كُنْ مَعَهُ يَكُنْ مَعَكَ ( الجُمُعُةُ 1442/1/16 هـ )

يوسف العوض
1442/01/13 - 2020/09/01 15:07PM
الخطبة الأولى
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : الْحَقُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ «إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ، فالمُتَأمِّلُ فِي أَحْدَاثِ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ إلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ مُنْذُ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِهِ مَعَ صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ومُرورًا بِإِحْدَاثِ الطَّرِيقِ والسَّفرِ وحتَّى دُخُولِ الْمَدِينَةِ يَجِدُ فِيهَا مَوَاقِفَ عَمَلِيَّةً لِمَعَانِي التَّوَكُّلِ وَالْيَقِينِ ، وَالإِخَاءِ وَالْعَطَاءِ ، والصَّبرِ وَالنَّصْرِ .
ولَمْ تَكُنْ قُرَيْشٌ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَبَيْنَمَا هُم يَحِيكُونَ مُؤامرتِهم كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَادرَ بَيْتَهُ فِي لَيْلَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ السَّنَةَ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ النُّبُوَّةِ وَأتَى إلَى دَارِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ متخفّياً عَلَى غَيْرِ عادَتِهِ ، لِيُخْبِرَه بِأَمْرِ الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ وَخَشِي أَبُو بَكْرٍ أَنَّ يُحرمَ شَرَفَ صُحْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاسْتَأْذَن فِي صُحْبَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ ، وَكَانَ قَدْ جهَّزَ رَاحِلَتَيْن استعداداً لِلْهِجْرَةِ ، وَاسْتَأْجَر رجلاً مُشركاً مِنْ بَنِي الدّيلِ يُقال لَه عَبْدُاللَّه بنُ أُريقطٍ مَاهِرًا وعارفاً بِالطَّرِيقِ ، وَدَفَعَ إلَيْهِ الرّاحِلَتَيْن ليَرعَاهُما ، وَاتَّفَقَا عَلَى اللِّقَاءِ فِي غَارِ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ ، فِي حِينِ قَامَت عَائِشَةُ وَأُخْتُهَا أَسْمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِتَجْهِيزِ الْمَتَاعِ وَالْمُؤَنِ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ يتخلَّفَ عَنْ السَّفَرِ لِيُؤَدِّيَ عَنْهُ وَدَائِعَ النَّاسِ وَأَمَانَاتِهِم ، وَأَنْ يَلْبَسَ بُردَّتَه وَيَبِيتَ فِي فِرَاشِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، ثُمّ غَادرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأبو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ بابٍ خَلْفِي ، ليَخرجا مِنْ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَطلُعَ الْفَجْرُ  ، وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعَلمُ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي ستتَجهُ إِلَيْهِ الأنْظارُ هُوَ طَرِيقُ الْمَدِينَةِ الرَّئِيسِيّ الْمُتَّجَهُ شِمَالًا ، فَقَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُضَادُّهُ وَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاقِعُ جَنُوبَ مَكَّةَ وَالْمُتَّجَهُ نَحْوَ الْيَمَنِ ، حَتَّى بَلَغَ جَبَلًا يُعْرَفُ بِجَبَل ثَوْرٍ ، وَقَام كُلٌّ مِنْ عَبْدِاللَّه بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ وَأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ بِدَوْرِه .
وانْطَلَق الْمُشْرِكُونَ فِي آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- وَصَاحِبِه ، يَرْصُدُون الطُّرُقَ ، ويُفتِّشون فِي جِبَالٍ مَكّةَ ، حَتَّى وَصَلُوا إلَى غَارِ ثَوْرٍ ، وَأَنْصَت الرَّسُولُ -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- وَصَاحِبُه إلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِين وَكَلَامِهِم ، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قلتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ : ( لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا! ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا بَكْرٍ ! مَا ظَنُّك بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ؟ ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ تُوكِّلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَبِّهِ ، وَأَنَّه مُعْتَمِدٌ عَلَيْهِ ، ومُفوِّضٌ إِلَيْهِ أَمْرَهُ ، لَم يَهْدَأ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فِي الْبَحْثِ وتحفيزِ أَهْلِ مكّةَ لِلْقَبْضِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبِهِ أَو قَتلِهِمَا ورَصَدُوا مُكَافَأَةً لِمَن يَنْجَحُ فِي ذَلِكَ مِائَةَ نَاقَةٍ وَلَكِنَّهُمَا وَصْلًا بِحِفْظِ اللَّهِ وَرِعَايَتِه وعنايتِه سَالِمِينَ إلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فالتَّوَكُّلُ وَالْيَقِينُ -مع الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَإِعْدَادِ العُدَّةِ - مِنْ الدُّرُوسِ الْمُهِمَّةِ عَلَى طَرِيقِ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ ، فَمَا أحوَجَنا وَنَحْنُ نَتَعَلَّمُ سِيرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقِفَ مَعَ دروسِها وعِبَرِها ، وَنَأْخُذَ مِنْهَا مَا يُنِيرُ حَيَاتَنَا .
