كعب بن مالك وآداب المقاطعة
هلال الهاجري
1438/10/05 - 2017/06/29 13:59PM
إِنَّ اَلْحَمْدَلِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيئَاتِ أعْمَالنَا، مَنْ يَهْدِهِ اَللَّهُ فَلَامُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلل فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أما بعد:
كعبُ بنُ مالكٍ الأنصاريُّ رضيَ اللهُ عنه، من الصَّحابةِ الكِرامِ، قديمُ الإسلامِ، ومن الشُّعراءِ العِظامِ، ممن جاهدَ بشعرِه في سبيلِ اللهِ تعالى، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِي الشِّعْرِ مَا أَنْزَلَ، فَقَالَ لَهُ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّمَا يَرْمُونَ فِيهِمْ بِهِ نَضْحَ النَّبْلِ)، وهو القائلُ في رِثاءِ رسولِ صلى اللهُ عليه وسلمَ:
يَا عَيْنُ فَابْكِي بِدَمْعٍ ذَرَى *** لِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ وَالْمُصْطَفَى
عَلَى خَيْرِ مَنْ حَمَلَتْ نَاقَةٌ *** وَأَتْقَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ التُّقَى
نَخُصُّ بِمَا كَانَ مِنْ فَضْلِهِ *** وَكَانَ سِرَاجًا لَنَا فِي الدُّجَى
وَكَانَ بَشِيرًا لَنَا مُنْذِرًا *** وَنُورًا لَنَا ضَوْءُهُ قَدْ أَضَا
فَأَنْقَذَنَا اللَّهُ فِي نُورِهِ *** وَنَجَّى بِرَحْمَتِهِ مِنْ لَظَى
وقد حدثتْ لكعبٍ رضيَ اللهُ عنه حادثةٌ أليمةٌ، فيها فوائدُ عظيمةٌ، لمن أرادَ الطَّريقةَ المُستقيمةَ، فدعونا نستمعُ لجُزءٍ منها بلسانِه، يَقولُ كَعْبٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ)، فهذا الذَّنبُ العظيمُ الذي ارتكبَه كعبٌ رضيَ اللهُ عنه، وهو التَّخلفُ عن مشهدٍ عظيمٍ من مشاهدِ الجِهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى، وخاصةً لمكانتهِ الخاصةِ عندَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، وكما أنَّهُ هو الجبهةُ الإعلاميةُ الكبيرةُ بشعرِه الذي أشدُّ على العدوِّ من رمي السِّهامِ.
ثمَّ قالَ بدأَ بذكرِ منقبةٍ عظيمةٍ له في الإسلامِ حتى لا يُساءُ به الظَّنُ: (وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ)، فهو حضرَ بيعةَ العقبةِ الثانيةِ مع الأنصارِ في مكةَ قبلَ الهجرةِ، حيثُ عاهدوا الرسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ على نُصرتِه إذا هاجرَ إليهم، بل وفرحَ رسولِ صلى اللهُ عليه وسلمَ به، حينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الحَرَامَ هُوَ والْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، فَإِذَا الْعَبَّاسُ جَالِسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ مَعَهُ جَالِسٌ، فَسَلَّمْنَا ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟، قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشَّاعِرُ؟، قَالَ: نَعَمْ.
ثُمَّ ذكرَ ما كانَ من خبرِه، أَنَّهُ مَا كَانَ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وأنَّها كَانَتْ في حَرٍّ شَدِيدٍ وسَفَرٍ بَعِيدٍ وَعَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، وأنَّهم كانوا كَثِيراً، فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ، وأنَّ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ.
ثُمَّ أخبرَ عن تسويفِه للَّحاقِ بهم، فيغدو لِكَيْ يَتَجَهَّزُ، ويَرْجِعُ وَلَمْ يَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، واسمع لمَّا تركَ الانضمامَ إلى جماعةِ المسلمينَ، أصبحَ محاطاً بالضُّعفاءِ والمنافقينَ؟.
يقولُ: (فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ)، فكيفَ هو شعورُ كعبِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه وهو الرَّجلُ الشُّجاعُ الشَّاعرُ، وهو في المدينةِ بعيداً عن جيشِ الإسلامِ، قد أحاطَ به المنافقُ الذي بنفاقِه مشهورٌ، والضَّعيفُ الذي بضعفِه معذورٌ.
قالَ: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا)، فما أجملَ الاعتذارِ إلى الأخِ الغائبِ، ولو كانَ ظاهرُ فعلِه الخُسرانُ الخائبُ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: (فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا، حَضَرَنِي هَمِّي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: مَا خَلَّفَكَ؟، أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟، فَقُلْتُ: بَلَى، ثُمَّ قالَ له: (وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ).
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ وكَانَ معَهُ مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ)، فلما كانَت الخطيئةُ تامَّةً، كانت المقاطعةُ عامَّةً.
قالَ: (فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً) .. يقولُ: (وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ)، كانتْ المقاطعةُ بسببِ ذَنبٍ جسيمٍ، لتحقيقِ هدفٍ عظيمٍ، فاستجابَ النَّاسُ لعلمِهم أن الهجرَ أحياناً يكونُ هو الدواءُ النَّافعُ، لمن لم ينفعْ معه التَّوجيهُ والنُّصحُ والحبيبُ الشَّافعُ.
