كف أذاك عن الناس
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
الحَمْدُ للهِ الوَلِيِّ الحَمِيدِ؛ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَحَرَّمَ أَذِيَّةَ الخَلْقِ بِلاَ حَقٍّ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَطَائِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَتْ أَخْلاَقُ بَنِي آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ؛ فَفِيهِمُ الطَّيِّبُ والْخَبِيثُ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَأَعْلَى ذِكْرَهُ فِي العَالَمِينَ، وَخَاطَبَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4}، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَلاَ تَكْفُرُوهُ، وَخُذُوا دِينَهُ بِعَزْمٍ وَقُوَّةٍ؛ [فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {الزُّخرف:43}.
أَيُّهَا النَّاسُ: مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ عَظِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ، وَاتَّبَعُوا رُسُلَهُ، وَصَدَّقُوا أَخْبَارَهُ، وَالْتَزَمُوا شَرِيعَتَهُ.
مَحَبَّةٌ أَوْرَثَتْهُمْ مَنْزِلَةَ الخُصُوصِيَّةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَاخْتَصَّهُمْ بِهِدَايَةٍ وَرَحْمَةٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الخَلْقِ، وَبِهَذِهِ الهِدَايَةِ وَالرَّحْمَةِ يَنَالُونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ وَفَرَحِهِ بِاللهِ تَعَالَى، وَسَعَادَةِ الآخِرَةِ بِالفَوْزِ العَظِيمِ وَالفَلاحِ الكَبِيرِ، وَالقُرْبِ مِنَ الرَّحْمَنِ جَلَّ فِي عُلاهُ.
وَيَكْفِي فِي بَيَانِ مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلِأَجْلِ هَذِهِ المَحَبَّةِ العَظِيمَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ؛ كَانَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ قَصْدُ المُؤْمِنِ بِمَا يَسُوءُهُ وَيُؤْذِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ الأَذَى حِسِّيًّا بِالقَتْلِ أَوِ الضَّرْبِ أَوِ الحَبْسِ أَوِ التَّعْذِيبِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ التَّعْذِيبُ بِالقَوْلِ؛ كَالشَّتْمِ وَاللَّعْنِ وَالغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالبُهْتَانِ وَالتَّعْيِيرِ وَشِبْهِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ الأَذَى المَعْنَوِيُّ أَشَدَّ وَطْأَةً عَلَى النَّفْسِ، وَأَبْقَى أَثَرًا فِي النَّاسِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَلْوِيثِ السُّمْعَةِ، وَنَشْرِ السُّوءِ، وَلا سِيَّمَا إِنْ كَانَ كَذِبًا وَبُهْتَانًا، وَفِيهِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: [وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] {النساء:112}، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: [وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ] {الأعراف:152}.
وَفَسَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الغِيبَةَ بِأَنَّهَا: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ:إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَإِنَّمَا حُرِّمَتِ الغِيبَةُ لِمَا فِيهَا مِنَ الأَذَى المَعْنَوِيِّ، وَأَعْظَمُ مِنْهَا البُهْتَانُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الكَذِبِ وَالغِيبَةِ.
وَالنَّاسُ كَثِيرًا مَا يَسْتَهِينُونَ بِأَذِيَّةِ اللِّسَانِ، مَعَ أَنَّهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ أَشَدُّ مَرَارَةً مِنْ أَخْذِ المَالِ، أَوْ الاعْتِدَاءِ عَلَى الأَبْدَانِ.
وَالمُخَالِطُونَ لِلْمَرْءِ، وَالقَرِيبُونَ مِنْهُ؛ أَذِيَّتُهُمْ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْ أَذِيَّةِ غَيْرِهِمْ؛ لِحُرْمَةِ قُرْبِهِمْ، وَعَظَمَةِ حَقِّهِمْ؛ وَلِتَوَقُّعِ تَكْرَارِ وُقُوعِ الأَذَى عَلَيْهِمْ؛ فَأَذِيَّةُ الوَالِدَيْنِ عُقُوقٌ، وَأَذِيَّةُ القَرَابَةِ قَطِيعَةٌ، وَأَذِيَّةُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ سُوءُ عِشْرَةٍ، وَأَذِيَّةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا نُشُوزٌ، وَأَذِيَّةُ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ سُوءُ تَرْبِيَةٍ، وَأَذِيَّةُ الجَارِ سُوءُ جِوَارٍ، تُذْهِبُ أَجْرَ كَثِيرٍ مِنَ العِبَادَاتِ، وَتَمْحُو أَثَرَهَا، وَمُقْتَصِدٌ مُحْسِنٌ لِجِيرَانِهِ خَيْرٌ مِنْ قَانِتٍ يُسِيءُ جِوَارِهِمْ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ -أَيْ: بِقَطَعٍ مِنَ الأَقْطِ- وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، واللهِ لَا يُؤْمِنُ واللهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَلَّقَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عَلَى هَذَا الحَدِيثِ فَقَالَ: «فَإِذَا كَانَ هَذَا بِمُجَرَّدِ الخَوْفِ مِنْ بَوَائِقِهِ، فَكَيْفَ مَنْ فَعَلَ البَوَائِقَ مَعَ عَدَمِ أَمْنِ جَارِهِ مِنْهُ».
وَإِذَا آذَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا دَعَتْ عَلَيْهَا زَوْجَتُهُ مِنَ الحُورِ العِينِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تُؤْذِى امْرَأَةٌ زَوْجَهَا في الدُّنْيَا إِلاَّ قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لاَ تُؤْذِيهِ قَاتَلَكِ اللهُ، فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكَ دَخِيلٌ يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا»؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَالجَمَاعَةُ فِي المَسْجِدِ يَجْتَمِعُونَ للصَّلاةِ لاَ يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْذِي غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ أَوْ حَتَّى بِرَائِحَتِهِ؛ وَلِذَا شُرِعَ التَّطَهُّرُ وَالتَّزَيُّنُ لِلصَّلاةِ؛ [يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] {الأعراف:31}، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ولا يُؤْذِيَنَّا بِرِيحِ الثُّومِ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي القُرْآنِ الكَرِيمِ نَهْيٌ شَدِيدٌ عَنْ أَذِيَّةِ أَيِّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ لَمْ تَعْرِفْهُ أَوْ تُخَالِطْهُ، أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ بَلَدِكَ، أَوْ يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ لُغَتِكَ، مَا دَامَ يَحْمِلُ وَصْفَ الإِيمَانِ، وَكَمْ يَسْتَهِينُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِأَذِيَّةِ الضَّعَفَةِ وَالمَسَاكِينِ مِنَ الخَدَمِ وَالعُمَّالِ وَنَحْوِهِمْ، وَيَسْتَحِلُّ شَتْمَهُمْ، وَالسُّخْرِيَةَ بِهِمْ، وَتَسْلِيَةَ نَفْسِهِ وَرِفْقَتِهِ بِأَيِّ أَذًى يُلْحِقُهُ بِهِمْ، وَإِثْمُ ذَلِكَ عَظِيمٌ، وَخَطَرُهُ كَبِيرٌ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] {الأحزاب:58}.
وَخَطَبَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَم يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ...»؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَلِشِدَّةِ النَّهْيِّ عَنْ أَذِيَّةِ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ سَبُّ مَيِّتٍ مَاتَ عَلَى أَسْوَأِ حَالٍ، إِذَا كَانَ ثَمَّةَ حَيٌّ يَتَأَذَّى بِسَبِّ ذَلِكَ المَيِّتِ كَأَهْلِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ قَرِيبِهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَإِزَالَةُ مَا يُؤْذِي النَّاسَ عَمَلٌ جَلِيلٌ، رُتِّبَ عَلَيْهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ أَمَاكِنِ اجْتِمَاعِهِمْ، وَقَدْ عَدَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِمَاطَةَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ.
وَأَيْقِنُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الجَنَّةَ فِي غُصْنٍ نَحَّاهُ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ؛ لِتَعْلَمُوا خَطَرَ أَذِيَّةِ النَّاسِ، وَفَضْلَ إِزَالَةِ مَا يُؤْذِيهِمْ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْعُ الأَذَى عَنِ المُسْلِمِينَ، أَوْ رَفْعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ مِنَ الأَولَوِيَّاتِ الَّتِي تُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ، فَقَالَ: انْظُرْ مَا يُؤْذِي النَّاسَ، فَاعْزِلْهُ عَنْ طَرِيقِهِمْ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمَا أَحْوَجَ المُسْلِمِينَ إِلَى التَّخَلُّقِ بِهَذَا الخُلُقُ الحَسَنِ الرَّفِيعِ، فَيَشْعُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَلا يُؤْذِي أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَيَسْتَبِقُونَ عَلَى الأَذَى لِإِزَالَتِهِ؛ رَغْبَةً فِي الأَجْرِ؛ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الغَيْرِ.
