كيف تسبق إلى ربّك بقلبك؟

محضي عبد المالك
1444/12/12 - 2023/06/30 10:44AM
الخطبة الأولى:
 
الحمد لله المحمود بالأسماء والصّفات، الممدوح بكلّ اللّغات على جميع الحالات، أحمدُه سبحانه وأشكرُه، وأستعينُهُ وأستغفرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كريمٌ يُباهي بعِبادِه المُقبلين عليه بالمحبّة والطَّاعات، وأشهد أنَّ سيّدنا مُحمَّدا عبدُهُ ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، بلَّغ الرّسالة، وأدّى الأمانة، ونصح للأمَّة، وجاهد في الله حقّ جهاده حتَّى أتاه اليقين.
يتيمٌ أشْبَعَ الدُّنيا أبُوَّة ** رقيقُ الطَّبع محمودُ السّجايا
به نزدادُ إيمانًا وقوَّة ** ألا صلُّوا على خير البرايا
اللّهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك سيّدنا محمَّد، اللّهم واجعلنا من صالحي أمَّتِه، واحشرنا يوم القيامة تحت لوائِهِ وفي زمرَتِه.
أمَّا بعد: فاتّقوا الله عباد الله حقّ التّقوى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
معاشر الأحبّة الكرام: رأينا كيف أنَّ أقواما سبقونا إلى حجّ بيت الله وأداء المناسك، رأيناهم عبر الشّاشات ووسائل التّواصل وهم يقفون بعرفات، وهم يسكبون العبرات، ويرجون إقالة العثرات، رأيناهم وهم يطوفون، وللجمرات يرمون، ولربّهِم يُلبّون، رأيناهم:
وَقَدْ كَشَفُوا تِلكَ الرُؤوسِ تَواضُعا * لِعِزَّةِ من تَعْنُو الوُجوهُ وَتُسلمُ
يُهلُّونَ بالبَيدَاءِ: لَبَّيكَ رَبَّنَا * لك المُلْكُ والحَمْدُ الذِي أَنْتَ تَعلَمُ
دَعَاهُم فَلَبَّوهُ رِضىً وَمَحبَّةً * فلما دَعَوْهُ كانَ أَقْرَبَ مِنْهُمُ
فَللهِ ذاكَ المَوقفُ الأعظمُ الذِي * كَموقِفِ يومِ العَرضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ
وَيَدنُو بِهِ الجَبَّارُ جلَّ جَلالُهُ * يُباهِي بهم أَمْلاكَهُ فهو أَكْرَمُ
يقولُ: عِبادِي قد أَتَونِي مَحَبَّةً * وإنِّي بهم بَرٌّ أَجودُ وَأَرحمُ
فَأُشهِدُكُم أنِّي غَفَرتُ ذُنُوبَهُم * وَأَعْطَيْتُهُم مَا أَمِلُوهُ وأَنْعَمُ
فَبُشرَاكُم يا أَهلَ ذَا المَوقفِ الذِي * بهِ يَغفرُ اللهُ الذُّنُوبَ وَيرحمُ
يرى الإنسان بقلبه قبل عينيه تلكم المشاهد، فلا يملك إلّا أن يقول بلسان حاله وخفقات قلبه:
خذوني خذوني إلى المشعر * خذوني إلى الحجر الأسود
خذوني إلى زمزم علَّها * تُبرِّدُ من جَوفيَ المُوقَد
خذوني لأستار بيت الإله * أشدُّ به في ابتهالٍ يدي
دعوني أحطُّ على بابه * ثِقالَ الدُّموع وأستنفِدِ
فيا أيُّها المُشتاق بقلبِكَ للوُفُودِ على ربّك: أبشّرُكَ اليومَ وأبشّرُ نفسي ببشارةٍ إلهيَّةٍ عظيمة، فأقول: إذا كان البدن والأسباب المادّيّة قد تخلَّفت بك عن حج بيْتِ ربّك، فإنّ بإمكانك أن تسبق أولئك الحجيج بقلبِك، فقد يُقصّر البدنُ في العبادة والطّاعة، ولكنَّ القلبَ -إذا استجمع ما فيه مِن شَوْقٍ وإقبالٍ- لن يُقصّرَ أبدا، قد تُسْبَقُ بالبدن، وتَسْبِقُ بالقَلب. وهذا معنى عظيمٌ قرَّره ربّنا في كتابه، حين ذكر لنا وصوّر لنا مشهدا لِسَبْقِ القلوب، فقال جل جلاله لنبيه ﷺ: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾. اشتاقت قلوبهم، وصدقت مشاعرهم، ودمعت عيونهم، فسبقوا في الأجر بعض من خرجوا بأبدانهم للجهاد، وقال نبيُّنا ﷺ في حقّهم: "لقد ترَكْتُمْ بالمدينةِ أقوامًا ما سرتُمْ مسيرًا ولا أنفقتُمْ من نفقةٍ ولا قطعتُمْ من وادٍ إلَّا وَهُم معَكُم" [البخاري].
سُبِقُوا بأبدانهم، لكنَّ قلُوبَهُم سبَقَت. فما ألطف معاملة ربِّ العالمين لعِـبادِه المُقبِلِين، إلهٌ يقولُ لكلّ واحدٍ منَّا: "فقط أقبِلْ بقلْبِك، واصدق في نيّتك، وسأضمنُ لك السّبق".
عباد الله: مما يُقرّرُه ابن القيم -رحمه الله-، بأنّه قد يبلغ العبد بقلبه منازل العارفين وهو تحت فِرَاشِه، فكان ممّا قال في نونيّته:
يا هجرةً والعبدُ فوق فراشِهِ * سبَقَ السُّعاةَ لِمَنزِلِ الرِّضوانِ
كثيرٌ منَّا يسعى لكي يحجّ، فإذا وصل الحُجّاجُ وأيس من اللّحاق جلس. كثيرٌ من الناس نوى أن يُضحّي في هذا العيد، وبعد سَعيِهِ في الأسواق، واستحالَةِ تحقُّقِ مَطلِبِه، رجع إلى بيته مهموما وجلس. لا تجلس هكذا دون شيء، فأبوابُ وطرُقُ تحقيق مطلوبِك كثيرةٌ جدا، وأعظمُها أجرا ما كان بالقلب، فاسبق إلى الله بفلبك!. حسرتُك ودمعتُك وأنت تشاهد الحجاج قد تسبق بها كثيرا ممّن حج ببدنه وبذل ماله وفارق أهله وأجهد نفسه.
المرأة الكبيرة والرَّجل الكبير الذي لم يتمَكَّن مِن حِفظِ القرآن، أو حتى قراءة حروفه: ابك أمَامَ مُصحَفِك واصدُق في حسرتِك، وستسبق كثيرا من الحُفَّاظِ إلى ربِّك.
عباد الله: إقبال القلب على الله هو ما يجب مراقبته والحرص عليه، فوالله إنه لا ارتفاع لأحد عند الله إلا بإقبال القلب على الله، وتالله إنّه لا نجاة لأحد من عذاب الله إلا بإقبال القلب على الله.
ألم تقرأ في كتاب ربك عن أقوام خرجوا إلى الجهاد مع النبي ﷺ بأبدانهم، ولكن تخلّفت قلوبهم. خرجوا معه في غزوة أحد، لكن النفاق الذي انعقدت عليه قلوبهم حجبهم عن ربّهم، وقَعَد بهم، بل وذمّهُم الله في القرآن.
واحد من هؤلاء كان اسمه مُعْـتَب بن قُشَيْر، خرج مُجاهدا في ظاهره، سابقا كثيرا من المسلمين ببدنه، فلما اشتد القتال وقتل من المسلمين من قتل، كان من ضمن الجرحى، فرفع رأسه، وقال: "لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا". يقول الزُّبَيْرُ-رضي الله عنه-: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ اشْتَدَّ الْخَوْفُ عَلَيْنَا.. فَوَاللَّهِ إِنِّي لِأَسْمَعُ قول مُعْتَب بن قُشَير: "لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا"، فَحَفِظْتُهَا مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا﴾ لِقَوْلِ مُعتَب" [ابن أبي حاتم].
فيا ربّ إنا نعوذ بك من تخلّف قلوبنا عنك، اللهم اجعلنا من السابقين إليك بالقلوب والأبدان، وأكرمنا بتوفيقك وتسديدك وبرضاك وبجنة الرضوان.
أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ﴿ومن يغفر الذنوب إلا الله﴾، استغفروه فيا فوز المستغفرين.
 
