كيف تربي أبناءك؟ قواعد في التربية (5)
أحمد بن ناصر الطيار
1435/06/03 - 2014/04/03 02:41AM
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ القرآن هدىً للعالمين، وَأَجْزَلَ الإِنْعَامَ لِشَاكِرِ فَضْلِهِ الْعَمِيمِ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ الْبَرُّ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِالدَّيْنِ الْقَوِيمِ، الْمَنْعُوتُ بِالْخُلُقِ الْعَظِيمِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ, وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, فالتقوى سببٌ للتوفيق والنجاح, وطريقٌ للسعادةِ والفلاح.
أمة الإسلام: ونستكمل ما تبقَّى من القواعد والوسائلِ في التربية.
ولا بدَّ أنْ يُعلَمَ: أنَّ من أراد أنْ يُربيَ أبناءه فلْيبدأْ بنفسه, فلْيُدرِّبْها على التخلُّقِ بالأخلاق الحسنة, والتعاملِ بالرفق والحلم والصبر, وليُجاهدْها على تطبيق هذه القواعد والأساليب, وإلا لأصبح كمن يزرع بذراً طيِّباً, في أرضٍ جَدْبةٍ لا تُنبتُ كلأً.
فما الفائدةُ من سماع النصائح والتوجيهات, والأدلةِ والبراهين, وأنت لم تقتنع منها, أو اقْتنعت منها, لكنَّك لم تعزمْ على العمل بها.
وما هي إلا أسباب, والهدايةُ بيد الله ربِ الأرباب.
وهي كلُّها منيَّةٌ على قواعدَ شرعيَّةٍ وتربويةٍ, مَن أهملها حُرم الخير والفَلاح, ومَن عمل بها نالهُ التوفيقُ والنجاح.
فمن ذلك يا عباد الله: أنْ نَمْتَثِلَ هذه الحكمة الْمشهورة: " لاعب ولدك سبعاً، وأدبّه سبعاً، وصاحبه سبعاً".
فالولدُ يمرُّ بثلاثِ مراحل, لكلِّ مرحلةٍ تعاملٌ خاصٌّ بها:
المرحلة الأولى : لاعبه سبعاً, أي حتى سنّ السابعة, وهي مرحلة اللهو واللعب والبراءة، حيث لا يُستعمل أسلوبُ الضرب والحرمان, إلا في نطاقٍ ضيِّق, ولكن بتوجيهِه إلى العادات الحسنة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداعب الأطفال, ويُعاملهم بالحبّ والرحمةِ والشفقة.
فهاهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يقبِّل الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما, وهو طفلٌ صغير, وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ جَالِسًا, فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا, فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظرةَ اسْتغرابٍ وتعجُّبٍ ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ. متفق عليه
بل إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّما انْشغل بالأطفال وآنسهم, وقضى حاجتهم, وأشبع عاطفتهم, وهو بين يدّيْ ربِّه في الصلاة, التي هي قُرَّةُ عينه وراحتُه ولذَّتُه, أو في الخطبةِ التي يُبلِّغ بها شرع الله تعالى.
خَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرةً إلى صَلَاة الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ, وَهُوَ حَامِلٌ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ رضي الله عنهما, فَتَقَدَّمَ إلى الصَّلاةِ فَوَضَعَهُ بِجانبِه، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى، فَلمَّا سَجَدَ أَطَالَ السجود, فَلَمَّا انْتهت الصَّلَاةُ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ سَجْدَةً قَدْ أَطَلْتَهَا، فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ: «فَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ, وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ».
أي: حتى يشبع من اللعب في ظهري, ويَنْزلَ منه باخْتياره ورغبته!!
وصلى بالناس مرةً, فجاءته حفيدتُه أُمامةُ رضي الله عنها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها وهو يصلي بالناس, إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها. متفق عليه
قال ابن عثيمين رحمه الله: كلُّ هذا رحمةً بها وعطفاً, وإلا فقد كان من الممكن أن يقول لعائشة أو غيرها من نسائه: خذي البنت, لكنها رحمةٌ, ربما إنها تعلقت بجدها صلى الله عليه وسلم, فأراد أن يُطيِّب نفسَها. ا.ه كلامه
وكان يخطب الناس يوماً على المنبر، فأقبل الحسنُ والحسين رضي الله عنهما, وعليهما ثوبان جديدان يَعْثُران بهما، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر, وحملهما بين يديه وقال: صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)، نظرت إلى هذين الصبيين يعثران فلم أصبر".
