كن رجل عامة!
ناصر محمد الأحمد
كن رجل عامة
18/8/1439ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: نسمع ونقرأ كثيراً في كتب التاريخ والسير والتراجم أن فلان من الناس رجل عامة، وأن العالم الفلاني كان رجل عامة.
لقد وَسَمَ أهل التاريخ والتراجم عدداً من الأجلاّء بكونهم رجال عامة، كعمران بن حصين رضي الله عنه، والأوزاعي وأبو إسحاق الفزاري، والحافظ الثبت خالد بن عبد الله الطحّان، وغيرهم كثير.
قال علي بن بكّار: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: "ما رأيت مثل الأوزاعي والثوري! فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، وأما الثوري فكان رجلَ خاصةِ نفسِهِ، ولو خُيّرتُ لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي". وقال إبراهيم الجوهري: "قلت لأبي أسامة: أيهما أفضل: فضيل بن عياض، أو أبو إسحاق الفزاري؟ فقال: كان فضيل رجلَ نفسه، وكان أبو إسحاق رجل عامة".
وهنا تنبيه مهم: وهو أنه عندما يقال عن أحد العلماء الأجلاّء بأنه رجل خاصّة فإن هذا ليس بمنقصة له، لأنه وإن لم يبرز عن غيره في جانب قيادة المجتمع والتصدر لقضايا العامة، فقد يكون قد برز عن غيره في جوانب أخرى يحتاجها المجتمع، كأن يكون إماماً فُتِح له في الفقه في الدين، وقرينه إمامٌ فُتِح له في الزهد والورع، وذاك إمام فتح له في باب الاحتساب، وآخر إمام في جانب العطاء والإنفاق، وكل مسخر لما خُلِق له، وأكرم العباد على الله تعالى أتقاهم له، وكلٌ على بوابة ثغرٍ، والأمة محتاجةٌ إلى كلٍّ، رزقنا الله تعالى وإياكم رضاه وعفوه.
أخي المسلم: هل فكرت أن تكون رجل عامة؟.
لو أردنا الخير لمجتمعنا ولأمتنا، فليحرص كل واحد منكم أن يكون رجل عامة، ولو سألتني كيف أكون رجل عامة؟ ما هي سمات رجل العامة؟.
الجواب: رجل العامة: هو ذلك الرجل الذي وقف نفسه على الناس حاضراً بوضوح بينهم: يُعلمهم وينصح لهم، ويحمل همومهم، ساعياً لنفعهم، ومتصدراً لخدمتهم وحل مشكلاتهم، بكل رحابة صدر وبشاشة وجه.
رجل العامة: كثير الخشوع واليقظة والتقدم في العمل: إذ لا يستطيع حمل هموم الناس والعمل على نفعهم وتبنِّي قضاياهم وتقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة نفْسٌ غافلة، وشخصية شحيحة الزاد هزيلة الراحلة، وخير الزاد التقوى. فمن كان رقيقَ المحبة والتعظيم لخالقه، قليلَ الخشية منه سبحانه، ضعيف رجاء ما أعده الله تعالى لأوليائه، مقِلاّ من تزكية نفسه وإصلاح قلبه وتقوية الصلة بخالقه لم يقوَ على المضي الطويل في هذا السبيل على وجهه مهما أراده وتاقت إليه نفسه. فلا بد للرواحل من خشوع وبكاء، واستكثار من عبادة القلب، ولا بد للمتصدر لقضايا الناس من صلاة وقراءة وذكر وطول قيام. فتنبه لهذا: لا بد للمتصدر لقضايا الناس من صلاة وقراءة وذكر وطول قيام.
ولا بد لرجل العامة الحامل لهموم الأمة من حضور قلب وبُعد عن الغفلة، وحذر من الاغترار بمتاع الحياة وشهواتها ورضا أربابها، سواء أكان ذلك في الليل أم النهار، في الحضر أم السفر.
رجل العامة: فيه زهد وورع: فُطِرَت النفوس على عدم محبة الالتفاف حول نفوسٍ نسيت الآخرة، وتعلقت بشدةٍ بأوحال هذه الدنيا الفانية، وجَسَرَت على سلوك أي طريق وخوض أي مفازة ما دام ذلك موصلاً لها إلى تحصيل الملذات والظفر بالرئاسات. فالزهد والورع ركيزتان أساسيتان في شخصية رجل العامة، إذ يُمَكِّنان المرء من احتساب الأجر، والصبر على الأذى، وسلامة الصدر، ونزع الغل، وعدم الحديث عن النفس، وتوقِّي رؤية العمل واستعظامه، وحذر التعالم والخوض فيما يُجْهَل، وعدم انتظار الثناء والشكر، وترك الانتقام للنفس والوقيعة في الناس، أو السماح للآخرين بالتكلم في مجلسه بحديث غيبة، كما يحولان بين المرء والمنّة على الناس بما قدمه لهم وأحسن به إليهم، أو أن يلج في المزاحمة لهم على دنياهم.
وأشد الزهد والورع على هذا الصنف من الناس ما تعلق بجانب المال، وذلك لما يلاقيه أحدهم من ضغط العامة وكثرة إلحاحهم وشدة احتياجهم.
رجل العامة: فيه حلم وتواضع: وهما خصلتان مُمَكِّنتان للعبد من الاتزان والتُّؤَدة، والرفق واللين، وسعة الصدر واحتمال دواعي الغضب، والتبسم وطيب المحيا وإظهار البشاشة، والخلطة الواعية للناس بكافة مستوياتهم وأطيافهم، وحسن الإنصات لهم وسماع همومهم وقضاياهم، والبدار بقدر المستطاع إلى معونتهم وحل مشكلاتهم، مع الستر عليهم، وترك الحديث غير المسؤول عن قضاياهم. وقد كان هذا جليّاً في حياة أرباب هذا الشأن.
رجل العامة: جواد كثير التصدق: فمن لم يكن طويلَ اليد، كثيرَ الصدقة، كريماً باذلاً للمعروف بَغَضَه الخلقُ وانجفلوا عنه، إذ الجود مسوِّدٌ للوضيع، رافعٌ للشريف، حارسٌ للأعراض، محَبِبٌ العبدَ لدى الأضداد، فالسخاء وكثرة الإنفاق والعطاء صفات لازمة لرجل العامة، وإلا فكيف له أن يظفر بقبول الناس وينال محبتهم؟.
رجل العامة: محتسب يصدع بالحق: فمن ترك مقولة الحق وداهن الواقع في منكرٍ، مع علمه وقدرته، من دون تأوُّلٍ سائغٍ في ترك الأمر والنهي أغضب الحق وسقط من أعين الخلق، ومن ثَمَّ يكون قد افتقد بتقصيره ذلك أهمَّ عوامل النجاح ومكونات القدرة على توجيه الآخرين وصناعة وجهتهم. وكلما كان الموقف أرضى للرب، وأصدع بالحق كثرة أو جرأة في عقل، وأنصح للأمة وألصق بهمومها وقضاياها كان أملكَ لقلوب العامة، وأقدر على ولوجها والتأثير فيها ونيل مودتها. وليس الأمر بقاصر على الحسبة على سلاطين الجور، بل إن ذلك شامل للاحتساب على زيغ العامة وما قد يقع فيه بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة من بدع وانحرافات ظاهرة.
رجل العامة: رجل وقور حسن المظهر: جُبِلت النفوس على التعلُّق بجمال النفس، ورقة الكلمة، وحسن الزي، والسمت الحسن، والوحشة من ضد ذلك، ولذا لا بد لرجل العامة من ملاحظة رعاية زِيِّه، وتجميل مظهره، وتطييب لفظه، والاتسام بالهدوء والحشمة، قال الأوزاعي رحمه الله: "كنا قبل اليوم نضحك ونلعب. أما إذا صرنا أئمة يُقتدَى بنا فلا أرى أن يسعنا ذلك، وينبغي أن نتحفط".
أيها المسلمون: إضافة إلى ما سبق فينبغي لرجل العامة الاجتهاد في بذل العلم والنصح للعامة والإجابة عن استفساراتها: لا يكون طالب العلم مبارَكاً حتى يُعْنَى بالإكثار من بذل العلم والجود بالنصيحة، مستثمراً كل فرصة، متفنناً في اختيار الوسيلة النافذة إلى قلوب الناس وعقولهم.
ثم العناية بخدمة الناس وبذل الوُسع في الشفاعة لهم والقيام بقضاياهم: وهذا الجانب هو الشيء الملموس واللب الظاهر لرجل العامة، ولن يتمكن المرء من القيام بذلك ما لم يكن لديه احتساب ظاهر، وزاد عظيم من العلم والصبر والحكمة، وحسن الفهم، والتسامح، والشعور العالي بالمسؤولية تجاه هذه الأمة، وامتلاك الدافع القوي في إظهار محاسن الديانة، ورفع الظلم، وتحقيق العدالة لكل أحدٍ: قريبٍ أم بعيد، شريفٍ أم وضيع.