الخطبة الثانية:

الحمد لله..
عباد الله: إذا كان الحج يحتاج إلى قرعة وأموال وقدرة، فإن الاستغفار مثلا أيسر من كل ذلك بكثير. أليس يحج الناس من أجر الحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة؟!، وقد يتعب ثم لا يحصّله لخلل في قلبه أو نقص في عبادته، ولكن ربنا حدثنا عن أقوام بالجنة فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾، كلها أعمال لا تحتاج إلى قرعة. إقبالك بقلبك على الاستغفار لربك ليلا قد يكون سبب سبقك. بصنائع المعروف وصدَقَتِكَ تسبِقُ لربّك.
تكبيرُك هذه الأيَّام بقلبك ولسانك قد يكون سبب سبقك إلى ربّك، وكلكم تحفظون قول نبينا ﷺ: "ما أهلّ مُهلّ قطّ، ولا كبّر مُكبّر قطّ، إلّا بًشّر بالجنّة" [البخاري].
كيف لقلب قضى يوم عرفة ويوم النّحر ويوم القرّ غافلا عن ذكر ربِّهِ ودُعائِهِ، مُهتمّا بالقيل والقال، وفلان فعل، وفلان لم يفعل، وفلان فيه، وفلان عليه، وفلانة فعلت وقالت، كيف له أن يسبق؟!، كيف لقلب يأتي المساجد ويصلي ويصوم، ولكن ملء غلا وحسدا على أخيه المسلم، بالله عليكم كيف لهذا القلب أن يسبق؟!. تَخلّفٌ عن الله بالقلوب والأبدان حتّى في الأيَّام الفاضِلات -والعياذُ بالله-، نسألُ الله النجاة من الخذلان.
ختاما -عباد الله-: والله إن الأمر جد لا هزل فيه، الأمر يحتاج منا جميعا -دون استثناء- إلى إرادة حقيقيّة، وإلى صلاحٍ نفسيٍّ داخليٍّ حقيقيّ. فأبوابُ الطاعات لا تزالُ مُشرعة اليومَ وغدا بالأخصّ، فما زلت يا -عبد الله- في أيّام الذّكر، فكونوا فيهما من الذّاكرين الله كثيرا والذاكرات. وبشراكم بعدها بقول نبيكم ﷺ: "سبَق المُفرِّدونَ، سبَق المُفرِّدونَ"، قالوا: يا رسولَ اللهِ، ما المُفرِّدونَ؟، قال: "الذَّاكرونَ اللهَ كثيرًا والذَّاكرات" [ابن حبّان].
أسأل الله أن يجعلنا من عباده السابقين إليه، وأن يبلغنا المناسك بقلوبنا وأبداننا، فإن لم تبلغها أبداننا فلتبلغها قلوبنا،
المشاهدات 1144 | التعليقات 0