الخطبة الثانية 
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جُنْدًا لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ  تُدَافِعُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَشِيئَتِه فتثبتُهم وَتَقُوِّمُ خَطوَهم فَعِنْدَمَا ضَاق بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبِهِ الْأَمْرُ فِي غَارِ ثَوْرٍ  وَخَافَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ  وَقَال " لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَه بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ، وَوَقَف النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ بَدْرٍ يَدْعُو رَبَّهُ ويَرجوه وَيُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ : (اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَن تُعْبَدَ بَعْدَ الْيَوْمِ ) فأيَّدَهُ اللَّهُ فِي بَدْرٍ بِجُنُودٍ مِنْ عِنْدِهِ وَثَبَّتَه حَتَّى انْتَصَر  ، وَجُنْدُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحْصَوْنَ وَلَا يُعَدُّونَ  بَلْ إنْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ فِي نُصْرِةِ الْمُؤْمِنِين فَالرِّيحُ مِن جُنْدِ اللَّهِ كَمَا أَرْسَلَهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ قَبلُ عَلَى أَقْوَامٍ عَصَوْا رَبِّهُم  وَالْمَاءُ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ كَمَا أَرْسَلَه سُبْحَانَه طوفاناً عَلَى الَّذِينَ طَغَوْا مِنْ قَبلُ وَكَمَا حَمَلَت سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَادِسِيَّةِ و الْعَلاءَ الْحَضْرَمِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فَتْحِ الْبَحْرَيْن  وَأَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيَّ فِي غَزْوِ الرُّومِ ، وَالشَّمْسُِ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ  كَمَا أَمْسَكَهَا عَلَى يُوشَعَ بنَ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى فُتَحَ لَهُ  بَلْ إنْ بَعْضَ الْفِجَّارِ يُمْكِنُ أَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ بِهِمْ الدِّينَ فَيَكُونَ كَيْدُهُم عَائِداً عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْثَالِهِم فيَكِيدون بِهِ أَنْفُسَهُمْ فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ يُنْصَرُ بِمَنْ لَا يُتَوَقَّعُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْهُ نَصْرٌ ، بَلْ إنْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ يُحَوِّلُ الطالحَ صالحاً لينَصُرَ دِينَه ودَعوتَه ويُحققُ سُنَنَه . . 
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وأَهْلُ الْإِيمَانِ قَدْ يُنافِحُ عَنْهُم الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ وَالْجِبَالُ وَالدَّوَابُّ وَلَكِنْ كُلٌّ بِطَرِيقَتِه وبطبيعةِ خِلْقَتِه وَلَوْ اطَّلَعَ أَهْلُ الْإِيمَانِ عَلَى مساراتِ الْقَدَرِ عَبرَ الْأَزْمَانِ لبَان لَهُمْ كَيْفَ أَنَّ جُنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ مَنَاحِ الْكَوْنِ تُدَافُعُ عَنْهُم وَتَقِفُ بجَانبِهم  ، رُبَّمَا تَكُونُ الرُّؤْيَةُ الْقَاصِرَةُ الْقَلِيلَةُ الْقَرِيبَةُ تُوحِي لقصيرِ النَّظَرِ أَنَّ هُنَاكَ هَزِيمَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ فِي مَوْقعٍ مَّا أَوْ مَكَانٍ مَا أَوْ زَمَنٍ مَا وَلَكِنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُطَالَبُ أَهْلَ الْإِيمَانِ دَائِمًا بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَإِطَاعَةِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْمَا كَانُوا فِي أَزَمِاتٍ ومصائبَ " الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النّاسُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وقالو حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " وَبَيَّنْت الْآيَةِ أَنَّ عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ بِالْبَصِيرَةِ الصَائبةِ هِيَ عَاقِبَةُ انْتِصَارٍ وَنِعْمَةٍ .
المشاهدات 2858 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا