كف عليك هذا

عبد الله بن علي الطريف
1444/04/08 - 2022/11/02 23:15PM

كف عليك هذا.1444/4/10هـ

الحمد لله الذي أحسن خلق الإنسان، وعلمه البيان فقدمه به وفضله، ثم أمده بلسان يترجم به ما حواه القلب وعقله، وأطلق بالحق مقوله، وأفصح بالشكر عما أولاه وخوله.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أكرمه وبجله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا..

 أما بعد فإن اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير جرمه لكنه عظيم فيما أودعه الله تعالى من عجيب خلقه، فهو يحتوي على سبع عشرة عضلة تتحرك عند الأكل والحديث بحركات مختلفة عن بعضها بحركة لا إرادية، فعندما يريد الإنسان أن ينطق بحرف معين يتحرك اللسان بحركة خاصة بكل حرف من أجل أن ينطق بالحرف المراد، وعند الأكل يتحرك بحركة أخرى مغايره تناسب الحال، ويتحرك اللسان في الفم بسرعة وانسيابية عجيبة فقد جعل الله ست غدد لعابية تقوم بإفراز اللعاب بقدر الحاجة أثناء الحديث والمضغ، وأودع الله في اللعاب مواداً عجيبة تساعده على قيام بدوره بوجه كامل، ولو تعطلت هذه الغدد لم يستطع الإنسان أن يتكلم أو يأكل ولأصبح فمه مصدراً للأمراض.. فسبحان من خلقه وأودع به هذه الأسرار..   

أحبتي: وكما أن اللسان عظيم في أسرار خلقه كما أسلفنا.. فهو عظيم كذلك في طاعته وجرمه، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان.. ثم إنه ما من موجود أو معدوم.. خالق أو مخلوق.. متخيل أو معلوم مظنون أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، وكل ما يتناوله العلم يعرب عنه اللسان إما بحق أو باطل ولا شيء إلا والعلم متناول له.. وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء..

فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور.. والآذان لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير الأجسام وكذا سائر الأعضاء.. لكن اللسان رحب الميدان ليس له مَرَدٌ.. ولا لمجاله منتهى وحد.. فله في الخير مجال رحب.. وله في الشر مجال خصب.. فمن أطلق اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان.. وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار..

فَقَد قَالَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟» رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني.. ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة.. ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله..

قال الغزالي رحمه الله: وعِلْمُ ما يُحمدُ فيه إِطلاقُ اللسانِ أو يُذمُ غامضٌ عزيزٌ.. والعملُ بمقتضاه على منْ عَرَفَهُ ثَقِيْلٌ عَسِيْرٌ.. وأعصى الأعضاءِ على الإنسان اللسان؛ فإنه لا تعب في إطلاقه، ولا مؤنة في تحريكه.. وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله والحذر من مصائده وحبائله.. وإنه أعظم آلة للشيطان في استغواء الإنسان..

أيها الإخوة: أن خطر اللسان عظيم ولا نجاة من خطره إلا بالصمت فلذلك حث الشرع على الصمت ومدح فاعلَه، قَالَ ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الأدب، وهو صريح في أنه ينبغي ألا يتكلم المسلم إلا إذا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة، فلا يتكلم.. وعن سُفْيَانَ الثقفي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قلت يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ فِي الإِسْلامِ لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، فَقَالَ ﷺ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَأَيَّ شَيْءٍ أَتَّقِي.؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ. رواه أحمد وغيره وإسناده صحيح. عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ.؟ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ». رواه الترمذي وهو صحيح. والمعنى: احفظ لسانك وصنه لعظم خطره وكثرة ضرره. قَالَ ﷺ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ [أي تذل وتخضع له] فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا». رواه الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَهُ إلى النبي وهو حديث حسن وعن معاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النَّبيِّ ﷺ قال: «إنَّكَ لن تزالَ سالماً ما سكتَّ، فإذا تكلَّمتَ، كُتِبَ لك أو عليك». رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات.. وَلَقِيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى خَصْلَتَيْنِ هُمَا أَخَفُّ عَلَى الظَّهْرِ وَأَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ.؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: عَلَيْكَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَطُولِ الصَّمْتِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَمِلَ الْخَلاَئِقُ بِمِثْلِهِمَا». رواه الطبراني وغيره عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو حديث حسن.

وعَنْ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا»، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَنْ يَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِكَ»، ثُمَّ سَكَتَ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. رواه الطبراني وصححه الألباني.. وَقَالَ ﷺ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ». رواه البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

أيها الأحبة: تأملت هذه الأحاديث فوجدت فيها أمرَ النبيِّ ﷺ بالصمت بقوله: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ. وَأَنَّ أَثْقَلُ شيء فِي الْمِيزَانِ حُسْنِ الْخُلُقِ وَطُولِ الصَّمْتِ. ووجدت فيها نهيَ النبي ﷺ عن إطلاق اللسان حين سُئِلَ: أَيَّ شَيْءٍ أَتَّقِي.؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ.. وَلَمَا سُئِلَ مَا النَّجَاةُ.؟ قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ.. وَلَمَا سُئِلَ أيّ الأعمال أفضل.؟ قَالَ: أَنْ يَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِكَ.. وبادر معاذاً بقوله: لن تزالَ سالماً ما سكتَّ، فإذا تكلَّمتَ، كُتِبَ لك أو عليك..

إذاً جماع الخير بالصمت وعدم إطلاق اللسان.. وهذا مصداق ما رُوىَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ صَمَتَ نَجَا». رواه ابن أبي الدنيا بسند مرسل رجاله ثقات.

أيها الإخوة: وما أصدق الفضيل بن عياض عندما قال: "ما حجٌّ ولا رباطٌ ولا جهادٌ أشدَّ مِنْ حبسِ اللسان، ولو أصبحت يهمُّك لسانك أصبحت في غمٍّ شديد".. أسأل الله تعالى أن يعيننا على حفظ ألسنتنا إنه جواد كريم.. أقول قولي هذا...

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: لقد أدرك سلف الأمة خطر إطلاق اللسان بما يسوء، وعلموا فضل الصمت ولذلك كثرت أقولهم في ذلك فقد روي عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أنه دَخَلَ عَلَى أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ: "لَهُ عُمَرُ مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِى الْمَوَارِدَ".

 وعن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: "والذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان".. وكان يقول "يا لسان، قل خيرا تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم".. وكتب رجل إلى ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن اكتب إلي بالعلم كله، فكتب إليه: "إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافَ اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم فافعل"..

وعن الحسن قال: "ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه".. وقال سفيان الثوري: "لأن أرمي رجلاً بسهم أحب إليَّ من أن أرميه بلساني". أي: لأن رمي اللسان لا يخطئ، لكن السهم قد يخطئ.

وعن يعلى بن عبيد قال: قال سفيان: "لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء.؟ قلنا: لا، قال: فإن معكم الملائكة ترفع الحديث إلى الله سبحانه وتعالى". فقد قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18].

وقال عطاء بن رباح: "إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ماعدا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﷺ أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو أن تنطق بحاجتك في معيشتك التي لابد منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كراما كاتبين وعن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره وكان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه"..

وقال طاووس: "لساني سبعٌ إن أرسلته أكلني".. وقال يونس بن عبيد: "ما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله".. وقال عمر بنُ عبد العزيز رَحِمه الله: "من عدَّ كلامه من عمله، قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه".. وهو كما قال؛ فإنَّ كثيراً من الناس لا يعدُّ كلامَه من عمله، فيُجازف فيه، ولا يتحرَّى..

ولعظم خطر اللسان نفى الله الخير عن كثيرٍ مما يتناجى به الناسُ بينهم، فقال: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاس). [النساء:114]

أيها الأحبة: قال الغزالي: آفات اللسان كثيرة وسهلة على اللسان ولا يثقُلُ عليه فعلها، ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يُحَبُ، ويَكُفْهُ عما لا يُحَب، وفي هذا مشقة عظيمة، وفي الخوض خطر.. وفي الصمت سلامة.. فلذلك عظمت فضيلة الصمت مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة، فقد قال الله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18].. اللهم وفقنا لحفظ ألسنتنا عن السوء واجعلنا هداة مهتدين...

 

 

المشاهدات 4431 | التعليقات 0