كيف عرف الإجابة؟؟

سامي بن محمد العمر
1446/03/30 - 2024/10/03 22:58PM

كيف عرف الإجابة؟

(عن حديث: "ليهنك العلم أبا المنذر")

 

أما بعد:

فيا تُرى..

يا تُرى كيف عرَفَ الإجابة؟ وكيف اهتدى للإصابة؟

يا تُرى كيف استخرجها من بين ستةِ آلاف من أخواتها، وميّزها بالأفضلية دون سابق وحيٍ علِمه، أو دليلٍ وصلَه؟

إنه توفيقُ اللهِ تعالى لعبدِه؛ حين يجعلُ أمرَ التوحيد في قلبه أعلى المنازل، وعظمةَ الله فيه أسْنى المراتب؛ ومحبةَ كلامه وكتابه فوق كلِّ المحبوبات؛ والشوقَ إلى لقائه فوق كل المغرِيات.

ذاك العبدُ ثمرةٌ من ثمار محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتلميذٌ من تلاميذه الأفذاذ.

الأنصاريُّ الذي عاش قبل الهجرة باحثاً عن الهداية حتى كانت بيعةُ العقبةِ الأولى التي التقى فيها ولأولِ مرةٍ بمعلِمه العظيم، وسَمِع منه كلامَ الرب الكريم.

فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في المدينة؛ لم يكن أمرٌ من الأمور وشغلٌ من المشاغل يستطيعُ أن يُلهيه عن تلقي القرآن من فمِ النبي صلى الله عليه وسلم غضاً طرياً؛ ليكون من أوائلِ الحفَظَةِ الكتَبَة؛ وأرفعَ من نالَ الشهادةَ المحمدية: بأنه أقرأُ هذه الأمة.

ذاك العبد: سيدُ القراء، والمذكورُ باسمه في السماء، وإمامُ العلم والعمل، والمشهودُ له بالسيادة فيهما ومزيدِ الفضل.

وفي يومٍ من أسعدِ أيامه يوقِفُه النبي صلى الله عليه وسلم ليأتيَه بمفاجأةٍ ما كانت تخطُرُ له على بالٍ، ومكانةٍ لا يُمكن أن تُشترى بمالٍ:

فعن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك»، فقال: آلله سمَّاني لك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الله سمَّاكَ لي»، قال: فبكى([1]) [أي: من شدة السرور والفرح]

{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]

ذاكم - يا رجالَ الإسلام ويا فتيةَ القرآن -: أبو المنذر أُبيُّ بن كعب؛ المتبتلُ الأواه، التقيُّ النقيُّ، العابدُ الزاهد، سيدُ المسلمين بشهادةِ فاروقِها عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنهم أجمعين.

أبو المنذرِ الذي لم تستطعِ الدنيا بعد وفاةِ النبي صلى الله عليه وسلم أن تفْتِنه؛ ولا زخارفُها أن تخدَعَه؛ فظلَّ ثابتاً على سيرته التي كان عليها: تالياً لكتاب ربه؛ مُعلماً للناس سنةَ نبيه صلى الله عليه وسلم، واعظاً لهم ومُذكِّراً بخطورةِ الدنيا وفتْنَتِها حتى جاء أمرُ الله ليلحقَ بالركبِ الصالحين غيرَ مُغيِّرٍ ولا مُبدِّل؛ فرضي الله عنه وأرضاه.

ولكن ما سرُّ تلك الإجابة وكيف اهتدى فيها للإصابة؛ وأيُّ شيءٍ حصّله بعدما أدْلَى بها؟

ففي مشهدٍ تربوي من مشاهدِ الرسولِ الكريمِ والمربي العظيم؛ وفي لحظةٍ أخرى من لحظاتِ السعادةِ الغامرةِ التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يُتحفُ بها أُبياً؛ مما يدلُّ على شدةِ محبته له؛ سأله المصطفى صلى الله عليه وسلم - مختبراً ما حصّله من العلم؛ وفاحصاً لما يتميزُ به من الفهم- فقال: ((يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظمُ؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم. - وهذا مقامُ الأدب أمامَ إمامِ المرسلين؛ فما العلمُ إلا ما علمنَاهُ اللهُ ورسوله؛ فكررَ عليه السؤالَ - قال: ((يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟)) قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] - أيْ: آيةَ الكرسي - قال: فضربَ في صدري، وقال: ((واللهِ ليهنِكَ العلمُ أبا المنذر))([2]).

