كرم أم إسراف

هلال الهاجري
1446/10/18 - 2025/04/16 08:20AM

إِنّ الْحَمْدَ ِللهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

(يَا أَيّهَا الّذِيْنَ آمَنُوْا اتّقُوا اللهَ وَقُوْلُوْا قَوْلاً سَدِيْدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْلَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا)، أَمّا بَعْدُ:

كَانَ لِلعَربِ والكَرمِ شَأنٌ عَظِيمٌ، يَتَنَافَسُونَ فِيهِ القَدرَ الجَسِيمَ، وكَانَ لا يَسُودُ فِيهِم إلا كَريمٌ، حتَى قَالَ الشَّاعِرُ:

كُلُّ السِّيادَةِ في السَّخَاءِ وَلَن تَرى *** ذَا البُخلِ يُدعَى في العَشيرَةِ سَيِّدا

ولِذَلِكَ لَمَّا سَأَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَمَ بَنِي سَلِمَةَ: (مَنْ سَيِّدُكُم؟)، قَالُوا: جَدُّ بنُ قَيسٍ على أنَّا نُبخِّلُه -أَيْ: نَصِفُهُ بِصِفَةِ البُخْلِ-، فَقَالَ: (وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ البُخلِ؟ -بِمَعنَى: أَيُّ عَيبٍ أَقبَحُ مِنَ البُخلِ-، بَل سَيِّدُكُم عَمرُو بنُ الجَمُوحِ) وَكَانَ كَرِيمَاً، وهَل سادَ من سادَ، وملكَ البلادَ والعبادَ، إلا بالكرمِ والشَّجاعةِ.

لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ *** الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتَّالُ

بَل كَانَ العَربُ يَرونَ أَن الشِّعرَ إنَّمَا يُكتَبُ فِي مَدحِ كَريمٍ، أَو وَصفِ حَبيبٍ، حَتَى قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْغَزِّيُّ:

قَالُوا هَجَرتَ الشِّعْرَ قُلتُ ضَرُورَةٌ *** بَابُ الدَّوَاعِي وَالبَوَاعِثِ مُغلَقُ

خَلَتِ الدِّيَارُ فَلَا كَرِيمٌ يُرتَجَى *** مِنْهُ النَّوَالُ وَلَا مَلِيحٌ يُعشَقُ

وَهَكَذا كَانَ الكَرَمُ الذي تَبَاهَى العَربُ من أَجلِه، وسُطِّرتُ الأشعارُ في أَهلِه، وضُربَ بِهِ الأَمثَالُ، وَتَمَادَحَ فِيهِ الرِّجالُ، وَخَلَّدَ التَّاريخُ مِن أَجلِهِ حَاتَمَاً الطَّائيَّ، وكَعبَاً الإيَاديَّ، وَهَرِمَاً الذُّبيَانِيَّ.

ثُمَّ جَاءَ الإسلامُ لِيُتَمِمَ مَكَارِمَ الأَخلاقِ، فَقَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)، فأَصبَحَ الكَرمُ عِبَادَةً للهِ جَلِيلَةً، فِيهِ الأَجرُ والإيمَانُ وَالفَضِيلَةُ، إذا خَلا مِنَ الرِّياءِ والمُباهاةِ والإسرَافِ، وَاحتَسَبَ الأَجرَ في إكرَامِ الأَضيَافِ، وَالعَجَبَ كُلُّ العَجَبِ، عِندمَا يَكونُ هَذا الخُلُقُ الكَرِيمُ، لا يُرادُ بِهِ وَجهُ اللهِ العَظيمِ.

 يا أهلَ الإيمانِ .. إن اللهَ سُبحانَه كريمٌ يُحبُّ الكُرماءَ، ويُعوِّضُهم في الدُّنيا قبلَ الآخرةِ من واسعِ العَطاءِ، يقولُ ابنُ القَّيمُ رحمَه اللهُ: (ومَن وَافَقَ اللهَ في صِفَةٍ مِن صِفاتِه، قَادتْهُ تلكَ الصِّفَةُ إليه بِزِمَامِه، وأدْخَلَتْهُ على رَبِّـه، وأدْنتْهُ مِنهُ وقَرَّبَتْهُ مِن رَحمتِه، وصَـيَّرَته مَحْبَوبًا له، فإنه سُبحانَه رَحيمٌ يُحِبُّ الرُّحَماءَ، كَريمٌ يُحِبُّ الكُرَماءَ).

فَالكَريمُ فِي الإسلامِ هُوَ مَن يُنفقُ لا لِيَجمعَ حَولَهُ النَّاسَ، وَلا لِيَتفَاخَرَ الشُّعراءُ بِكَرمِهِ، وَلا لِيَغضَبَ إذَا تَنَكَّرَ لَهُ الإخوانُ، لأَنَّهُ مَا أَعطَى إلا للهِ تَعَالى وَشِعَارُهُ: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا)، قَالَتْ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ لِزَوْجِهَا طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيَّ، وَكَانَ أَجْوَدَ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَلْأَمَ مِنْ إخْوَانِك، قَالَ: مَهْ، وَلِمَ ذَلِكَ؟، قَالَتْ: أَرَاهُمْ إذَا أَيْسَرْتَ لَزِمُوكَ، وَإِذَا أَعْسَرْتَ تَرَكُوكَ، فَقَالَ-الرَّجلُ الذي لا يُريدُ مَا عِندَ النَّاسِ-: هَذَا وَاَللَّهِ مِنْ كَرَمِهِمْ، يَأْتُونَنَا فِي حَالِ الْقُوَّةِ بِنَا عَلَيْهِمْ، وَيَتْرُكُونَنَا فِي حَالِ الضَّعْفِ بِنَا عَنْهُمْ.

ولذلك كانَ أكثرُ النَّاسِ كَرَماً هم أكثرُهم إيماناً، ولِذلكَ كَانَ عَطاؤه عليه الصَّلاةٌ والسَّلامُ للهِ تعالى، وترغيباً في دينِه، وتأليفاً لقلوبِ النَّاسِ إليه، فَقَد أَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً مِنْ النَّعَمِ، ثُمَّ مِائَةً، ثُمَّ مِائَةً، قَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَسلَمَ صَفوانُ وحَسُنَ إسلامُهُ، وهذه نتيجةُ الكرمِ إذا كانَ خَالِصَاً لوجهِ اللهِ تعالى.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه وأشكرُه على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلمَ تسليماً كثيراً، أما بعدُ:

أَيُّها الأحبَّةُ .. عِندَما نَقرأُ الأرقَامَ في دِراسةِ المَسحِ المَيداني التي أجرتهَا الهيئةُ العَامةُ للأمنِ الغِذائيِّ، والتي تَقولُ أنَّ نِسبةَ الفَقدِ والهَدرِ في الغِذاءِ بَلَغتْ 33.1 % بتَكلُفةٍ سَنويَّةٍ تُقدَرُ بِنحو 40 مليار ريالٍ، نَجِدُ أننا أَمامَ طَعامٍ يُهدَرُ، ونِعَمٍ لا تُشكَرُ، فَالمُبَاهاةُ بِصَرفِ الأموالِ الطَّائلةِ في المَطَاعمِ وفي البيوتِ وفي الولائمِ، وتَصويرِها للرِّياءِ والسُّمعةِ والفخرِ، لَيستْ للهِ ولا باللهِ ولا في اللهِ، لأنَّ اللهَ هو القائلُ سبحانَه: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، فما ظَنُّكم بشعورِ إخوانٍ لنا يموتُونَ من الجُوعِ والحِصارِ، وإحساسِ آلافٍ من المسلمينَ دونَ مَأوى ولا دَارٍ، ومَاذا يقولُ الملايينُ الذينَ لا يَجدونَ حَتَى قِيمةَ الإيجارِ.

فَيَا مَنْ أَنعمَ اللهُ عَليهِ، كُلْ أَنتَ وَأَهلكَ مَا يَكفيكُم دُونَ إسرافٍ، وأَكرمْ بِالمَعروفِ مَنْ جَاءَكَ من الأضيافِ، ثُمَّ اصرفْ ما فَاضَ على الفُقراءِ والمساكينِ، والأيتامِ والأراملِ والمُحتاجينَ، شاكراً لنعمةِ ربِّ العالمينَ، وإياكَ أن تكونَ أنتَ وغيرُك سَبباً لِتَبديلِ أمنِنا خَوفَاً، ورِزقِنا جُوعَاً، كَمَا أخبرَ سُبحانَه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، فنحنُ سمعنا من أجدادِنا قِصصَ الجوعِ والخوفِ التي عاشوها في البِلادِ، ولكن، لا نريدُ أن نحكيَ لأبنائنا قِصصَ الأمنِ والنِّعمةِ التي عِشناها في هذه البِلادِ.

اللهمَّ ارزقنا شُكرَ نَعمائِك، وزِدنا من فضلِك وكرمِك وإحسانِك، وارزقنا الفوزَ برضوانِك، واعتقنا بفضلِك من نيرانِك، واحشرنا يومَ القيامةِ مع أنبيائِك وأوليائِك وأصفيائِك، برحمتِك يا أرحمِ الرَّاحمينَ، اللهم إنا نسألُك أن تردَّنا إلى الحقِّ ردًا جميلاً، اللهمَّ إنا نسألُك الهُدى والتُّقى والعَفافَ والغِنى، اللهم نَسألُك الأمنَ والإيمانَ في بلادِنا وبلادِ المسلمينَ، اللهمَّ من أراد بلدَنا هذا وبلادَ المسلمينَ بسوءٍ فأشغله في نفسِه، وردَّ كيدِه في نحرهِ، اللهم إنا نسألكُ الأمنَ والإيمانَ والسَّلامةَ والثَّباتَ على الإسلامِ يا رحيمُ يا رحمنُ.

المرفقات

1744780844_كرم أم إسراف.docx

1744780850_كرم أم إسراف.pdf

المشاهدات 1336 | التعليقات 1

زادك الله من واسع فضله