كيف تنال القرة ؟

شايع بن محمد الغبيشي
1444/12/25 - 2023/07/13 15:26PM

كيف تنال القرة ؟

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله. أما بعد:

 عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ([1]) 

إخوة الإيمان حديثنا اليوم عن: "قرة عُيون المحبين، ولذة أرواح الموحدين، وبستان العابدين، ولذة نفوس الخاشعين، ومحك أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين" فمن تكون؟ يجلي ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: « وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»[2] نعم إنها الصلاة نعيم الحياة ولذتها وأنسها، حتى قال بعض السلف: " إني أدخل الصلاة فأحمل هم خروجي منها ويضيق صدري إذا عرفت أنى خارج منها،... ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه فإن قرة عين العبد نعيمه وطيب حياته به".[3] و" قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو في الصلاة التي هي صلة بالله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه، فكيف لا تكون قرة العين"[4] ، وكل مسلم يتمنى أن تكون الصلاة قرة عين له ولكن كيف ينال هذه القرة؟

 للعبد في الصلاة أحوال من وفق لها كانت الصلاة قرةَ عينهِ وهذه الأحوال هي:

الحال الأول: الطهارة فلا يمكن الدخول في الصلاة إلا بها وإلا فالصلاة مردودة على صاحبها عن أبي هُرَيْرَةَ، قالُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»[5]

والوضوء كما أنه طهارة حسية فهو أيضاً طهارة معنوية وتنقية من الذنوب والآثام حتى يدخل العبد على ربه طاهر القلب والبدن فعن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ»[6]

فعلى أن يستشعر أن الوضوء تنقية للنفس من وحل الذنوب ليدخل على ربه نقياً طاهراً فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وهو يحب المتطهرين،  وكم لهذا المعنى من أثرٍ في التلذذ بالصلاة والخشوع فيها والأنس بها.

الحال الثاني: الافتقار والتذلل والخضوع وذلك ما يدل عليه حال المصلي وهيئته إذا قام بين يدي الله ونظر إلى موضع سجوده نظرَ المفتقرِ إلى فضل الله ورحمته وجوده، نظر الفقر المسكين المحتاج فهو فقير واقف بباب الغني الحميد يلتمس فضله وعطاءه، وكذا حال الركوع والسجود وهيئة الجلوس كلها أحوال تدل على عظيم افتقار العبد إلى ربه، ومن دخل على ربه من هذا الباب نال السعادة والهناء وفاز بهبات الرب وعطاياه وزاده الله رفعة ومحبة وتوفيقاً، فتلك الحالة أشرف مقامات العبيد، "فالموفق منهم الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه ويتضرع له ويسأله ألا يكله إلى نفسه طرفت عين وأن يعينه على جميع أموره ويستصحب هذا في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.[7]

الحال الثالث: تعظيم الله وخشيته، تأمل أول ما يقول المصلي (الله أكبر)، الله أكبر من كل شيء تكبير وإجلال لله عز وجل ( الله أكبر) تصحب المصلي من أول الصلاة إلى نهايته.  تأمل دعاء الاستفتاح: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرَكَ»  كله ثناء وتعظيم وإجلال لله جل وعلا، تأمل ذكر الركوع ( سبحان ربي العظيم ) ثم ذكر السجود ( سبحان ربي الأعلى ) هكذا يستشعر المصلي تعظيم الله جل وعلا فيمتلأ القلب من إجلال الله وتعظيمه، ويورثه ذلك الخشوع والخشية لذا  كان صلى الله عليه وسلم إذا كان في الصلاة سمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وكان أبو بكر رجل أسيف، وكان عمر يبكي في الصلاة حتى لا يسمع صوته تعظيماً وإجلالاً وخشية لله تعالى.

الحال الرابع: الحمد والثناء على الله ولا أحد أحبُ إليه المدح والثناء من الله فهو أهل الثناء والمجد والصلاة من أولها إلى آخرها مدح وحمد وثناء على الله عز وجل، تأمل ذكر الاستفتاح فهو ثناء على الله تأمل سورة الفاتحة تأمل دعاء الرفع من الركوع «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ» تأمل التشهد هذا الذكر العظيم: " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " والله يحب أن يحمده عبد هو يثني عليه.

الحال الخامس: تنزيه الله عم لا يليق به بقولك سبحان الله فالعبد يسبح ربه في استفتاح صلاته وفي الركوع والسجود، وتنزيه الله من أشرف الأعمال فالله يسبح له من في السماوات ومن الأرض {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} سبحانه ما أعظمه وأجله وأعلاه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ واشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان حمد عبده ورسوله أما بعد:

عباد الله ومن أحوال نيل القرة والسعادة بالصالة

الحال السادس: حال القرب من الله بأن يستشعر العبد أن متصل بالله قربٌ منه سبحانه، قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: «مَنْ مِثْلُكَ يَا ابْنَ آدَمَ خُلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمِحْرَابِ وَالْمَاءِ كُلَّمَا شِئْتَ دَخَلْتَ عَلَى اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ»[8] تأمل ماذا قال الرب حل وعلا في الحديث القدسي عن الصلاة واستشعر هذا الحوار العظيم بن المصلى وبين ربه عز وجل فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اللهُ تَعَالَى: "قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ "[9]

وفي حال السجود يكون العبد أقرب شيء إلى ربه، وهو أعظم موطن لطلب الحاجات ونيل العطايا والهبات عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ».[10] قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: مِنْ أَحَبِّ حَالٍ يَحْمِدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَبْدَ عَلَيْهَا أَنْ يَجِدَهُ عَافِرًا وَجْهَهُ "[11]

الحال السابع: حال الخوف من الذنب والطمع في المغفرة والسلامة من الذنوب والآثام، تأمل دعاء الاستفتاح الذي هو أول أذكار الصلاة عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ القِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً - قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ: هُنَيَّةً - فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: " أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ "[12] بهذا الدعاء يقبل العبد على ربه بقلب منكسرٍ طامع في عظيم رحمته ومغفرته، تأمل دعاء الجلسة بين السجدتين: " رب اغفر لي، رب اغفر لي " وكذلك: "رب اغفر لي، وارحمني، واجبرْني، وارفعني، وارزقني، واهدني"، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ.[13]، وهذا وهو رسول الله الذي عفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

 الحال الثامن: التأمل في أسماء الله جل وعلا واستشعار معانيها فالصلاة تعلق العبد بأسماء الله سبحانه وتعالى: الأكبر والرحيم والرحمن والمالك والعظيم والسميع والعلي والحميد والغفور، إن العيش مع هذه الأسماء يجعل للصلاة لذة وحلاوة ومذاقاً يملأ النفس أنساً وسرور وسعادة وهناء.

الحال التاسع: الدعاء فالله جلا وعلا يحب من عباده أن يدعوه فالفاتحة دعاء ودعاء الجلوس بين السجدتين فيه كل مطالب العبد " رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَارْفَعْنِي، وَارْزُقْنِي، وَاهْدِنِي " والسجود أعظم وأفضل مواطن الدعاء وبعد التشهد موطن من مواطن إجابة الدعاء.

هذه الأحول هي أحب أحول العبد إلى الله، فالله يحب المتطهرين ويحب من عبده أن يفتقر إليه، فأفضل الصلاة طول القنوت، وأقرب أحوال العبد سجوده لربه جل وعلا، وأحب الكلام إلى الله: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ. وهذه الأحول كلها تجمعها الصلاة، فمن استشعرها واستحضرها كانت الصلاة قرة عينه وأنسه وسعادته وسروره، والله المستعان.



([1])  [آل عمران : 102].
[2] / رواه الإمام أحمد والنسائي وصحيح الألباني.
[3] / طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 321)
[4] / طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 40)
[5] / رواه البخاري
[6] / رواه مسلم
[7]/ تيسر الكريم الرحمن صـ687ـ بتصرف
[8] / الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 246).
[9] / رواه مسلم.
[10] / رواه مسلم
[11] / الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 147)
[12] / رواه البخاري
[13] / رواه البخاري

المرفقات

1689251151_كيف تنال القرة ؟.pdf

المشاهدات 562 | التعليقات 0