التزمَ المؤمنونَ الصَّمتَ في هذه المقاطعةِ، ولم يكنْ فيهم من يستغِلُّ هذه المُقاطعةَ لإيقادِ النَّارِ، ولا لتمزيقِ الأستارِ، حتى المنافقينَ لم يجدوا فرصةً لبثِّ الفتنةِ بكشفِ الأسرارِ، وإثارةِ الأخبارِ.
ولكن انظرْ كيفَ حاولَ الأعداءُ استغلالَ الموقفِ، يقولُ كعبٌ: (فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ، مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ) محاولاتٌ لتوسيعِ الفجوةِ بينَ الأصحابِ، وتقويةِ المخطيءِ حتى لا يَرجعَ إلى سِربِ الأحبابِ، ولكنْ كيفَ تعاملَ كعبٌ مع هذا الكِتابِ؟.
فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: (وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْبَلَاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ، فَسَجَرْتُهُ بِهَا)، فنعمَ التَّصرفَ الحكيمَ، فمهما كانَ بينَ الأخوةِ من عِتابٍ وهَجرٍ، فلا يسمحوا للغيرِ بأن يصطادَ في الماءِ العكرِ.
لقد راعى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه المُقاطعةِ الحالاتِ الإنسانيةَ الخاصةَ، فحينما أمرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الثَّلاثةَ باعتزالِ نسائهم، قَالَ كَعْبٌ: (فَجَاءَتْ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ، قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا).
وهكذا قاطعَ المؤمنونَ الثَّلاثةَ خمسينَ يوماً، وهذا فيه جوازُ الهجرِ فوقَ ثلاثٍ إذا كانَ لسببٍ شرعيٍّ، حتى كانوا كما وصفَ اللهُ تعالى: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ).
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي جعلَ الأخوَّةَ من الإيمانِ، وجعلَ التآلفَ بين الإخوةِ من أَمتنِ الأركانِ، وتعاونَهم على الخيرِ كالبنيانِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه، المبعوث بالرحمة للإنسِ والجانِ، اللهم صلِّ وسلم عليه ما نطقَ بالتوحيدِ لسانٌ، وما عمرَ قلبٌ بإيمانٍ، وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم بإحسانٍ، أما بعد:
يقولُ كعبٌ رضيَ اللهُ عنه: (فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ)، (وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ قَالَ كَعْبٌ: حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَالَ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ)، فعجباً، لماذا هذا الفرحُ من المجتمعِ بأكملِه برفعِ المُقاطعةِ الاجتماعيةِ عن ثلاثةٍ من المؤمنينَ، فمنهم المُبشِّرُ، ومنهم المهنيءُ، ومنهم المُبارِكُ، ومنهم المُصافحُ، حتى رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ استنارَ وجهُه من الفرحِ، لا لشيءٍ إلا بالإيمانِ الكاملِ بقولِه تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
وهكذا تعاملَ أهلُ الإيمانِ مع المُقاطعةِ، فلم يفرحُ المؤمنونَ بمقاطعةِ إخوانِهم، واعتبروا هذا الهجرَ كالدواءِ الذي يؤذي المريضَ ولكن فيه شفاءُه، والتزموا الصَمتَ، وقطعوا الطَّريقَ على كلِّ من أرادَ أن يُثيرَ الفتنةَ ويؤججَ النَّارَ، ولم يكونوا عوناً للأعداءِ ولا الشيطانِ على إخوانِهم، بل وفرحوا برجوعِهم إليهم أشدَّ الفرحِ.
اللهم ألفْ بينَ قلوبِ المؤمنينَ، واجمع صفوفَهم على كلمةِ الحقِ والهدى يا ربَّ العالمينَ، اللهم اهدهم لما اُختلفَ فيه من الحقِ بإذنك، وأخرجهم من الظلماتِ إلى النورِ، اللهم وحِّد صفوفَهم، واربط بين قلوبِهم، اللهم إنا نسألُك أن تجعلَ أمةَ الإسلامِ أمةً واحدةً على أعدائها، اللهم إنا نسألك أن تردَنا إليك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريقِ الحقِ والسدادِ، وألهمنا الرشدَ والصوابَ، اللهم اجعلْ لنا ولهم من كل همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيقٍ مخرجاً، ومن كلِّ فتنةٍ عصمةً، ومن كلِّ بلاءٍ عافيةً يا سميعَ الدعاءِ، اللهم ثبت إخوانَنا المجاهدينَ، اللهم أنزل على قلوبِهم الصبرَ واليقينَ، وثبت أقدامَهم في مواجهةِ المعتدينَ، وحِّدْ اللهم كلمتَهم، وقوِّ شوكتَهم، وسددْ رميَهم، وعَظِّم قوتَهم، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا ربَّ العالمينَ، اللهم اجعلْ هذا البلدَ آمناً مطمئناً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ، وأصلحْ اللهم أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافَك واتقاك واتبعَ رضاك، اللهم وفقْ وليَ أمرِنا لهداك، واجعل عملَه في رضاك، وارزقه بِطانةً صالحةً تدله على الخيرِ وتحثه عليه يا سميعَ الدعاءِ، اللهم مَكنْ في الأمةِ لأهلِّ الخيرِ والرشادِ، واقمع أهلَ الزيغِ والفسادِ، وارفع في الأمةِ علمَ الجهادِ، وانشر رحمتَك على العبادِ برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ.
المرفقات
كعب بن مالك وآداب المقاطعة.docx
كعب بن مالك وآداب المقاطعة.docx