كيف تنسى اسرتك؟!

كيف تنسى أسرتك!
خطبة جمعة.
الخطبة الأولى.
الحمد لله الذي جعل المودة والرحمة بين الأزواج والزوجات ورغب في بناء الأسرة، نحمده سبحانه ونشكره على ما أسبغ من خير ونعمة. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ۚ) ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، دعا إلى الله بالحكمة وكان بأفعاله وأقواله أفضل قدوة من قال "خيركم خيره لأهله" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير آل وأسوة.
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ۖ ثم توفىٰ كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)
معاشر المسلمين: إن الأسرة أساس المجتمع، المسلم، واللبنة الأولى في بناء كيان الأمة، والنواة الكبرى في تشييد حضارتها، بنجاحها تقاس سعادة المجتمع، وبفشلها وسيرها في مزالق الضياع ومهاوي الردى يقاس إخفاق المجتمع وتقهقر الأمة. ولقد رغب دين الإسلام في بناء كيان الأسرة المسلمة، وإقامة صرحها، وتكوين قواعدها، وإشادة أركانها، والحفاظ على جوها الصافي وظلها الوارف، أن تشوبه غوائل الشر والبغضاء، وبوائق النزاع والشقاق، والشقاء والخلاف والعناء، وعوامل الشقاق والشحناء، فكان أن عني الإسلام أول ما عني في تكوين الأسرة، بأن شرع الزواج وحث عليه، ورغب في اختيار الزوجة الصالحة ذات الدين والخلق والمنبت الحسن؛ لكونها دعامة الأسرة المؤمنة.
وحث على إنكاح من تتحقق فيه الكفاءة في دينه وخلقه وأمانته، وما ذاك إلا لتنشأ الأسرة في كنف حياة رغيدة، وظل أسرة صالحة سعيدة، يقول الله جل وعلا: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي النساء خير؟ قال: التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها وماله بما يكره
أيها المسلمون: إن طريق الخير والصلاح والفلاح، وسبيل النجاة والعز والنجاح الموصل إلى بر الأمان وشاطئ السلام إنما يبدأ- أول ما يبدأ- بإصلاح الأسر وتربيتها على الإيمان والقرآن ومنهج الإسلام والسنة؛ لتكون صماما للأمان في المجتمع، محبة للخير والهدى، دارئة للشر والفساد والردى، قائمة بحقوق الله وحقوق عباد الله، راعية لحق الكبير والقريب وولي الأمر والعالم ومن له حق عليها، وإذا كانت الأسر- لا قدر الله- أوكارا للشياطين، وبؤرا للفساد والمفسدين، لا يسمع فيها ذكر الله، ولا يتلى فيها كتاب الله، وإنما يعمرها اللهو واللغو والباطل؛ فقل على الأمة: السلام... وإن المسئولية في تربية الأسر لتقع على الآباء والأمهات وعلى كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي، فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يعرف دوره، ويقوم بواجبه في الإسهام في صلاح الأسر والبيوت، وإبعاد وسائل الفساد عنهم… وإن مما يؤسف له- أشد الأسف- أن بعض الآباء- هداهم الله- لا يعرف أسرته إلا في مواعيد الطعام والنوم دون توجيه ولا تربيه، وبعضهم يحسب أن إسعاده لأسرته إنما هو بالمسكن والمطعم والمشرب والملبس، وإشباع رغباتها المادية، وتحقيق طلباتها الدنيوية، وهيهات أن تخرج هذه التربية المادية جيلا صالحا أو نشئا مستقيما في غياب التوجيه السديد والتربية السليمة! وإننا لنتساءل: لمن تترك تربية الأبناء والبنات إذا تخلى عنها المربون والآباء والأمهات؟ لمن تترك فلذات الأكباد ومهج النفوس وثمرات الفؤاد إذا تخلى عنها البيت والأسرة؟
فاتقوا الله عباد الله! وليقم كل منكم بواجبه تجاه بيته وأسرته، وإنه بفهم كل واحد منا حقوقه وواجباته تجاه أسرته وبالعمل بها تصلح الأسر، ويتحقق للمسلمين ما يصبون إليه من استقرار أحوالهم وسعادة مجتمعاتهم، وصلاح أبنائهم، -بإذن الله- تعالى وما ذلك على الله بعزيز.
جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيته". متفق عليه.
والأب الراعي هو القدوة لأبنائه، والطفل صورة عن بيئته وأسرته، وقديما قيل:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجى
ولكن يعلمه التدين أقربوه
عاتب بعضهم ابنه على العقوق وقد أهمل تربيته، فقال:
"يا أبتي! عققتني صغيرا فعققتك كبيرا، وأضعتني وليدا فأضعتك شيخا، وإنك لا تجني من الشوك العنب"
وأعظم من ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون، واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم)
وهنا وقفة مهمة!
البعض إذا قيل له اعتن بتربية أبنائك، واتقي الله فيهم... كن قريبا منهم... صاحبهم... اهتم بهم...
انظر أبناؤك لا يصلون! لا يحفظون القرآن، لا يتأدبون... لا، لا... إلخ
يقول مباشرة: "الهداية بيد الله!" -سبحان الله-!! كلمة حق أراد بها باطل!!
نقول له: إذا تعب ابنك ومرض وتألم بحثت بكل قوتك عن العلاج وسعيت في أسبابه!؟
فلماذا لم تقل الله الشافي وتتركه يتألم!!
لأن تعرف أن الله الشافي بأمر بالأسباب!
فيا -سبحان الله-!! أعملت أسباب الشفاء وتركت أسباب الهداية!!
نعم هداية الأبناء بيد الله وحده ولكن عليك أن تفعل أسباب أسباب هدايتهم من الاحتواء والكلمة الطيبة والتنشئة الصالحة فإذا فعلت ذلك ولم يهتد أبناؤك تكون قد أديت ما عليك وأبرأت ذمتك عند الله تعالى.
والأصل أن من فعل أسباب هداية أبنائه يهديهم الله ويصلحهم وهذا واقع ملحوظ مشاهد كما لا يخفاكم ولكن قد يفعل العبد الأسباب ولا يهتدي الأبناء وذلك حكمة من الله كما حصل مع ابن نوح -عليه السلام- وهذا قليل ولله الحمد.
اللهم بارك لنا في أولادنا وبناتنا ووفقهم لطاعتك، وارزقنا برهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن إنك سميع الدعاء.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على جزيل النعماء، والشكر له على ترادف الآلاء، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام المتقين وسيد الأولياء، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الأصفياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
 فيا أيها الإخوة والأخوات في الله: اتقوا الله تعالى في أنفسكم وفي أسركم، وفي أولادكم وبناتكم وتفقدوهم رحمكم الله عند ترك الأوامر وفعل الزواجر، واعملوا حفظكم الله على حماية أسركم من آفات فسادها، وتهدم أركانها، وتداعي بنيانها، وأقيموا سدا منيعا وحاجزا كبيرا بينكم وبينها، وإن الآفات التي تهدد الأسرة منها ما يكون داخل أروقتها، ومنها ما يكون من تأثير خارج عنها، فكونوا على حذر وفطنة، التزموا في جميع أموركم الأسرية نهج الإسلام الحق، وطريق السنة النبوية المطهرة، والسيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وليقدم كل واحد في المجتمع لا سيما المعنيون بشئون التربية والتعليم وشئون الشباب والرياضة، والقائمون على وسائل التوجيه والإعلام، وكذلك أهل العلم والدعوة والإصلاح وأهل الفكر والثقافة، على الجميع أن يقوموا بالتركيز على جوانب صلاح الأسر، فإنها المجتمع المصغر، وإذا صلحت، صلحت المجتمعات كلها -بإذن الله- تعالى ويومها لا نشكو من تمرد الأبناء، وكثرة الخلافات الزوجية والأسرية، والمشكلات العائلية في المجتمعات.
