كن مسامحاً

محمد سعيد الهاشمي
1438/12/22 - 2017/09/13 09:05AM

كن مسامحاً

  

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله عباد الله وراقبوه في السر والعلن ولا تعصوه.

 

عباد الله، في ظلِّ غياب التلاحم الأُسَري والأخوي، فكم من أُسَرٍ تفككت، وعلاقاتٍ تقطَّعت أواصرها، وتحوَّلت المحبة إلى عداوة، وأضحت الشراكة في العمل الدعوي والدنيوي متشرذمةً ومتمزقةً!

 

وكم من مشروعات وأفكار أُجهِضَت؛ بل وانفرط عقدُ كثير من الكيانات والمؤسَّسات! وكان من أهم أسبابها ضعف خُلُق التسامح.

 

التسامح كلمة رائعة على الألسنة، مُحَبَّبة إلى النفوس المؤمنة، ولكنَّها - كغيرها من معالي الأمور ومحاسن الأخلاق - لا تأتي في أوَّل الأمر بسهولة تامَّة، ولا تنقاد لمن طلَبَها براحة بالٍ، بل لا بُدَّ - عند الإقدام عليها- مِن مُجاهدةٍ للنفْس، وتجرُّعِ شيءٍ من الألَم.

 

فالعفو والصفح والتسامح من أبواب الإحسان؛ ونيل الرحمة والغفران وجزيل الثواب؛ قال الله تعالى: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 13].

 

﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14].

 

﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40].

 

وهو بابٌ رفيع للفوز بالجنان ونيل رضا الرب الرحمن؛ قال الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134].

 

ولا يُعان عليها إلا أهلُ البصائر المستنيرة، ولا يَعرف قيمتَها إلا أصحابُ القلوب النديَّة والنفوس الرضِيَّة، الذين يستشرفون أن يعيشوا حياتَهم مع مَنْ حولهم بارتياح وطمأنينة، دون أن يستبدَّ بهم قلقُ الانتقام، أو نشوةُ الانتصار، وصَدَق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم حيث قال: ((ليس الشديدُ بالصرَعة، إنَّما الشديدُ الذي يملكُ نفسَه عند الغضب)).

 

التسامحُ بلسَمٌ للرُّوح وراحة للجسم؛ لأن الحقدَ والغضب يوقعان النفسَ في الأمراض الفاتكة والعلل المفسدة.

 

وأهل العفو هم الأقرب لتحقيق تقوى الله جل وعلا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة: 237].

 

ولو تأمَّل الناس قليلاً في حِلم الله عزَّ وجلَّ على المخلوقين وصَفحه عن زلاتهم لرفعوا التسامحَ شعاراً، ولاتَّخذوه مبدءاً.

 

عباد الله، إننا اليوم في أمس الحاجة إلى التسامح والحوار البناء أكثر من أي وقت مضى. والتعصب والانغلاق من أكبر أسباب تغذية نار الكراهية، والانزلاق إلى مزيد من النزاعات، التي تؤدي إلى التدمير العبثي لكل ما هو جميل في هذا الكون.

 

فالله عز وجل أمرنا بالدعوة إلى سبيله بالحكمة، بكل ما تحمله كلمة الحكمة من معاني اللين واللطف، ومراعاة حال المخاطب وظروفه، ثمبالموعظة الحسنة التي تنفذ إلى أعماق القلوب وتأسرها، ثم المجادلة بالتي هي أحسن عند الحاجة إلى المجادلة، تحقيقا لقول الله عز وجل ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].

 

وكان لهذا التسامح أثره في أن يصبح الدين الإسلامي ديناً عالمياً، بدءاً من مراحله الأولى أيام رسولنا صلى الله عليه وسلم في جزيرة العربإلى أن عم أماكن شاسعة في العالم.

 

لقَدْ كانَ لنَا فِي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأسوةُ الحسنةُ فِي التسامحِ والعفوِ، فمِنْ مواقفِهِ صلى الله عليه وسلم التِي تفيضُ حلمًا وسماحةً حينمَا فتحَ مكةَ إذْ قالَ صلى الله عليه وسلملِمَنْ آذَوْهُ وأخرجُوهُ مِنْ بلدِهِ:« يا مَعْشرَ قريشٍ ما تَظُنُّونَ أنِّي فاعِلٌ بكُمْ؟» قالوا: خيراً أخٌ كرِيمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، قالَ: « فإنِّي أقُول لكُمْ كمَا قالَ يوسفُ لإخوَتِه)) لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُم اذْهَبُوا فَأنْتم الطُّلَقَاءُ)).

 

نِعْم السماحة، ونِعْم العفو عند المقدرة.

وإذا عفوت بلغت بالجود المدى 

 وفعلت ما لا تفعل الأنواء 

وإذا صفحت فقادرًا ومقدرا

 لا يستهين بصفحك الجهلاء 

 وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أب

هذان في الدنيا هما الرحماء 

صلى الله عليه وسلم.

 

المتسامحُ كالشجرة التي لا تبخلُ بالظلِّ حتى على من يَنوي تكسيرَ أغصانها، وقطفَ ثمارها، والنَّيل من قامتها الشمَّاء هل تتصوَّرون الحياةَ من غير تسامح؟

 

هل تتخيَّلون الصَّباحَ من غير أمل، والصَّحراءَ من غير نخل، والأمومةَ من غير حنان؟

 

المتسامحُ لا يَحقِد على إنسان، ولا يُبغضه، أو يَنال من شخصه، أو يجرِّح هيئتَه، ولكنه ينبِذُ ما نَبا من فعاله، وشذَّ من سلوكه، متعهِّداً إياه بالنُّصح، مقترباً منه؛ لأنَّ القلوب إذا ما تباعدَت تنافَرَت، ومن ثَمَّ خسِرَ بعضُها محبةَ بعض.

 

أحمد إمام أهل السنة رضي الله عنه ورحمه - جلده المعتصم حتى التأم جلده على جرح فلما مات المعتصم قرر الأطباء أنه لابد من إجراء عملية جراحية، ليس فيها بنج ولا مخدر.

 

اللهم إلا المبضع والقطع والآلام والدماء النازفة.

 

فلما عرض على الأطباء وبدأ الطبيب ببضع جلده وأصابه من مس الموس، قال متأوها متألما قال رحم الله المعتصم اللهم اغفر للمعتصم.

 

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتبُ                ولا ينال العلا من طبعه الغضبُ

 

التسامح تلكمُ القوَّة الخفيَّة والمنسيَّة في قِيعان نفوسنا، والتي إذا ما أُبرزَت عمَّت الدنيا المحبَّةُ والسلام.

 

ولربَّ لحظة من لحظات التسامح أوقفت حرباً، وحقنَت دماً، وجلبت خيراً عَميماً، وولَّدت حبّاً عظيماً.

 

الأطفالُ أكثر تسامحاً لأن نفوسهم بريئةٌ وقلوبهم نقيَّة، وأرواحهم عَذبة رضيَّة، ففي قمَّة ثورتهم وانهمار دموعهم يرتمون بأحضان من زجَرَهم وحال بينهم وبين ما يحبُّون، وسرعان ما يبتسمون لقطعة الحلوى.

اقرؤوا التسامحَ في عيون الأمهات، وفي قُلوب الآباء، وفي مودَّة الزوجات، وفي وفاء الأصدقاء، إنهم يملؤون الدنيا روعة، ويَنشرون المحبَّة بين الناس انتشارَ الأرَج في نسيم الصَّبا.

  

الخطبة الثانية:

 

الحمد الله وكفى، وسلاماً على عباده الذين اصطفى.

 

أما بعد:

 

عباد الله ندعو إلى التسامح ونرومه وندعو إلى تخفف من هذى الأحمال لاسيما ونحن مقبلون على شهر عظيم دعوة إلى تنقية الصدر لسلامته والى تصفية النية.

 

لابد أن نعلم أن هذا الأمر فيه من المجاهدة ما فيه ولكن حسبنا أن الله يثيب حتى على هذه المجاهدة قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

 

وإذا تذكر المؤمن في هذا المقام ثواب الله وأجره وغفرانه ورحمته وما سيناله على صفحه وعفوه من أجورٍ عظيمة وثواب جزيل هان عليه ما سوى ذلك؛ جاء في سنن أبي داود عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال ((مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ)).

 

وقد يرى بعض الناس أن العفو ذلٌّ ومهانة وإهانة المرء لنفسه أمام الناس، وأن العزة في الانتقام، وهذا والله ثم والله مجانبة الحقيقة فالعز إنما هو في العفو قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم ((وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا)) أي أن العفو لا يزيد صاحبه إلا عزاً ورفعةً وسموَّ وقدرٍ في الدنيا والآخرة.

 

أين نحن اليوم من هذي التعاليم السامية أين نحن اليوم عن نهج سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم دعوه الى التسامح والى صفاء النفس.

 

من اليوم تعارفنا، ونطوي ما جرى من، افلا كان ولا صار، ولا قلتم ولا قلنا، وإن كان و لا بدٌ من العتبِ فبالحسنى.

المشاهدات 820 | التعليقات 0