يعني: فما طابت نفسه حتى نزل وحملهما, وهو واقفٌ أَمَامَ الجموع الغفيرة من الناس, وفي عبادةٍ وطاعةٍ, لكنَّ الرحمةَ التي في قلبه تجاه الأطفال: لم تُمْهِلْه حتى ينتهيَ من خطبته, فيضمُّهما ويُقَبِّلهما.
فهذه رسالةٌ إلى كلِّ أبٍ وأمٍّ, أنْ يُراجعوا حساباتهم مع أطفالهم, وأنْ يقتدوا برسولهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم.
واعلم - أيها الأب - أنَّ اللعبَ معهم في هذا السِنِّ مما يحببهم بك, ويُدخل فيهم الأمنَ والطمأنينةَ والسرور.
ومن فرَّط في هذه الْمرحلةِ, ولم يُبال بِمُدَاعبته, ولم يجعل ابنه يعتاد دوماً أنْ يقوم بالسلامِ عليه, وتقبيلِ رأسه, ولم يتعوَّد على ضمِّه إلى صدره, والْمسحِ على رأسه, وإسماعِه عبارات الحبِّ والعطف: فإنَّ الابن عندما يكبر, لن تكون صداقتُه ومودَّتُه وانجذابه لوالدَيه قويَّةً متينةً.
ولن يجد الوالدان بعد ذلك قدرةً على إعادتها, ولن يجدا نشاطاً وجرأةً, أنْ يبدءا معه روح الْمُداعبة والْمُحادثة, والسلامِ الحار, وتقبيلِ الرأس, إلا بُكلفةٍ ومُجاملة.
المرحلة الثانية: أدِّبه سبعاً، أيْ من سنِّ السابعة, حتى سنِّ الرابعةَ عشرة، وهي سنّ التمييز والإدراك, ونموِ العقلِ والفهم, فالواجبُ على الأبوين تربيةَ عقله، فليس المقصود من التربية كما يفهمُه الكثيرون, الطعامُ والكساء والراحة، بل لا بُدَّ من غذاءٍ عقليٍّ له, لينمو عقلُه, وتتحسَّنَ أخلاقُه.
المرحلة الثالثة : صاحبه سبعاً، أي من سن الرابعةَ عشرة, إلى سنِّ الحاديةِ والعشرين، هذه المرحلة تبدأ مع المراهقة, حيث تتفتح الغرائز, ويُحاول الشابُّ إثبات نفسه، فعلى والديَه أن يستمعوا إليه, ويحترموا آراءه, ويصبروا على غرابةِ طبعه, وجفاءِ أخلاقه, كي لا يتمرد, ويتعرضَ للانحراف السلوكي والأخلاقي.
وأكثرُ الآباء يشتكون تمَرُّدَ أبنائهم الْمُراهقين, وسوءَ سلوكهم وأخلاقِهم, والسبب في ذلك: أنهم لم يُحسنوا التعامل معه في الْمرحلتين السابقتين أو إحداهما, حيثُ تعاملوا معه بجفاءٍ مُفرط, أو دلالٍ مُفسد, وأهْمَلوا تربيته التربية الصحيحة النافعة, بل هي تربيةٌ عشوائية, بلا خُطَطٍ مدْروسة, وبرامج هادفة, فإذا لم يُؤسَّس على أُسسٍ صحيحة ومدروسة, وواجه طوفان الْمُراهقة, الْمليئةَ بالإثارةِ والهوى, والعُجبِ والنَّشْوَةِ والقوة: فإنه لن يَمْلك نفسه وهواه, ويصعبُ إقناعُه وتغييرُ طبعه وسلوكِه.
وصدق القائلُ: أَدِّبوا أولادكم صغاراً, تَقَرُّ أعينُكم بهم كباراً.
قدْ ينفَعُ الأدبُ الأحداثَ في مَهَلٍ ... وليسَ ينفعُ فيِ ذِي الشَّيْبَةِ الأدبُ
إِنَّ الغُصُونَ إِذا قَوَّمْتَهَا اعْتَدَلَتْ ... وَلَنْ تَلِينَ إِذَا قَوَّمْتَها الْخُشُبُ
وقال بعض السلف: بِرَّ ولدَك, فإنه أجدر أن َيَبَّرك, وإنه من شاء عقَّ ولده.