  نعم والله ليهنِك العلم؛ فمِن بينِ أكثرَ من ستةِ آلاف آيةٍ؛ كيف اهتديت إليها؟ وكيف بزغ نجمها في بصيرتك؟ وكيف عرفتَ لها فضلها؟ وميزتَ لها مكانتَها بكل هذه الدقة؟

هنيئا لك ضربةُ الصدرِ المحمدية، والشهادةُ النبويةُ المطرزةُ باليمينِ الطاهرة ((والله ليهنِك العلم)).

إنَّ السرَّ في تلك الإجابةِ لا يتجاوزُ أبداً ما قامَ في قلبه رضي الله عنه من توحيدِ الله وتعظيمِه وتبجيلِه وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه؛ فلم يجد آيةً تحوي تلك الأمورَ بنظمٍ تنمحقُ دونه بلاغةُ كلِّ بليغٍ، وتضعفُ أمامه فصاحةُ كلِّ فصيحٍ سوى هذه الآية.

فما العلمُ بكثرةِ المعلوماتِ، ولكنّ العلمَ تعظيمُ ربِّ الأرضِ والسماوات.

بارك الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية

 

أما بعد:

إنَّ آية الكرسي قد حوتْ عشرَ جملٍ من تعظيمِ الله تعالى([3]) ما كانَ ليقفَ أمامَها مسُّ شيطان، ولا أذِيةُ إنسان؛ فكانتْ حرزاً لتاليها وأمان، وشهادةً لمن واظبَ عليها بعد كل صلاةٍ بدارِ الغفران.

فقوله تعالى: {اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} إخبارٌ بأنه المنفردُ بالألوهيةِ لجميعِ الخلائق.

{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي: الحيُّ في نفسه الذي لا يموتُ أبدًا، القيِّم لغيره؛ فجميع الموجودات مفتقرةٌ إليه وهو غنيٌّ عنها ولا قوامَ لها بدون أمره.

{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} أي: لا يعتريه نقصٌ ولا غفلةٌ، ولا ذهولٌ عن خلقه؛ بل هو قائمٌ على كل نفس بما كسبت، شهيدٌ على كل شيء، لا يغيبُ عنه شيء، ولا يخفى عليه خافية.

{لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} إخبار بأنَّ الجميعَ عبيدُه وفي ملكه، وتحتَ قهره وسلطانه.

{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} هذا من عظمتِه وجلالِه وكبريائِه عزَّ وجلّ، أنه لا يتجاسرُ أحدٌ على أن يشفعَ عنده، إلا بإذنه له في الشفاعة.

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} دليلٌ على إحاطةِ علمِه بجميعِ الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاء} أي: لا يطَّلعُ أحدٌ من علمِ الله على شيءٍ إلا بما أعلمَهُ الله عزَّ وجلّ وأطلعَهُ عليه.

{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} (الكرسي) موضعُ القدمين، والعرشُ لا يقدُرُ أحدٌ قدرَهُ إلا اللهُ عز وجل.

وقوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي: لا يُثقِله ولا يُكرِثه حفظُ السماواتِ والأرضِ ومن فيهما ومَنْ بينهما، بل ذلك سهلٌ عليه، يسيرٌ لديه.

{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} فهو أعلى من كل شيء، وأعظمُ من كل شيء.

والدرسُ المستفاد أيها المسلمون:

أنَّ العلمَ والرفعةَ والعزةَ والشرفَ والمكانةَ العاليةَ في الدنيا والآخرة؛ طريقُها وبابُها: هذا الكتابُ العظيم؛ حفظاً وتلاوةً وتعلُّماً ومدارسةً.

فالتفِتوا إليه يا أمةَ الإسلام واغتنموا فيه أوقاتكم، وخصِّصوا له القدرَ الأكبرَ منها؛ فإنَّ كل ما تُقضى فيه الأوقاتُ من غيرِهِ وبالٌ وندمٌ وخسارةٌ.

 



([1]) البخاري (3809) ومسلم (799).
([2]) أخرجه مسلم في "صحيحه" (1 / 56 رقم 258)
([3]) مستفادة من تفسير ابن كثير (1/678).

المرفقات

1727985478_كيف عرف الإجابة؟.docx

1727985478_كيف عرف الإجابة؟.pdf

المشاهدات 958 | التعليقات 0