وَمِنْ سُمُوِّ الشَّرِيعَةِ وَرِفْعَتِهَا اهْتِمَامُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِغَرْسِ هَذَا الخُلُقِ الجَمِيلِ فِي أُمَّتِهِ، وَعَدِّهِ مِنْ مَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَأَنَّ تَرْكَهُ مِنْ سُوءِ الإِهْمَالِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ في مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ في الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَإِذَا عَجِزَ المَرْءُ عَنْ عَمَلِ الخَيْرِ كَانَ إِمْسَاكُهُ عَنْ أَذِيَّةِ غَيْرِهِ مِنَ الخَيْرِ إِذَا احْتَسَبَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، فَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جُمْلَةً مِنْ خِصَالِ الخَيْرِ يَحُثُّ أَبَا ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى العَمَلِ بِهَا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: «فَإِنْ لَم أَسْتَطِعْ، قَالَ: كُفَّ أَذَاكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَنْ نَفْسِكَ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَالطُّرُقُ يَلْتَقِي فِيهَا النَّاسُ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْ نَوَاصِيهَا وَسَعَتِهَا أَمَاكِنَ لِجُلُوسِهِمْ أَوْ لِحَدِيثِهِمْ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الطَّرِيقِ لِمَنْ جَلَسَ فِيهِ: كَفُّ الأَذَى، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ لاَ يَكُفُّ أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْلِسَ فِي طُرُقِهِمْ فَيُؤْذِيهِمْ.
يَقُولُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «تَضَمَّنَتِ النُّصُوصُ أَنَّ المُسْلِمَ لاَ يَحِلُّ إِيصَالُ الأَذَى إِلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ». اهـ.
وَفِي هَذِهِ النُّصُوصِ كِفَايَةٌ لِمَنْ عَرَفَ حُرْمَةَ المُؤْمِنِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، فَكَفَّ لِسَانَهُ وَيَدَهُ عَنْ أَذِيَّةِ أَحَدٍ، وَالمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمَلُوا لِآخِرَتِكُمْ، وَلا تَغْتَرُّوا بِالدُّنْيَا؛ [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الغَرُورُ] {فاطر:5}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَا أَبْعَدَ كَثِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ عَنْ أَخْلاقِ الإِسْلامِ وَآدَابِهِ، وَلا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَذَى النَّاسِ، سَوَاءٌ فِي الاسْتِهَانَةِ بِإِيقَاعِهِ، أَوِ الإِهْمَالِ فِي دَفْعِهِ وَإِزَالَتِهِ، وَكَأَنَّ الأَمْرَ لاَ يَعْنِي أَحَدًا مِنْهُمْ.
وَمِنْ أَبْيَنِ مَظَاهِرِ الأَذَى أَذِيَّةُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالسَّيَّارَاتِ فِي الطُّرُقِ، وَخَاصَّةً فِي حَالِ الزِّحَامِ وَعِنْدَ الإِشَارَاتِ، فَلاَ يَرْعَى بَعْضُهُمْ حُرْمَةَ بَعْضٍ، وَلاَ يَحْفَظُ لَهُ حَقَّهُ، وَكَأَنَّهُمْ فِي مَعْرَكَةٍ يُرِيدُ الوَاحِدُ مِنْهُمُ النَّيْلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَمْ مِنَ الأَذَى وَالاعْتِدَاءِ يَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَيَتَجَرَّأُ الوَاحِدُ مِنْهُمْ فَيَتَخَطَّى عَشَرَاتٍ مُنْتَظَمِينَ فِي طَرِيقِهِمْ، فَيُخَالِفُهُمْ وَيَعْتَدِي عَلَى حَقِّهِمْ غَيْرِ مُبَالٍ بِهِمْ، وَيَحْشُرُ سَيَّارَتَهُ بَيْنَهُمْ لِيَتَجَاوَزَهُمْ، وَيَنْتُجُ عَنْ ذَلِكَ غَضَبٌ وَانْفِعَالٌ وَشَتْمٌ وَإِزْعَاجٌ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الأَذَى.
وَفِي أَيَّامِ الامْتِحَانَاتِ يَتَجَمْهَرُ الشَّبَابُ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ وَعِنْدَ المَدَارِسِ لِلاسْتِعْرَاضِ، وَيُمَارِسُونَ أَذِيَّةَ النَّاسِ وَتَرْوِيعَهُمْ بِسَيَّارَاتِهِمْ، وَيُورِدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَغَيْرَهُمْ مَخَاطِرَ الحَوَادِثِ وَالهَلاكِ، وَلاَ أَحَدَ يَرْدَعُهُمْ عَنْ هَذِا الأَذَى.