نعم! أليس من عقوق الوالد بولده: عدمُ تربيته التربية الصحيحة؟, وفتحُ المجال له أمام ما يهواه من الشهوات والشاشات, والأموالِ والملذات؟, أليس من العقوق-أيها الأب-, أن تكون فظًّا غليظًا معه؟ أليس من العقوق أنْ تَمْنعه من اللحاق بحلقات القرآن, والأصحاب الصالحين, الذين يكونون معه على الخير والبر؟ فأنت عققته في الصغر, فلا تلُمْه إنْ عقَّك في الكبر.
فالواجب أنْ نُراعيَ أبناءنا في سنِّ الْمُراهقة, حيث إنها مرحلةٌ حسَّاسةٌ خطيرة, وأخطر مرحلةٍ يمر بها الأطفال: هي مرحلةُ المراهقة المتوسطة, وهي من سن الرابعةَ عشرة, إلى سن السابعةَ عشرة, وهي مرحلة الشباب المتدفق، ومرحلةُ التطورات والتغيُّراتِ السريعة, التي تطرأ على المراهق جسميًّا ونفسيًّا, مما يؤثر على مزاجه وأعصابه.
ولهذه المرحلةِ خصائصها ومُشكلاتها، لذلك لا بد من التعامل مع هذه المرحلة, على أسُسٍ عِلْميةٍ وتربوية, بعيدًا عن التخبط والعشوائية, فإنْ مرَّتْ هذه المرحلةُ بسلام, فهي علامةٌ على صلاحه ورجاحةِ عقله.
نسأل الله تعالى أنْ يرزُقنا أبناءً بررة, وأنْ يُجنِّبهم قرناءَ السوء الفجرة, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله رب العالمين, فرض علينا بذلَ الوُسْعِ في تربيةِ البنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: ومن أهمِّ القواعدِ- معاشر الآباء والأمهات-: أنْ نُعوِّد أبناءنا على حرِّيَّةِ الاختيار والتعبير, واتخاذِ القرار, بما لا مضرَّةَ عليه في دينه ودُنياه, فلا نُلْزمه بلباسٍ أو طعامٍ لا محظور فيه, فينشأُ الابن مُحبًّا لك, عارفاً لقدرك وفضلك, قد غرست فيه رجاحةً في عقله, وقوةً واسْتقلالاً في رأيه.
قال العلاَّمةُ رشيد رضا رحمه الله: النَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّ وَصَايَا الأبناء بالْوَالِدَيَنِ, حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ يَعْبَثَا بِاسْتِقْلَالِ الْوَلَدِ مَا شَاءَ هَوَاهُمَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَالِفَ رَأْيَ وَالِدَيْهِ وَلَا هَوَاهُمَا. ا.ه كلامه
والطفل الذي يُتَاح له أن يتخذ قراراتٍ, ويقوم بتجارب بلا تدخل وإلزام سيتعلم أن ما اتخذه من قراراتٍ لها نتائج وعواقب، مما يُمَكِّنُه في المستقبل على اتخاذ القرارات السليمةِ والصحيحة عندما يصبح في سنِّ المراهقة.
وأما الطفل الذي لا يُتيح له أهلُه أن يتخذ قراراته, ولا أنْ يقوم بتجارب, ويخبرونه دوماً ماذا يفعل وبماذا يقرر, ويتحكَّمون في تصرفاته من غير أنْ يُؤخذ رأيه, فإنهم لن يتيحوا له أن ينمو نمواً جيداً, ولن يتطور تفكيره, وتقوى شخصيته.
وسيُؤدِّي به ذلك إلى ضعفِ شخصيته أمام أصدقائه, وتقبُّلِهِ منهم كلَّ شيءٍ ولو عاد عليه بالضرر؛ لأنه لم تُحنِّكْهُ التجارب, ولم يتخذْ قراراتٍ في الماضي يعرف عاقبتها ومضرتها.
وسيكون انتماؤه إليهم أكثر من انتمائه إلى أهله, الذين طالما ضيقوا عليه في اتخاذ ما يراه وما يناسبه.
والأخطر من ذلك, أنه لن تكون عنده معرفةٌ وخبرةٌ بالأخطار وكيفيةِ التعامل معها, حيث لم يسبق له أنْ واجه شيئاً منها, وسيكون فريسةً سهلةً لجلساء السوء؛ لأن شخصيَّته ضعيفةً مهزوزة.