أيها المؤمنون: صلاح الأبناء والبنات أمنية الآباء والأمهات، فيا لها من نعمة عظيمة، ومنة كريمة جميلة، حين تصبح وتمسي، وترى ذريتك، وقد من الله عليهم بالصلاح والهداية، يخافون الله، ويقيمون الصلاة، ويحافظون على دينهم، ويتخلقون بالأخلاق الكريمة، ذرية تحبهم ويحبونك، وتودهم ويودونك، تأمرهم فيطيعونك، تجد منهم كل احترام وتقدير يبرون بك، وينفعون أنفسهم، وإخوانهم ومجتمعهم وأمتهم، إن الولد الصالح لمن خير ما يدخره المرء لنفسه بعد وفاته، فأولاد الرجل من كسبه، وعملهم الصالح من عمله، ودعاؤهم الصالح زاد له في قبره... وكمْ من أب كان مغمورا فصار مشهورا، وغدا بالخير مذكورا، وحل في الجنة قصورا ، بسبب ابن له رباه فأحسن تربيته، فبارك الله فيه ونفع به الناس! ولك أن الولد الصالح يكون سببا في ارتفاع درجة والده في الجنة؛ ففي الحديث: إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول يا رب من أين لي هذا فيقول باستغفار ولدك لك.
بل والبشرى العظيمة بأن الأسرة الصالحة؛ لا ينتهي اجتماعنا في الدنيا فحسب بل تجتمع مرة أخرى في الجنة.
قال عز وجل:
(والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين) الطور/ 21
قال ابن كثير في تفسيره: أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين لتقر أعينهم بهم، حتى أنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتنانا من الله وإحسانا من غير تنقيص للأعلى عن درجته، كما قال الله تعالى: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم. انتهى
وهنا نذكر بأعظم سبب يرجى أن يصلح الله به الولد؛ ذكرا كان أم أنثى، وذلكم السبب مما يملكه كل والد أبا كان أو أما، ذلكم هو دعاء الوالد لولده، فاحرصوا رحمكم الله على الدعاء لأولادكم بصلاحهم كما كان أنبياء الله ورسله، فهذا إبراهيم -عليه السلام- يقول: (رب هب لي من الصالحين) ويقول: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) ويقول زكريا عليه السلام: (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء)
ويقول تعالى في صفات عباد الرحمن: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) فأكثروا رحمكم الله من الدعاء لهم، واعلموا أن صلاحهم ينفعكم بعد موتكم يقول تعالى: (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم)
ويقول: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) وقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث وذكر منها وولد صالح يدعو له فخذوا بأسباب صلاح أبنائكم وذرياتكم قولا وعملا ودعاء وقدوة تصلح أنفسكم وأسركم ومجتمعاتكم بإذن الله، واحذروا من الدعاء عليهم، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم)
فاستبدلوا رحمكم الله الدعوات السيئة السلبية على الأولاد والبنات، بدعوات حسنة إيجابية؛ كقولكم الله يهديكم، الله يصلحكم، الله يوفقكم، الله يرضى عنكم، فهذه الكلمات تجعل أولادكم يوفقون في الدنيا والآخرة بإذن الله تعالى.
اللهم إنا نسألك أن تهدي أولادنا وبناتنا وأن تفتح لهم طرق الخير، وترشدهم إلى سبل الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة. اللهم أصلح أولادنا وبناتنا وبارك لنا فيهم ووفقهم لطاعتك وارزقنا برهم، اللهم اجعلهم لنا مطيعين غير عاصين ولا عاقين ولا خاطئين، اللهم أعنا على تربيتهم وتأديبهم وبرهم واجعل ذلك خيرا لنا ولهم. اللهم ارزقهم المعلم الصالح والصحبة الطيبة وجنبهم رفقاء السوء، وارزقهم الحكمة والعلم النافع، وزين أخلاقهم بالحلم وأكرمهم بالتقوى وجملهم بالعافية وعافهم واعف عنهم يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعدائك أعداء الدين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، اللهم وفق خادم الحرمين وولي عهده لكل خير اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وسدد على طريق الخير خطاهم، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين...
اللهم كن لأهلنا في فلسطين وارحم ضعفهم وفرج عنهم عاجلا غير آجل وأخرج اليهود منها أذلة صاغرين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا، وارحم والدينا، وارحم موتانا وشهداءنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
 
المرفقات

1710974119_كيف تنسى أسرتك؟.pdf

المشاهدات 538 | التعليقات 0