كن محبوبًا (1) أ. محمود الفقي

الفريق العلمي
1441/12/23 - 2020/08/13 07:28AM

دعوني أخالف عادتي وأدخل في صلب موضوعي بلا تمهيد ولا تعليل فأقول: "إن علامة نجاح الخطيب أن يحبه جمهوره، وعلامة فشله أن يكرهوه".

وأعلم أنه سيخرج من يقول: كيف جعلت من حب الناس وكرههم مقياسًا ومعيارًا، والناس قد يحبون لغير الله ويكرهون لغير الله؟! وكم أحبوا من مبتدع وفاسق ومخادع! وكم طردوا من هو صالح مصلح؟! والناس يحبون من وافقهم على هواهم الباطل ويكرهون من خالفه؟!.

 

وأجيب: إذا وقفت على مبتدع فاسق يدعو إلى بدعته، ورأيت جمهوره يحبونه ويصدرون عن أمره، فاعلم أنه خطيب ناجح وداعية ناجح وأنه يمتلك الكثير من أدوات الاقناع؛ لأنه عرف كيف يصل إلى قلوبهم ويتربع داخلها، رغم كونه مخطئًا فيما يدعو إليه ومجانبًا للحق فيما يحمله وحاملًا لأوزار من يضلهم، ومثل هذا خطر وفتنة عظيمة للناس، تلك التي خافها علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان"([1])، "أي عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب فاسد العقيدة، يغر الناس بشقشقة لسانه فيقع بسبب بيانه خلق كثير في الزلل"([2]).

 

وإن كان الخطيب مكروهًا من قلوب جمهوره منبوذًا منهم، مع أنه يحمل الحق المبين، فهو خطيب فاشل غير موفق وداعية مخفق غير مسدد، رغم ما يحمل من الحق، فهو كما يقول أحد الفضلاء: "محام فاشل يترافع عن قضية عادلة".

 

وإننا حين نتكلم فنقول بأن "حب الناس علامة نجاح الخطيب" فينبغي أن نعي نقطتين، الأولى: أن النجاح الذي نقصده هنا هو نجاح الخطيب في الوصول إلى قلوب جمهوره والتربع داخله، ومن استطاع ذلك من الخطباء فقد نجح كخطيب... بغض النظر عن كنه ما يدعو إليه.

 

أما الثانية: فإننا لا نقصد حب جميع الناس للخطيب؛ فإنها غاية لا تنال، وكذلك لا نقصد حب الطائعين له دون العاصين، بل على العكس؛ فإن حب العاصين المسرفين للخطيب يهمنا جدًا؛ فإنهم أكثر الجمهور احتياجًا إلى الخطيب المخلص اللبق المخطط الذي يعرف كيف يصل إلى قلوبهم ويجعلهم يحبونه لينتشلهم مما هم فيه... وأما المستمع المتكبر فله حديث آخر.

 

كيف تجعلهم يحبونك:

هذا جوهر حديثنا ولبه؛ "كيف تصبح خطيبًا محبوبًا؟"، نقول: من خلال اتباع استراتيجية محددة الخطوات، وفيما يلي بعض بنودها:

البند الأول: أحسن فيما بينك وبين الله:

أخي الخطيب: علاقتك بربك تنعكس لا محالة على علاقتك بالناس، وكيف يعظ الناسَ مفرِّطٌ أو مضيِّع؟! كيف يصل كلام خطيب ما إلى قلوب الناس إن لم يكن خارجًا من قلبه؟! إن فاقد الشيء لا يعطيه.

 

وإذا أحسنت في خلواتك وإن استقامت أعمالك بعيدًا عن المنبر وبعيدًا عن أعين رواد مسجدك.. وإن تقربت إلى الله -تعالى- بالنوافل بعد الفرائض، وابتعدت عن المكروهات بعد أن تجنبت المحرمات.. وإن استكثرت من الطيبات والباقيات الصالحات... إن فعلت هذا وآمنت واستقمت على الصراط حتى أحبك الله وقرَّبك واجتباك واصطفاك، أوجب الله -عز وجل- على جميع الخلق حبك؛ إيجابًا طبيعيًا وشرعيًا.