وصدق الشاعر:
عَرَفْتُ الشّرَّ لا لِلشّرِّ ... لَكِنْ لِتَوَقّيهِ
وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشّرَّ ... منَ الناسِ يقعْ فيهِ
واعْلموا أنَّ الكَبْت والْمَنْع والحجر على الأبناء, رُبَّما جاء بنتائج عكسية, فكم رأينا من آباءٍ تعاملوا مع أبنائهم بهذه السياسة, وربَّوهم على عدمِ الْخُلطة مع الناس إلا في نطاقٍ ضيِّق, ومنعوهم من الذهاب والإياب إلا ما كان تحت نظرهم, فما إنْ كبروا, وتخرَّجوا من الْمرحلة الثانوية, وأصبحتْ سُلْطتهم بيدهم لا بيد غيرهم, وواجهوا الْمجتمع بلا خبرةٍ كافية, وتجاربٍ أنتجت لهم قناعةً وحِنْكة: إذا بهم يلْهثون وراء الْمُلهيات والشهوات, وصاحبوا مَن هبّ ودبّ, وأهملوا الدراسة والجامعة, كلّ هذا بسبب التربية السقيمة, التي مبناها على الكبت والْمنع, وحجبِ الثقة وقلَّةِ التجارب.
وأما مَن أتاح لهمُ الحريةَ والاختيارَ مُطلقاً, ولو على حساب دينه وصحته وأخلاقه, فقد ارْتكب جريمةً في حقه لن ينساها في كبره.
فكم رأينا من أطفالٍ أُصيبوا بأمراضٍ وعاهات, كداء السكر وضعف البصر, وبعضُهم خسِرَ أخلاقَه ودينَه ومروءتَه؛ لأنَّ أباه أتاح له كلَّ ما يريد في صغره, فأصبح في كِبَره ضالَّا بذيئاً سيِّئاً.
وكم رأينا من فتياتٍ يرتدين الألبسةَ المخلَّةَ بالأدب والحشمة، الداعيةَ إلى نزع الحياء والفطرة, بسبب إهمال آبائهنّ وأُمَّهاتهنّ.
نسأل الله تعالى أنْ يُقرَّ أعيُنِنا بصلاحِ أبنائنا, وأنْ يجعلهم صالحين مُصلحين, إنه على كل شيءٍ قدير.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, فالتقوى سببٌ للتوفيق والنجاح, وطريقٌ للسعادةِ والفلاح.
أمة الإسلام: ونستكمل ما تبقَّى من القواعد والوسائلِ في التربية.
ولا بدَّ أنْ يُعلَمَ: أنَّ من أراد أنْ يُربيَ أبناءه فلْيبدأْ بنفسه, فلْيُدرِّبْها على التخلُّقِ بالأخلاق الحسنة, والتعاملِ بالرفق والحلم والصبر, وليُجاهدْها على تطبيق هذه القواعد والأساليب, وإلا لأصبح كمن يزرع بذراً طيِّباً, في أرضٍ جَدْبةٍ لا تُنبتُ كلأً.
فما الفائدةُ من سماع النصائح والتوجيهات, والأدلةِ والبراهين, وأنت لم تقتنع منها, أو اقْتنعت منها, لكنَّك لم تعزمْ على العمل بها.
وما هي إلا أسباب, والهدايةُ بيد الله ربِ الأرباب.
وهي كلُّها منيَّةٌ على قواعدَ شرعيَّةٍ وتربويةٍ, مَن أهملها حُرم الخير والفَلاح, ومَن عمل بها نالهُ التوفيقُ والنجاح.
فمن ذلك يا عباد الله: أنْ نَمْتَثِلَ هذه الحكمة الْمشهورة: " لاعب ولدك سبعاً، وأدبّه سبعاً، وصاحبه سبعاً".
فالولدُ يمرُّ بثلاثِ مراحل, لكلِّ مرحلةٍ تعاملٌ خاصٌّ بها:
المرحلة الأولى : لاعبه سبعاً, أي حتى سنّ السابعة, وهي مرحلة اللهو واللعب والبراءة، حيث لا يُستعمل أسلوبُ الضرب والحرمان, إلا في نطاقٍ ضيِّق, ولكن بتوجيهِه إلى العادات الحسنة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداعب الأطفال, ويُعاملهم بالحبّ والرحمةِ والشفقة.
فهاهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يقبِّل الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما, وهو طفلٌ صغير, وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ جَالِسًا, فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا, فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظرةَ اسْتغرابٍ وتعجُّبٍ ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ. متفق عليه
بل إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّما انْشغل بالأطفال وآنسهم, وقضى حاجتهم, وأشبع عاطفتهم, وهو بين يدّيْ ربِّه في الصلاة, التي هي قُرَّةُ عينه وراحتُه ولذَّتُه, أو في الخطبةِ التي يُبلِّغ بها شرع الله تعالى.
خَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرةً إلى صَلَاة الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ, وَهُوَ حَامِلٌ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ رضي الله عنهما, فَتَقَدَّمَ إلى الصَّلاةِ فَوَضَعَهُ بِجانبِه، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى، فَلمَّا سَجَدَ أَطَالَ السجود, فَلَمَّا انْتهت الصَّلَاةُ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ سَجْدَةً قَدْ أَطَلْتَهَا، فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ: «فَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ, وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ».
أي: حتى يشبع من اللعب في ظهري, ويَنْزلَ منه باخْتياره ورغبته!!
وصلى بالناس مرةً, فجاءته حفيدتُه أُمامةُ رضي الله عنها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها وهو يصلي بالناس, إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها. متفق عليه
قال ابن عثيمين رحمه الله: كلُّ هذا رحمةً بها وعطفاً, وإلا فقد كان من الممكن أن يقول لعائشة أو غيرها من نسائه: خذي البنت, لكنها رحمةٌ, ربما إنها تعلقت بجدها صلى الله عليه وسلم, فأراد أن يُطيِّب نفسَها. ا.ه كلامه
وكان يخطب الناس يوماً على المنبر، فأقبل الحسنُ والحسين رضي الله عنهما, وعليهما ثوبان جديدان يَعْثُران بهما، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر, وحملهما بين يديه وقال: صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)، نظرت إلى هذين الصبيين يعثران فلم أصبر".
يعني: فما طابت نفسه حتى نزل وحملهما, وهو واقفٌ أَمَامَ الجموع الغفيرة من الناس, وفي عبادةٍ وطاعةٍ, لكنَّ الرحمةَ التي في قلبه تجاه الأطفال: لم تُمْهِلْه حتى ينتهيَ من خطبته, فيضمُّهما ويُقَبِّلهما.
فهذه رسالةٌ إلى كلِّ أبٍ وأمٍّ, أنْ يُراجعوا حساباتهم مع أطفالهم, وأنْ يقتدوا برسولهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم.
واعلم - أيها الأب - أنَّ اللعبَ معهم في هذا السِنِّ مما يحببهم بك, ويُدخل فيهم الأمنَ والطمأنينةَ والسرور.
ومن فرَّط في هذه الْمرحلةِ, ولم يُبال بِمُدَاعبته, ولم يجعل ابنه يعتاد دوماً أنْ يقوم بالسلامِ عليه, وتقبيلِ رأسه, ولم يتعوَّد على ضمِّه إلى صدره, والْمسحِ على رأسه, وإسماعِه عبارات الحبِّ والعطف: فإنَّ الابن عندما يكبر, لن تكون صداقتُه ومودَّتُه وانجذابه لوالدَيه قويَّةً متينةً.
ولن يجد الوالدان بعد ذلك قدرةً على إعادتها, ولن يجدا نشاطاً وجرأةً, أنْ يبدءا معه روح الْمُداعبة والْمُحادثة, والسلامِ الحار, وتقبيلِ الرأس, إلا بُكلفةٍ ومُجاملة.
المرحلة الثانية: أدِّبه سبعاً، أيْ من سنِّ السابعة, حتى سنِّ الرابعةَ عشرة، وهي سنّ التمييز والإدراك, ونموِ العقلِ والفهم, فالواجبُ على الأبوين تربيةَ عقله، فليس المقصود من التربية كما يفهمُه الكثيرون, الطعامُ والكساء والراحة، بل لا بُدَّ من غذاءٍ عقليٍّ له, لينمو عقلُه, وتتحسَّنَ أخلاقُه.
المرحلة الثالثة : صاحبه سبعاً، أي من سن الرابعةَ عشرة, إلى سنِّ الحاديةِ والعشرين، هذه المرحلة تبدأ مع المراهقة, حيث تتفتح الغرائز, ويُحاول الشابُّ إثبات نفسه، فعلى والديَه أن يستمعوا إليه, ويحترموا آراءه, ويصبروا على غرابةِ طبعه, وجفاءِ أخلاقه, كي لا يتمرد, ويتعرضَ للانحراف السلوكي والأخلاقي.
وأكثرُ الآباء يشتكون تمَرُّدَ أبنائهم الْمُراهقين, وسوءَ سلوكهم وأخلاقِهم, والسبب في ذلك: أنهم لم يُحسنوا التعامل معه في الْمرحلتين السابقتين أو إحداهما, حيثُ تعاملوا معه بجفاءٍ مُفرط, أو دلالٍ مُفسد, وأهْمَلوا تربيته التربية الصحيحة النافعة, بل هي تربيةٌ عشوائية, بلا خُطَطٍ مدْروسة, وبرامج هادفة, فإذا لم يُؤسَّس على أُسسٍ صحيحة ومدروسة, وواجه طوفان الْمُراهقة, الْمليئةَ بالإثارةِ والهوى, والعُجبِ والنَّشْوَةِ والقوة: فإنه لن يَمْلك نفسه وهواه, ويصعبُ إقناعُه وتغييرُ طبعه وسلوكِه.
وصدق القائلُ: أَدِّبوا أولادكم صغاراً, تَقَرُّ أعينُكم بهم كباراً.
قدْ ينفَعُ الأدبُ الأحداثَ في مَهَلٍ ... وليسَ ينفعُ فيِ ذِي الشَّيْبَةِ الأدبُ
إِنَّ الغُصُونَ إِذا قَوَّمْتَهَا اعْتَدَلَتْ ... وَلَنْ تَلِينَ إِذَا قَوَّمْتَها الْخُشُبُ
وقال بعض السلف: بِرَّ ولدَك, فإنه أجدر أن َيَبَّرك, وإنه من شاء عقَّ ولده.
نعم! أليس من عقوق الوالد بولده: عدمُ تربيته التربية الصحيحة؟, وفتحُ المجال له أمام ما يهواه من الشهوات والشاشات, والأموالِ والملذات؟, أليس من العقوق-أيها الأب-, أن تكون فظًّا غليظًا معه؟ أليس من العقوق أنْ تَمْنعه من اللحاق بحلقات القرآن, والأصحاب الصالحين, الذين يكونون معه على الخير والبر؟ فأنت عققته في الصغر, فلا تلُمْه إنْ عقَّك في الكبر.
فالواجب أنْ نُراعيَ أبناءنا في سنِّ الْمُراهقة, حيث إنها مرحلةٌ حسَّاسةٌ خطيرة, وأخطر مرحلةٍ يمر بها الأطفال: هي مرحلةُ المراهقة المتوسطة, وهي من سن الرابعةَ عشرة, إلى سن السابعةَ عشرة, وهي مرحلة الشباب المتدفق، ومرحلةُ التطورات والتغيُّراتِ السريعة, التي تطرأ على المراهق جسميًّا ونفسيًّا, مما يؤثر على مزاجه وأعصابه.
ولهذه المرحلةِ خصائصها ومُشكلاتها، لذلك لا بد من التعامل مع هذه المرحلة, على أسُسٍ عِلْميةٍ وتربوية, بعيدًا عن التخبط والعشوائية, فإنْ مرَّتْ هذه المرحلةُ بسلام, فهي علامةٌ على صلاحه ورجاحةِ عقله.
نسأل الله تعالى أنْ يرزُقنا أبناءً بررة, وأنْ يُجنِّبهم قرناءَ السوء الفجرة, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله رب العالمين, فرض علينا بذلَ الوُسْعِ في تربيةِ البنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: ومن أهمِّ القواعدِ- معاشر الآباء والأمهات-: أنْ نُعوِّد أبناءنا على حرِّيَّةِ الاختيار والتعبير, واتخاذِ القرار, بما لا مضرَّةَ عليه في دينه ودُنياه, فلا نُلْزمه بلباسٍ أو طعامٍ لا محظور فيه, فينشأُ الابن مُحبًّا لك, عارفاً لقدرك وفضلك, قد غرست فيه رجاحةً في عقله, وقوةً واسْتقلالاً في رأيه.
