كيف أغنى عمر الناس

عبدالله حمود الحبيشي
1438/05/19 - 2017/02/16 05:58AM
الخطبة الأولى ..

أَمَّا بَعْدُ .. عباد الله .. من كان عليه دين ندفع عنه دينه .. من يريد الزواج زوجناه .. من أحتاج إلى المال أعطيناه .. اليتامى والأرامل نكفيهم أمرهم ..
بهذه العبارات ينادي المنادي ليس في عصرنا الآن ، ولا في عصر النهضة الأوروبية ، ولا في الدول النفطية الغنية .. كان ينادي بها المنادي في زمن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ..
أطعمَ الجِياعَ فلم يُبقِ جائعاً، وزَوَّجَ الشَّبابَ فلم يُبقِ عَازباً، وقضى الدِّيونَ فلم يُبقِ مَديناً، حتى نَشرَ الحُبوبَ على أَسطحِ المنازلِ لتأكلَ الطَّيرُ، فلمَّا سُئلَ في ذلك قالَ: حتى لا يُقالُ: إنَّ الطُّيورَ قد جاعتْ في بلادِ المُسلمينَ .
قَالَ عُمَرَ بنِ أَسِيْدٍ : وَاللهِ، مَا مَاتَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِيْنَا بِالمَالِ العَظِيْمِ، فَيَقُوْلُ: اجْعَلُوا هَذَا حَيْثُ تَرَوْنَ، فَمَا يَبْرَحُ يَرْجِعُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، قَدْ أَغْنَى عُمَرُ النَّاسَ .
كل هذا في زمن رجل حكم سنتان ونصف تقريبا وحقق ما حقق مما يصعب تصديقه لولا تأكيد المؤرخين الثقات لهذه الأخبار .. فماذا فعل؟ وكيف حقق ما حقق؟ .. كيف عم الرخاء والسعة في حياة الناس .
إنها أمور ثلاث كانت في زمنه .. العدل وإخراج الزكاة والقناعة
العدل .. به قامت السماوات والأرض، وانبنى عليه أمر الكون وهو أمر الله لعباده في الحكم (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، فهو حكم بالعدل بين الناس جميعًا، مسلمهم وكافرهم ، غنيهم وفقيرهم ، قويهم وضعيفهم .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل .. أكثر مما تستقيم مع الظلم .. ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام". وهذا والله ما عرفه عمر بن عبدالعزيز فعمل بالعدل من أول أمره في الحكم بل بدأ بنفسه أولا .. فبعد خطبة الخلافة ونزوله من المنبر قربوا له موكب الخليفة كما كان يُفعل بسلفه ، فقال: لا، إنما أنا رجل من المسلمين، غير أني أكثر المسلمين حِملاً وعبئاً ومسئولية أمام الله، قربوا لي بغلتي فحسب، ونزل من قصره، وتصدق بأثاثه ومتاعه على فقراء المسلمين ، ثم استدعى زوجته فاطمة، بنت العز والنسب - فهي أبنة خليفة وإخوتها خلفاء ، وزوجها خليفة - استدعاها فقال لها : يا فاطمة، إني قد وليت أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام – وتعلمون أن الخارطة التي كان يحكمها عمر، تمتد من السند شرقًا إلى الرباط غربًا، ومن تركستان شمالاً، إلى أقاصي أفريقيا جنوبًا – قال: فإن كنت تريدين الله والدار الآخرة ، فسلّمي حُليّك وذهبك إلى بيت المال، وإن كنت تريدين الدنيا، فتعالي أمتعك متاعاً حسنًا، واذهبي إلى بيت أبيك، قالت: لا والله، الحياة حياتُك، والموت موتُك، وسلّمت متاعها وحليّها وذهبها، فرفَعَه إلى ميزانية المسلمين .
عاش عمر رضي الله عنه عيشة الفقراء، كان يأتدم خبز الشعير في الزيت، وربما أفطر في الصباح بحفنة من الزبيب، ويقول لأطفاله: هذا خير من نار جهنم .
هذا حاله وعدله في نفسه قبل أن يكون عدله مع الناس .. فماذا بعد..
بعد ذلك أصدر مرسومه الأول بعزل الوزراء الخونة الظلمة الغشمة، الذين كانوا في عهد سليمان، ثم عيّن وزراءه وأمراءه من صلحاء وأمناء المسلمين .
ثم صعد المنبر وأعلن سياسة حكومته الجديدة، وأولها استرجاع الأراضي والقصور والبيوت التي أخذها بنوا أمية وأغتنوا بسببها لا بكدهم وجهدهم بل لقربهم ونسبهم ، اغتنوا على حساب فقر الناس والتضييق عليهم في ارزاقهم ومعاشهم .
فقال عمر : هذا كتاب عبد الملك بن مروان، بإقطاعية الأرض لكم يا بني مروان، وقد صدق الله، وكذب عبد الملك بن مروان، ثم قطع الصك ، وأعطي صكوك بني أمية لأراضٍ شاسعة فأخذها بالمقص فقصّها كلها وأتلفها ، وقال: لا حقَّ لكم في ديار المسلمين.
بمثل هذا العدل يكون عمران الديار ، ويكون البناء والاستقرار .
والحديث عن العدل لا يقتصر على الولاة والحكام أو المسؤوليين بل هو خلق عام يشمل الأفراد من الآباء والمعلمين .. فالأب يلزمه العدل في بيته وبين أبنائه .. والمعلم كذلك مطالب بالعدل بين تلاميذه وطلابه .. فالعدل إذا ساد بين الناس عمهم الخير وحل عليهم الأمن فلا يخشون الظلم ولا التطفيف ولا ضياع الحقوق ولا التسلط على الخلق فيما بينهم .
وقف عمر بن عبدالعزيز يومًا من الأيام وقال: والله لا أعلم ظالماً إلا أنصفتكم منه، ولا يحول بيني وبين الظالم أحد، حتى آخُذ الحق منه، ولو كان ابني.
أما الأمر الثاني الذي ساد وظهر في زمن عمر بن عبدالعزيز فعمهم الرخاء ووسع الله عليهم في معاشهم .. إخراج الزكاة والصدقة، فقد ذكر أن الرجل يأتي بماله - زكاة كان أو صدقة- يأتي به طائعا مختارا راغبة يريد إنفاقه في أوجه الخير .. وهذه والله من أهم سمات المجتمع المسلم والذي يريد الخير والنماء والزيادة .. كيف لا والله يقول (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم) أي‏:‏ تنميهم، وتزيد في أخلاقهم الحسنة، وأعمالهم الصالحة، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي، وتنمي أموالهم .
وقال تعالى (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
وقال تعالى في الحديث القدسي (يا ابنَ آدمَ ! أَنفقْ أنفق عليك) .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (ثَلاثٌ أقسمُ عليهنَّ وأحدِّثُكُم حديثًا فاحفَظوهُ) قال (ما نَقصَ مالُ عبدٍ من صَدقةٍ) .
نعم والله ما نقص مال من صدقه .. بل يُحفظ ويزيد .
ذكر سليمان الراجحي يحفظه الله قصة لا زالت عالقة في ذاكرته حتى الآن منذ ثمانين سنه حين غزى الجراد مدينه الرياض وهي كارثه لأن الجراد يتلف المحاصيل وقد أنفق الناس دماءهم قبل أموالهم عليها .. فيقول : العجيب أن تلك الأسراب كانت تختار ضحيتها بعنايه من بين أشجار النخيل ، فكانت تختار بعض النخيل وتترك بعضه وبالسؤال عرفت كما عرف الجميع أن الأشجار التي سلمت كانت لأناس من أهل الخير يداومون على زكاتهم وصدقاتهم وكانت الأشجار الهالكة لأناس لا يبالون بذلك لقد كانت تلك الحادثة درسا مبكرا لي في آثار أعمال الخير درسا عمليا لم أنساه أبدا .أ.ه
بحق إنه درس عملي .. كيف حفظ الله أموال أهل الزكاة وكيف أتُلفت ثروة المضيعين لها .
إنها الزكاة والصدقة .. التي لو أخرجها الأغنياء والميسورين فلن نرى فقيرا ولا مسكينًا ولا جائعًا ولا محرومًا، وهذا والله ما حصل يقينا في زمن عمر بن عبدالعزيز ، يوم أقيم العدل في الأمة، ويوم عرف الأغنياء حق الله في أموالهم، لم يبق فقيرا واحده في أنحاء الأمة يستحق الزكاة .. إنها الزكاة والصدقة بركة ونماء وزيادة .

الخطبة الثانية ..

عباد الله .. ومن أبرز السمات التي عمت في زمن عمر بن عبدالعزيز القناعة .. وقد سمعنا أن الرجل يخرج بماله لا يجد من يأخذه ، كلهم يقول لا حاجة لي به .. أكتفى بما عنده ، قنعوا بما آتاهم الله ، وَرَزَقَهم كَفَافاً ، فحازوا الفلاح الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ).
إنها القناعة تجعل النفس عزيزة عن الأخذ ، غِناها بين عينيها كأنها ملكت الدنيا وما فيها .. رضي بما عنده وإن كان قليلا ، ولا يسأل الناس . فالغنى ليس بكثرة العَرَض، وإنما الغنى غنى النفس .
قال ابن بطال رحمه الله : ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أُوتي، فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني.أ.ه
إن كثيرا من المشاكل الاجتماعية ليس القلة ولا الكثرة المادية بل غياب القناعة أو قلتها وهو ما يولد الجشع والطمع ويجعل الإنسان يشعر بالنقص مهما ملك ، وبالحاجة مهما توفر لديه .. يلهث وراء المال يجمعه ، فيكنزه ويمنعه .. مهما أعطي أخذ ، بل إن لم يُعط طلب ، فقره بين عينيه لا يفارقه .
وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم الحكم الناصح إلى أمر ترتاح معه النفوس ، وتطمئن القلوب ، فقال عليه الصلاة والسلام (انظروا إلى مَن أسفلَ منكم . ولا تنظروا إلى مَن هو فوقَكم . فهو أجدرُ أن لا تزدروا نعمةَ اللهِ) .
إن من عمل بهذه الوصية سيشعر بأنه يعيش عيشة العظماء الذين يملكون الكثير والكثير .. مَنْ أصبَحَ منكمْ آمنًا في سِرْبِهِ ، معافًى فِي جَسَدِهِ ، عندَهُ ، قوتُ يومِهِ ، فكأنَّما حِيزَتْ لَهُ الدنيا بحذافِيرِهَا . هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
القنوع لا يأخذ أكثر من حاجته ، ولا يطلب ما ليس له .. لا تطمع نفسه إلى الزيادة من المال وإن كان حلالا فهو عن الحرام أبعد .. في ظل القناعة يسلم المال من التلف والعبث لذلك ينموا ويزيد بل يفيض ، وتحل عليه البركة فيكون خيرا على صاحبه وعلى المجتمع وبه يكون الرخاء والسعة .
المشاهدات 1401 | التعليقات 0