 

فأما حب الله لك إن استقمت وتقربت إليه فمصداقه قوله -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي: "وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه..."([3])، فإحسان عبادتك لله سبيل حب الله لك.

 

وأما إيجاب الله -عز وجل- حبك على خلقه -إن أحبك هو سبحانه- فمصداقه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -تبارك وتعالى- إذا أحب عبدًا نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض"([4])، فحب الله لك سبيل حب الناس لك.

 

وعند أحمد عن ثوبان مرفوعًا: "إن العبد ليلتمس مرضاة الله فلا يزال بذلك، فيقول الله لجبريل: إن فلانًا عبدي يلتمس أن يرضيني ألا وإن رحمتي عليه، فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم تهبط له إلى الأرض"([5]).

 

قال قتادة: كان هرم بن حيان يقول: "ما أقبل عبد بقلبه إلى الله، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه ودهم"([6])، وكأن هرم أخذ كلماته هذه من قول الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[مريم: 96].

 

ولك -أيها الخطيب- فوق المحبة "علاوة وزيادة" وهي: بهاء الوجه الذي يجذب إليك الخَلق، فهذا الحسن البصري يُسأل: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهًا؟ قال: "لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره"([7])، وذلك كله جمعه ابن عباس -رضي الله عنهما- وزاد عليه حين قال: "إن للحسنة لنورًا في القلب، وقوة في البدن، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق"([8]).

 

فيا أخي الخطيب: إن أردت أن يحبك الناس بصدق، فاجعل الله يحبك أولًا... وأنت تعرف الطريق.

 

البند الثاني: كن مرحًا متفائلًا:

لا أنسى ذلك الخطيب الذي رأيته وهو يلقي محاضرة، عابسًا واجمًا مقطّب الوجه متيبس الملامح متحجر التعبيرات قليل الكلمات شديد النظرات قاسي الانتقاد... فسألت أحد تلاميذه: هل هذا حال شيخكم على الدوام، أم أن ظرفًا معينًا انتابه فأحزنه؟ فأجابني: بل هو كذلك دائمًا، ثم تطوع معللًا: إنه يحمل همَّ الأمة وقد أثقل الحزن على أحوال المسلمين كاهليه...

 

وأقول: هل هموم الأمة التي يحملها أكثر من الهموم التي كان يحملها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! وهل تجهمه وتبلد ملامحه هي التي ستُخرج الأمة من ورطتها؟! وهل هذا حال المسلم الحق إذا ما تتابعت عليه المصائب؟! وأين ثقة الداعية في نصر الله القادم لا محالة، وأن العاقبة للمتقين؟! وما ذنب من يسمعه من عوام الناس وغافليهم... هل هذا يحببهم في الدعوة وفي الدعاة وفي الخطباء أم يصدهم عنهم؟!

 

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحلك الظروف وأشد الأزمات متفائلًا متبسمًا مستبشرًا ثابتًا ومثبِّتًا لمن حوله، فها هو -صلى الله عليه وسلم- في "أزمة" الأحزاب حين تكالبت العرب جمعاء لمحو الدولة الإسلامية الناشئة، تلك الأزمة التي قال القرآن فيها: (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)[الأحزاب: 10]؛ من الخوف والفزع، ها هو -صلى الله عليه وسلم- يحفر الخندق مع أصحابه ويردد من شعر ابن رواحة، فعن البراء بن عازب قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا *** وإن أرادوا فتنة أبينا "

قال: ثم يمد صوته بآخرها([9]).

 

وها هو -صلى الله عليه وسلم- يبشرهم بالفتوحات وهو يحطم صخرة اعترضتهم عند الحفر ويقول: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا"... "الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا"... "الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا"([10])...