قال العلاَّمةُ رشيد رضا رحمه الله: النَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّ وَصَايَا الأبناء بالْوَالِدَيَنِ, حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ يَعْبَثَا بِاسْتِقْلَالِ الْوَلَدِ مَا شَاءَ هَوَاهُمَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَالِفَ رَأْيَ وَالِدَيْهِ وَلَا هَوَاهُمَا. ا.ه كلامه
والطفل الذي يُتَاح له أن يتخذ قراراتٍ, ويقوم بتجارب بلا تدخل وإلزام سيتعلم أن ما اتخذه من قراراتٍ لها نتائج وعواقب، مما يُمَكِّنُه في المستقبل على اتخاذ القرارات السليمةِ والصحيحة عندما يصبح في سنِّ المراهقة.
وأما الطفل الذي لا يُتيح له أهلُه أن يتخذ قراراته, ولا أنْ يقوم بتجارب, ويخبرونه دوماً ماذا يفعل وبماذا يقرر, ويتحكَّمون في تصرفاته من غير أنْ يُؤخذ رأيه, فإنهم لن يتيحوا له أن ينمو نمواً جيداً, ولن يتطور تفكيره, وتقوى شخصيته.
وسيُؤدِّي به ذلك إلى ضعفِ شخصيته أمام أصدقائه, وتقبُّلِهِ منهم كلَّ شيءٍ ولو عاد عليه بالضرر؛ لأنه لم تُحنِّكْهُ التجارب, ولم يتخذْ قراراتٍ في الماضي يعرف عاقبتها ومضرتها.
وسيكون انتماؤه إليهم أكثر من انتمائه إلى أهله, الذين طالما ضيقوا عليه في اتخاذ ما يراه وما يناسبه.
والأخطر من ذلك, أنه لن تكون عنده معرفةٌ وخبرةٌ بالأخطار وكيفيةِ التعامل معها, حيث لم يسبق له أنْ واجه شيئاً منها, وسيكون فريسةً سهلةً لجلساء السوء؛ لأن شخصيَّته ضعيفةً مهزوزة.
وصدق الشاعر:
عَرَفْتُ الشّرَّ لا لِلشّرِّ ... لَكِنْ لِتَوَقّيهِ
وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشّرَّ ... منَ الناسِ يقعْ فيهِ
واعْلموا أنَّ الكَبْت والْمَنْع والحجر على الأبناء, رُبَّما جاء بنتائج عكسية, فكم رأينا من آباءٍ تعاملوا مع أبنائهم بهذه السياسة, وربَّوهم على عدمِ الْخُلطة مع الناس إلا في نطاقٍ ضيِّق, ومنعوهم من الذهاب والإياب إلا ما كان تحت نظرهم, فما إنْ كبروا, وتخرَّجوا من الْمرحلة الثانوية, وأصبحتْ سُلْطتهم بيدهم لا بيد غيرهم, وواجهوا الْمجتمع بلا خبرةٍ كافية, وتجاربٍ أنتجت لهم قناعةً وحِنْكة: إذا بهم يلْهثون وراء الْمُلهيات والشهوات, وصاحبوا مَن هبّ ودبّ, وأهملوا الدراسة والجامعة, كلّ هذا بسبب التربية السقيمة, التي مبناها على الكبت والْمنع, وحجبِ الثقة وقلَّةِ التجارب.
وأما مَن أتاح لهمُ الحريةَ والاختيارَ مُطلقاً, ولو على حساب دينه وصحته وأخلاقه, فقد ارْتكب جريمةً في حقه لن ينساها في كبره.
فكم رأينا من أطفالٍ أُصيبوا بأمراضٍ وعاهات, كداء السكر وضعف البصر, وبعضُهم خسِرَ أخلاقَه ودينَه ومروءتَه؛ لأنَّ أباه أتاح له كلَّ ما يريد في صغره, فأصبح في كِبَره ضالَّا بذيئاً سيِّئاً.
وكم رأينا من فتياتٍ يرتدين الألبسةَ المخلَّةَ بالأدب والحشمة، الداعيةَ إلى نزع الحياء والفطرة, بسبب إهمال آبائهنّ وأُمَّهاتهنّ.
نسأل الله تعالى أنْ يُقرَّ أعيُنِنا بصلاحِ أبنائنا, وأنْ يجعلهم صالحين مُصلحين, إنه على كل شيءٍ قدير.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق