كلوا من الطيبات

أحمد عبدالعزيز الشاوي
1441/03/24 - 2019/11/21 13:27PM
الحمد لله يعفو ويغفر وهو الغفور الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بكل شيء عليم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين فتحوا الدنيا وعرضت عليهم كنوزها فآثروا النعيم الأبدي المقيم، وسلم تسليماً، أما بعد:
فياعبد لله اتقوا ربكم وكلوا من الطيبات واعملوا صالحا إنه بماتعملون عليم
حدث بعد صلاة الفجر .. في المسجد كان الإمام يصلي وحينما فرغ من صلاته التفت فرأى مصلين ليسوا من جماعته فماذا فعل ..
أما المسجد فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما الإمام فالنبي الرحيم محمد بن عبدالله
حينما رآهم لم يتمعر وجهه ، ولم يعل صوته ، ولم يغلظ في قوله وإنما تبسم وعرف السبب ؟ لعلكم عرفتم أن أباعبيدة قدم بمال من البحرين ، فأبشروا وأملوا مايسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها  فتهلككم كما أهلكتهم».إنه النبي الرحيم الذي يدرك حاجة النفس البشرية ويؤمن بالفطرة التي فطر الله الناس عليها .. وإنه الدين القويم دين التوازن والواقعية والشمولية
إنه دين ينظر إلى الدنيا باعتبارها مزرعة للآخرة، والعمل فيها وسيلة لا غاية.
إنه دين لا ينكر على الناس حبهم للدنيا وتعلقهم بها ما لم تصرفهم عن الغاية التي خلقوا من أجلها.
إن منهج الإسلام منهج قويم [وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ]
إنه منهج يعلق قلب واجد المال بالآخرة ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة بل يحضه على هذا كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
يصف الله عز وجل الإنسان بأنه لحب الخير لشديد. وقال: [وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا] وإن وصف المال بأنه خير، دليل على أن حب المال قد يكون فضيلة إذا جمع من حله وأدي حق الله فيه وأنفق منه في وجوه البر والخير وإعفاف النفس عن التذلل للآخرين، وفي الحديث: نعم المال الصالح للرجل الصالح. ولا حسد إلا في اثنتين، ومنها: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق. وإن مهمة العبادات في الإسلام أن تأخذ بيد الإنسان حتى لا تغرقه أعمال الدنيا في لجة النسيان، وتقوم بالتنبيه والتذكير لمن نسي مولاه أو غفل عن أخراه، ثم تدع الإنسان يعود بعد أدائها إلى دنياه يلقاها ساعياً حثيث الخطى وثيق العرى.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]
وهذا هو شأن المسلم، عمل وبيع قبل الصلاة ثم صلاة وسعي إلى ذكر الله ثم انتشار في الأرض وابتغاء من فضل الله.
ومع كل هذا فيجب أن نعلم أن حب المال فتنة قل من يصبر عليها ويسلم من آفاتها، لأنها كثيراً ما تجاوز حدها وتطغى حتى تسيطر على قلب صاحبها [إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ]
إن شهوة حب المال مزلق خطير، كثيراً ما تجرف صاحبها حتى يجاوز الحد ويبغي في الأرض ويستغرق في الطمع والجشع والتعدي على الآخرين [وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ]
إن حب المال إذا تحول من وسيلة إلى غاية ودخل ذلك الحب إلى أعماق القلب فإنه سيضعف جذوة الإيمان ويخرج من قلب المؤمن ما كان يملؤه من حب الله ورسوله ليحل محله حب الدنيا والتعلق بها والحرص على شهواتها وأهوائها، حتى تفتر همة المرء عن الطاعات ويتقاعس في أدائها ولا يجد في قلبه محبة لها.
كم من إنسان كان محسوباً على أهل الخير والصلاح جرفه حب المال فأصبح ممن يتأخر في الصلوات ويتكاسل في الجمع والجماعات وينأى عن مجالس الوعظ والتذكير.
وكم من خيّر كان يتقد حماساً للدعوة والإصلاح، أصبح بعد كثرة المال بارد الهمة ضعيف الذمة. ساء مظهره بعد أن ساء مخبره.
وإن حب المال يورث الشح والبخل والحرص الشديد على ذلك المال والطمع فيما عند الآخرين، وما يتبع ذلك من ظلم وعدوان وإيذاء للناس وحسد وغل وحقد وافتراء بالباطل.
إن المسلم الحق والذي يرجو الله ويخاف يوما عبوسا قمطريرا وهو يؤمن بنظرة الإسلام للمال وأنه لابد للمرء من اشتغال بشيء من الدنيا ليكف بها نفسه عن سؤال الناس، وليساهم بماله في نصرة الدين ودعم معالم الخير والإصلاح، فإنه قبل ذلكلاينسى أنه واقف بين يدي ربه وسائله عن ماله من اين اكتسبه وفيم أنفقه ، وقبل أن يجمع المال يقشعر قلبه وهو يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل يطيل السفر اشعث اغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك
إنه يؤمن أن الربا إعلان للحرب من الله ورسوله وأن الله يمحقه وأن درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية ولذا فإنه يتقي الشبهات ويتورع عما فيه شبهة ربا ويتسامى على الحيل التي توصل للربا استبراء لدينه وعرضه وطهرة وزكاة لماله
إنه يمتثل أمر الله فلايأكل إلا طيبا ( فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون )
إنه يخاف الله فيما يكتسب ويتورع عما فيه شبهة حرام فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، قال عمر رضي الله عنه ( كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام )
المسلم يتقي الله في ماله فلايأكل أموال الناس بالباطل بالغصب أو بالنصب أو القوة والغلبة أو تحايلا على القضاء فإن قضاء القاضي لايحل حراما ولايحق باطلا ومن قضي له بالباطل فإن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة
المسلم الحق لايكوّن ثروته من أكل أموال اليتامي وهو يعلم أن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ، ولا يجمع ماله بالغش والتدليس وهو يسمع حديث ( من غش فليس منا ) ولايدنس ماله يأخذ الرشوة وقد لعن أهلها والمتعاملون بها وهي سبب لفساد المجتمعات وتدمير للحقوق وأذان بالهلاك من الله جل وعلا وفي الحديث ( مامن قوم يظهر فيهم الرُشا إلا أخذوا بالرعب
المسلم الصادق الأمين لايكتسب ماله من التلاعب بأموال الناس بالمساهمات الصورية بثوبها البراق وحقيقتها الزائفة ، والإثراء على حساب الضعفاء فكم ضاعت بسبب ذلك من حقوق وامتلأت من سجون ..
المسلم الأمين لايبني ثروته من ديون لم يعزم على سدادها فكم كانت هذه الدناءة سببا في هموم المستدين ، وقطعا للمروءة والشهامة عند الدائنين .. ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله وإن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان
المسلم الخائف من ربه لايكتسب ماله من سرقة وقد رسول الله صلى الله عليه وسلم السارق يسرف البيضة فتقطع يده فكيف بما فوقها ، ولايكتسب ماله من الاستيلاء على ميراث النساء والصغار والسفهاء ولا من مهور البنات والموليات ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه وباء بسخط من الله
المسلم يتورع عن درهم من حرام لأنه يوقن أن نهايته محق البركات وحلول الحسرات وفي الآخرة نار تلظى وفي الحديث ( من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به وإن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة ومن اقتطع حق امريء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقيل يارسول الله : وإن كان شيئا يسيرا ؟ فقال : وإن كان قضيبا من أراك
المسلم الذي يتقي الله من ورائه زوجة صالحة وأهل بيت صالحون تقول إحداهن لزوجها إذا خرج يطلب رزقا : اتق الله فينا ولاتطعمنا من حرام فإننا نصبر على الجوع ولانصبر على النار
وهكذا فإن المسلم الحق غايته لاتبرر الوسيلة ، ونظرته أخروية لامادية .. يبتغي من فضل الله متزملا بالخوف من عقاب الله متسلحا بالرضا والقناعة مؤمنا أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلا موقنا أن ماعند الله لايطلب بمعصيته
رزقنا الله من فضله رزقا طيبا واسعا وأستغفر الله لي ولكم
 
الخطبة الثانية
إن المتأمل في عالم الناس اليوم يرى عالما تغيرت فيه كثير من القيم الصحيحة وتبدلت فيه المفاهيم المستقيمة ، عالما سيطرت فيه المادة فراحوا يجمعون الدنيا بكل طريق ويستكثرون منها باي سبيل ، وتساهلوا في جمع الأموال ، لايهمهم أمن حلال أم من حرام ، حتى صدق فيهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم ( يأتي على الناس زمان لايبالي المرء ماأخذ أمن الحلال أم من الحرام ، عالما غدت فيه كلمة “حرام” أكثر كلمة تنفر منها الأسماع، وأصبح الحلال فيه هو كلّ ما حلّ في اليد، ولو كان حرامًا واضحًا لا شبهة فيه، وصار من السّهل على كثير من المسلمين أن يأخذ الواحد منهم الحرام أو يعطي الحرام، ويجد لنفسه مبرّرا من واقعه أو واقع المجتمع من حوله، ويتعلّل بأنّه ليس وحده من يُواقع ذلك
وإذا كان لأكل الحرام صور وأشكال فإنه يأتي في أولها وعلى أول قوائمها استباحة المال العام بالسرقة، أو النهب، أو الاختلاس، أو التفريط أو التحايل أو تضييع وقت العمل واستغلال المال العام في مصالح شخصية .. والمال العام أعظم خطراً من المال الخاص الذي يمتلكه أفراد أو هيئات محددة، لكثرة الحقوق المتعلقة به وتعدد الذمم المالكة له ، فالسارق له سارق للأمة لا لفرد بعينه، وخصومه يوم القيامة ليس فردا أو أفرادا وإنما سيقف يوم القيامة أمام الأمة بأكملها تحاسبه وتطالبه ،وإذا كان سارق فرد محدد مجرماً تقطع يده في ربع دينار فصاعداً، فكيف بمن يسرق مال الدولة ويستحل ممتلكاتها ؟! كيف تكون صورته في الدنيا وعقوبته في الآخرة ؟ ولذلك حرم الإسلام من إتلافه أو سرقته أو الإضرار به أو الاعتداء عليه بأي صورة من الصور ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ماكسبت وهم لايظلمون )
إن حماية المال العام ضرورة شرعية لأن به تدار شؤون البلاد والعباد والاعتداء عليه اعتداء على مجموع الأفراد والمجتمع ، كان معيقيب مسؤولا عن بيت مال الفاروق رضي الله عنه فكنس بيت المال يوما فوجد فيه درهما فدفعه إلى ابن لعمر ثم انصرف إلى بيته فإذا رسول عمر يدعوه فجاء والدرهم في يد عمر فقال له : ويحك يامعيقيب أوجدت علي في نفسك شيئا ؟ فقلت وماذاك ياأمير المؤمنين ؟ فقال : أردت أن تخاصمني أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الدرهم
لاأشد في حرمة المال العام أن يكون صحابي استشهد في معركة لكنه سرق شملة من مال الغنيمة قبل تقسيمه فأصبح بشؤم هذا الاعتداء يتقلب في النار بسببه كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم
ويكفي في عظم حرمته قوله صلى الله عليه وسلم ( والذي نفسي بيده لايأخذ أحد منه شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ألا هل بلغت اللم هل بلغت اللهم هل بلغت )
إن المال العام أمانة لدى جميع أفراد الأمة فليحافظوا على هذه الأمانة وليرعوها حق رعايتها وليؤد الذي ا}تمن أمانته وليتق الله ربه
وختاما ما أسعد الإنسان الذي أوتي كفافاً وقنعه الله بما آتاه ومن أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها.
ما أسعد الإنسان حينما يملك الدنيا ولا تملكه، حينما يجعلها في يده لا في قلبه.
ما أعظم الإنسان تقبل عليه الدنيا، وتفيض عنده الأموال فلا يزداد إلا تواضعاً وسماحة وبذلاً في سبل الحق، وعطاء للخلق.
ما أجمل المال في أيدي أناس نفوسهم سخية، وقلوبهم نقية لا يبخلون بما آتاهم الله من فضله ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ..
ماأجمل أن يتدثر الناس بالخوف من الله ويتدرعون بمراقبة الله والاستحياء منه ويتجملون بالإيثار والبعد عن الأثرة ويتحلون بالقناعة والرضا بما قسم الله وبالورع عما فيه مظنة غضب الله ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك
اللهم صل وسلم ...
 
 
المشاهدات 1129 | التعليقات 0