 

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يداعب الصحابة ويمازحهم حتى لقد كان بعضهم يتعجب من ذلك، فعن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: "إني لا أقول إلا حقًا"([11])، وهو -صلى الله عليه وسلم- الذي قال للعجوز: "إن الجنة لا يدخلها عجوز"([12])، وهو -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يداعب أنسًا قائلًا: "يا ذا الأذنين"([13])، ويقول لأخيه الصغير: "يا أبا عمير، ما فعل النغير"([14])، ويمسح التراب عن علي بن أبي طالب ويقول له: "قم أبا تراب"([15])، وهو -صلى الله عليه وسلم- الذي قال لرجل: "إنا حاملوك على ولد ناقة"([16])، وهو -صلى الله عليه وسلم- الذي طرح على الصحابة أحجية: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها"([17])... والنماذج على ذلك كثيرة لا تخفى عليكم -أيها الخطباء الفضلاء-.

 

فحري بالخطيب اللبيب أن يمتلك الحس الفكاهي وروح الدعابة، فإن الدعابة والفكاهة تفيدك الفوائد التالية:

أولًا: تحييد المعاند والتخفيف من الممانعة والمواجهة، وجعل المستمع أكثر تقبلًا واستجابة لكلمات الخطيب وأفكاره.

 

ثانيًا: كسر الملل وطرد الضجر وجذب الانتباه للاستفادة بمحتوى الخطبة أو المحاضرة.

 

ثالثًا: تشجيع المستمعين على الاقتراب من الخطيب والاحتكاك به وسؤاله عما لا يعلمون.

 

رابعًا: تحبيب الخطيب إلى قلوب مستمعيه -وهي موضوع حديثنا- فإن كنت مرحًا خفيف الظل انتفت ممانعتهم وأحبتك قلوبهم.

 

ولا يخفى على الخطيب اللبيب أن لكل مقام مقال؛ فليس كل موضوع قابل لأن تتخلله بالدعابة والفكاهة، خاصة الخطبة فوق المنبر إن كان موضوعها لا يتقبل دعابة كالحديث عن مآسي المسلمين -مثلًا-... وأرى أن الدعابة والفكاهة أنسب وأليق بالدرس والمحاضرة، واللتان هما من أدوات الخطيب.

 

وللحديث بقية.

 

([1]) أحمد (143)، وابن حبان في صحيحه (80)، والبزار في مسنده (3514)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1013).

([2]) فيض القدير، للمناوي القاهري (1/221)، بتصرف يسير، ط: المكتبة التجارية الكبرى - مصر.

([3]) البخاري (6502).

([4]) البخاري (7485)، ومسلم (2637).

([5]) أحمد (22401)، والطبراني في الأوسط (1240)، وقال الهيثمي: "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير ميمون بن عجلان، وهو ثقة"(مجمع الزوائد: 10/202 ط: مكتبة القدسي، القاهرة).

([6]) سير أعلام النبلاء للذهبي (4/49)، ط: مؤسسة الرسالة.

([7]) المدهش لابن الجوزي (ص: 523)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.

([8]) أمراض القلب وشفاؤها، لابن تيمية (ص: 1)، والاستقامة له (1/351).

([9]) البخاري (4106)، ومسلم (1803).

([10]) أحمد (18694)، والنسائي في الكبرى (8807)، وقال الهيثمي: "رواه أحمد، وفيه ميمون أبو عبد الله، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات" (مجمع الزوائد: 6/131).

([11]) الترمذي (1990)، وأحمد (8481)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1726).

([12]) الترمذي في الشمائل (230)، والطبراني في الأوسط (5545)، وصححه الألباني (الصحيحة: 2987).

([13]) الترمذي (1992)، وأبو داود (5002)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 7909).

([14]) البخاري (6129)، ومسلم (2150).

([15]) البخاري (441)، ومسلم (2409).

([16]) أبو داود (1991)، وأحمد (13817)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن أبي داود: 4998).

([17]) البخاري (61)، ومسلم (2811).

المشاهدات 720 | التعليقات 0