وَمِنَ الشَّبَابِ مَنْ يُؤْذِي النَّاسَ فِي أَعْرَاضِهِمْ، فَيُغَرِّرُونَ بِالفَتَيَاتِ وَالأَحْدَاثِ وَيَصْطَادُونَهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَيَّامِ حَيْثُ غَفْلَةُ الوَالِدَيْنِ وَالثِّقَةُ العَمْيَاءُ فِي الأَوْلادِ، فَيَغْمِسُونَهُمْ فِي الفَوَاحِشِ وَالمُنْكِرَاتِ وَرُبَّمَا أَغْرَوْهُمْ بِالمُسْكِرَاتِ وَالمُخَدِّرَاتِ.
وَصُوَرُ الأَذَى لاَ تَكَادُ تَنْحَصِرُ فِي النَّاسِ مِنْ كَثْرَتِهَا، وَهَذَا مِنْ سُوءِ الأَخْلاقِ، وَمِمَّا يُنَافِي تَعَالِيمَ الإِسْلامِ، الَّذِي جَعَلَ الأَخْلاقَ مِنْ أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَفْضَلِهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْدِيدِ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ»؛ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ، قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَمَعْنَاهُ: اتَّقُوا الأَمْرَيْنِ الجَالِبَيْنِ لِلَّعْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُمَا لُعِنَ وَشُتِمَ.
وَلاَ يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنَّ أَذَى النَّاسِ بِالسَّيَّارَاتِ، وَتَعْرِيضَ حَيَاتِهِمْ لِأَخْطَارِهَا، وَتَرْوِيعَهُمْ بِهَا؛ أَشَدُّ أذًى مِنَ التَّخَلِّي فِي الطُّرُقِ وَقَدِ اسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ لَعْنَ النَّاسِ وَشَتْمَهُمْ، فَلْيَحْذَرْ شَبَابَ الإِسْلامِ مِنَ الوُقُوعِ فِي ذَلِكَ، أَوِ المُشَارَكَةِ فِيهِ بِالتَّجَمْهُرِ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا؛ فَإِنَّ تَكْثِيرَهُمْ لِسَوَادِ المُؤْذِينَ إِعَانَةٌ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ، وَلْيَحْذَرْ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُؤْذِيَ أَخَاهُ المُؤْمِنَ؛ فَإِنَّ قَدْرَ المُؤْمِنِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَظِيمٌ، وَقَدْ يُؤْذِي وَلِيًّا للهِ تَعَالَى، فَيُؤْذِنُهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِالمُحَارَبَةِ، وَلَنْ يُفْلِحَ مَنْ بَارَزَ اللهَ تَعَالَى بِالمُحَارَبَةِ.
وَصَلُّوا وَسَلّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.
المرفقات
كف أذاك عن الناس م.doc
كف أذاك عن الناس م.doc
كف أذاك عن الناس.doc
كف أذاك عن الناس.doc
المشاهدات 8288 | التعليقات 9
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فجزاكم الله خيرًا على ما تقدمونه، وأصلح نياتكم وذرياتكم، ورزقكم اﻹخلاص والقبول في كل ما تأتون وتذرون وإيانا والمسلمين.
جزاك الله خيرا شيخ إبراهيم ...
موضوع وقوف الشباب بسياراتهم ومنعهم المارة من المرور مع الصلف والكبر يستحق أن يدرس ويطرق أكثر من مرة بالتعرف على أسبابه وأهدافه أو مغزاه ومباعثه النفسية وأضراره وتداعياته ... عسى الله يهديهم ...
الإخوة الأكارم أبو عمر الشهراني والشمراني وشبيب القحطاني ومحب لأمة الإسلام ومرور الكرام
حياكم الله تعالى أجمعين وشكر لكم مروركم وتعليقكم على الموضوع ونفع بكم الإسلام والمسلمين..آمين
لكن لحظت في مثل هذه الخطبة ما يمكن تشبيهه بالفهرسة المعجمية للموضوع بحيث يجمع النصوص التي وردت فيها كلمة أذى
وعلى كل لكل طريقة أنصارها ومبرراتها وهذه الخطبة تدل على أن ما يبشر به الموقع مازال يحتاج إلى مزيد تأمل وتروي والله أعلم
أبو عمر الشهراني
تعديل التعليق