمَ». قالُوا وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولُ الله؟ قالَ: «إِنْ كَانَ مُحْسِناً نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسيئاً نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ نَزَعَ » رواه الترمذي في سننه (13) ، فإذا كان المحسنُ يندم على ترك الزيادةِ من العمل الصالح ، فكيف يكون حالُ المسيئ ؟ وكان السلفُ - رحمهم الله - لا يفرحون بمرور الأيام والليالي ، يقول أبو الدرداء : (إنما أنت أيام ، كلما مضى منك يوم مضى بعضك )، وقال بعضهم : (كل يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة) ، ولذا كانوا يتأسفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم الصالحة بالموت ، بكى معاذ - رضي الله عنه - عند موته وقال : ( اللهم إني لم أحب البقاء في الدنيا لا لغرس الأشجار ، ولا لجري الأنهار ، إنما أبكي لظمأ الهواجر ، وقيامِ الليالي المظلمة ، ومزاحمةِ العلماء بالركب، ومجالسةِ أناس ينتقون أطايب الكلام ، كما يُنتقى أطايبُ الثمر) ، وقال أحد الصالحين عند موته: (إنما أبكي على أن يصلي المصلون ولستُ فيهم ، وأن يصومَ الصائمون ولستُ فيهم ، ويذكرَ الذاكرون ولست فيهم ) (14).
فما أعظمَ الانتكاسةَ بعد الطاعة ، وما أقبحَ العودَ إلى الغفلةِ بعد الذكرى والموعظة ، كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : « اللهمثبت قلبي على دينك » رواه ابن ماجه في سننه بهذا اللفظ ، وصححه الألباني (15) ، ورواه الترمذي في سننه بلفظ : « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك » (16) ، ورواه أحمد في المسند بلفظ : « اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك » (17) ، ومن دعائه – صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور » جزء من حديث عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه - ، رواه مسلم في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، وابن ماجه في سننه (18) ، والمعنى : أي من النقصان بعد الزيادة ، وقيل : هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية ، أو الرجوعِ من شيء إلى شيء من الشر ، وقيل : الرجوعِ عن حالة مستقرة جميلة . (19) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..

الخطبة الثانية :
عباد الله :
وإن للمداومة على الأعمال الصالحة أثاراً حميدة منها : دوامُ اتصال القلب بخالقه وبارئه ، مما يعطيه قوةً وثباتا ، وتعلقاً بالله عز وجل ، وتوكلاً عليه ، ومن ثم يكفيه همَه ، ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) [الطلاق3] . ومن الآثار كذلك : تعاهدُ النفس عن الغفلة ، وترويضُها على لزوم الخيرات ، حتى تَسْهُلَ عليها فلا تكاد تنفك عنها رغبة فيها ، وقد قيل : (نفسك إن لم تشغلها بالطاعة ، شغلتك بالمعصية) ، ومن أثار المداومةِ على العمل الصالح ، أنه سببٌ لمحبة الله تعالى عبدَه وولايتَه له ، وذلك فضل عظيم ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل » رواه البخاري ، ومسلم واللفظ له (20) . قال النووي : ( وفيه الحث على المداومة على العمل ، وأن قليلَه الدائمَ خيرٌ من كثير ينقطع ، وإنما كان القليلُ الدائمُ خيراً من الكثير المنقطع ، لأن بدوام القليل تدومُ الطاعةُ والذكرُ والمراقبةُ والنيةُ والإخلاصُ والإقبالُ على الخالق سبحانه وتعالى ، ويثمرُ القليلُ الدائمُ بحيث يزيدُ على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة ) (21) .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها » (22) ، ومن آثار المداومة على العمل الصالح ، أنها سبب لحسن الختام ، لأن المؤمنَ لايزال يجاهد نفسه بفعل الطاعات وترك المحرمات ، حتى يقوى عزمُه ، ويستقيمَ حالُهُ ، ويستمرَ على العمل الصالح حتى الممات ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) [إبراهيم 27] .
__________________
(1) رواه الترمذي (3175) ، وابن ماجه (4198)
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 6/159، والترمذي في سننه ( 5/ 306، 307 برقم 3175) .
(3) لطائف المعارف (375).
(4) ذكره ابن كثير في تفسيره (3/ 85) وعزاه لابن أبي حاتم عنه .
(5) لطائف المعارف (376) .
(6)ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/485) وعزاه لابن أبي الدنيا عنه .
(7) لطائف المعارف (129) .
(8) لطائف المعارف (129) .
(9) لطائف المعارف (517) .
(10)رواه الترمذي- كتاب الزهد- ، (4/489) الحديث رقم (2330) ، و أحمد في المسند (5/40 و 43) .
(11) رواه البخاري في صحيحه- كتاب المرضى- باب تمني المريض الموت (10/127) برقم (5673) .
(12) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الذكر والدعاء- باب كراهة تمني الموت لضر نزل به (17/ 8) .
(13) رواه الترمذي في سننه- كتاب الزهد- (4/522) برقم (2404) .
(14) لطائف المعارف (519) .
(15) رواه بهذا اللفظ: ابن ماجه في سننه- كتاب الدعاء- باب دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم – (2/325) ، وصححه الألباني .
(16) رواه الترمذي في سننه- كتاب الدعوات (5/503) برقم (3522) .
(17) رواه أحمد في المسند (2/168) .
(18) جزء من حديث عبد الله بن سرجس -رضي الله عنه - ، روي "الكور" و "الكون " ، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب استحباب الذكر إذا ركب دابته متوجها لسفر حج أو غيره (9/111) .
(19) ينظر: شرح النووي لمسلم (9/111) .
(20) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الرقاق- باب القصد والمداومة على العمل (11/294) برقم (6464) ، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب صلاة المسافرين- باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (6/72) واللفظ له) .
(21)شرح النووي على صحيح مسلم (6/71) .
(22) رواه البخاري ، الرقاق (6137)
المشاهدات 5533 | التعليقات 2

كيف نحافظ على المداومة على الأعمال الصالحة !!!

عنوان طويل شيخ ضيدان ...

ولماذا لايكون (( كيف نداوم على الأعمال الصالحة بعد رمضان )) ؟؟


مروركم فيه كرم على ما تسميتم به ، صدقت - والله - ولوقلنا : المحافظة على الأعمال الصالحة بعد رمضان ، لكان أحسن .
ملحوظة في محلها لم أتنبه لها . بارك الله فيك ، ونفعنا بعلمك .