وأن يرى المنة لله تعالى وحده بأن أتاح له مفاتيح إحسان وبوابات أجر، وجعل الناس واقفين ببابه محتاجين إليه، ولم يجعله كذلك، مما يحمله على مزيد استغفار من التقصير، ويدعوه إلى الاجتهاد في التحلي بمرتبة الشكر.
وهو يتطلب منه: معايشةً أكثرَ للناس، والقيام ببذل النفس، وإعطاء الوقت، وعدم ادِّخار السبل والوسائل، واتخاذ مكان ظاهر يُمْكِن للعامة الوصول بسهولة إليه لعرض مشكلاتهم وطلب قضاء حوائجهم منه.
والمتأمل في واقعنا الدعوي اليوم يرى بجلاء حاجة أمتنا إلى رجال عامة تحلَّوْا بهذه السمات العظيمة، فانبروا لخدمة الناس، وتحقيق مقاصد الديانة، والعمل على حفظ سياج الأمة من أن يتصدرها فكرياً أو اجتماعياً زائغٌ يقودها إلى التهلكة، أو صاحب شهوة ليس له من هدف إلا بناء مجده وسؤدده، وتحقيق أطماعه ومصالحه، وتأسيس أعمدة شرفه.
فاللهم ألهمنا رشدك، وهبنا بمنِّك وجودِك ودقيقِ لطفِك وعظيمِ إحسانك توفيقَك وبركتَك، واستخدمنا في طاعتك، واجعلنا من الذائدين عن دينك وكتابك وعرض نبيك، وصلى الله وسلم على النبي المختار، وعلى الصحب والآل والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: بالتأمل الدقيق في بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي نعرفها:
لم يكن ذلك الرجل يعلم أن اليوم الذي أماط فيه الشوك عن طريق الناس، كان أفضل أيام حياته إذ غفر الله له به.
ولم تكن المرأة البغيّ تتوقع أن يكونَ أسعد أيام حياتها ذلك اليوم الذي سقت فيه كلباً أرهقه العطش فشكر الله صنيعها وغفر لها.
إن أسعد أيام يوسف عليه السلام كان ذلك اليوم الذي انتصر فيه على داعي الغريزة ووقف في وجه امرأة العزيز قائلاً: (معاذ الله) فترقّى في معارج القرب، وحظي بجائزة: (إنه من عبادنا المخلصين).
الذين شهدوا غزوة بدر لم يكن في حسبانهم أن يقال لهم: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
ولما طأطأ طلحة ظهره للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ليطأه بقدمه، لم يكن يتوقع أن يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: "أوجب طلحة". أي الجنة.
أخي المبارك: إن العبد قد يكتب له عزّ الدهر وسعادة الأبد بموقف يهيئ الله له فرصته، ويقدر له أسبابه، حينما يطّلع على قلب عبده فيرى فيه قيمة إيمانية أو أخلاقية يحبها، فتُشرقَ بها نفسه وتنعكس على سلوكه بموقف يمثل نقطة مضيئة في مسيرته في الحياة، وفي صحيفة أعماله إذا عُرضت عليه يوم العرض.
إن السعادة الأبدية قد تكون بالنسبة لك أخي المسلم في فرصة، وفرصة واحدة فقط.
فيا أيها المبارك: أين يومك؟ هل أدركته أم ليس بعد؟.
توقع أن يكون أسعد أيامك، واللحظة التي تدخل بها الجنة بسبب:
دمعة في خلوة.
أو مخالفة هوىً في رغبة.
أو في سرور تدخله على مسلم.
أو مسحَ رأس يتيم.
أو تقبيل قدمِ أمّ.
أو قولُ كلمة حق.
أو إغاثة ملهوف.
أو نصرة مظلوم.
أو كظم غيظ.
أو إقالة عثرة.
أو سَتر عورة.
أو سدُّ جَوعة.
وهكذا فأنت لا تعلم من أين ستأتيك ساعة السّعد.
أيها الأخ المبارك: ليكن لك في كل يوم عملٌ على نية أن يكون عملك المنجي والذي بسببه ستدخل الجنة. فلعله يكون يومك الموعود .. يوم العمر.
اللهم ..