كتاب منازل الحور العين في قلوب العارفين برب العالمين

عيد العنزي
1435/07/08 - 2014/05/07 20:58PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أحبتي:
لقد قمت بحمد الله بتنسيق هذا الكتاب وترتيبه وحذف حواشيه وترتيب أشعاره وجعله بخط واحد لكي يسهل الاقتباس منه والقص واللصق منه كما حذفت الفراغات حتى تقلص حجمه من مائة صفحة تقريبا إلى عشرين صفحة تقريبا ليتمكن من وضعه بالملاحظات في الجوال أو برنامج مذكرة ليسهل الاطلاع عليه والله الموفق.
أخوكم عيد العنزي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب (منازل الحور العين في قلوب العارفين برب العالمين) للشيخ: عبدالكريم بن صالح الحميد

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإنه من الملاحظ في زماننا هذا تغليب الرجاء على الخوف مما أدّى إلى إدلال وانبساط ظاهر من كثرة ذكر الحور العين ونحو ذلك من المخلوقات التي هي في ذاتها مخلوقات، ولم تكن هذه حال الصحابة والسلف بل كانوا يُغلّبون الخوف إلا عند الموت فيُحسنون ظنونهم بالله عز وجل.
والربُّ سبحانه وإن كان عَظّم الجنة المخلوقة فإن التعلق بها وأن تكون هي مبلغ العلم نقص كبير إذْ إنَّ حقيقة التألّه وهو التعبد إنما المراد منه تعلق القلب محبة وخوفاً ورجاء بذات المألوه المعبود سبحانه ليس بمخلوقات دونه، وهذا هو معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) لأن المألوه هو الذي يأْلَهه القلب محبةً وشوقاً وخوفاً ورجاءً.
يُوضح ذلك أن الرب سبحانه تعبّد عباده بهذه الكلمة وليس من شرطها أن يسكنهم جنة مخلوقة إذا هم أطاعوه حيث قال سبحانه وتعالى في الأثـر: (لوْ لـَمْ أخلُق جَنَّةً ولا ناراً ألـَمْ أكُنْ أهْلاً أنْ أُعْـبَد) .
فهذا يبين حقيقة معنى (لا إله إلا الله) بحيث أنْ تتخيّل أنْ ليس عند معبودك حُوُرٌ وقصورٌ ومآكل ومشارب وما إلى ذلك مما في (الجنة المخلوقة) فكيف تكون محبتك له سبحانه؟!.
إن الذي خلق الله له عباده هو أن تُفضي محبة قلوبهم وشوقهم إليه لذاته بالقصد الأول، وإنما يعرف ذلك مَنْ عَرَفَ معنى كلمة التوحيد وما يتصف به الإله الحق سبحانه من صفات الجمال والجلال والكمـال، فتأمـل الآن ما ورَد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن رؤية أهل الجنة لربهم تعالـى: (فَمَا أُعطُوا شَيئـاً أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظـَرِ إلى رَبـِّهِمْ) .
ومعلوم أن المراد هنا هم أهل الجنة، والمعنى ظاهر واضح في أنه سبحانه لم يُعطهم في الجنة المشتملة على الحور العين والنعيم المقيم شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه، وحَسْبك أن تتفكر فيما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ربه تعـالى: (حجابه النور لوْ كشفه لأحرقت سُـبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ؛ والسُّـبُحَاتُ بضمِّ السين والباء ورفع التاء في آخره وهي جمع سُبحة، وقال جميع الشارحين للحديث من اللغويين والمحدثين: سُبـُحَاتُ وجهه الكريم هي نوره وجلاله وجماله وبهاؤه .
ثم اعلم أنه لو اجتمع جمال الحور العين كلهنّ في واحدة فما قَدْره عند جمال المعبود الحق سبحانه، ولذلك يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-:
وهُوَ الجميلُ علَى الحقيقةِ كيفَ لاَ! وَجَـمَالُ سَائِـرِ هَـذِهِ الأكوَانِ
مِنْ بعضِ آثـارِ الجميـلِ فربُّـهَا أولـَى وأجدَرُ عِندَ ذِي العِرْفَـانِ
فجَمَالهُ بالذاتِ والأوصَـافِ والـْ ـأفعَالِ والأسمـَاءِ بالبـُرْهَانِ .
أما السُّبـُحَات فقد قال ابن القيم-رحمه الله – فيها: (فإذا كانت سبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه، ولو كشف حجاب النور عن تلك السبحات لأحرق العالم العلوي والسفلي فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله وجمالـه) ، فالرب سبحانه قد احتجب عن مخلوقاته بحجاب من نور مخلوق، جعله سبحانه يحجب نور وجهه الكريم وجلاله وجمالـه عن وصوله إلى المخلوقات حيث لا تحتمله؛ ولذلك يُعطِي الله المؤمنيـن في الجنـة قوةً شديـدة في أبصارهم ليطيقـوا رؤيته التي هي أعلى نعيمهم كما قال تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۞ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "وحُقّ لها أن تُـنَضَّر بهذا القُرْب والـنَّظَر.
قال عثمان بن سعيد الدارمي-رحمه الله-في قوله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ "قال: " معناه هو أحسن الأشياء وأجملها "، وقالت الجهمية: " معناه ليس هناك شيء "!! ، والمراد أن انتهاء المعرفة ومبلغ العلم إذا كان يُصيِّر العبادة لمجرد المعاوضة بأشياء مخلوقة مهما بلغتْ فهذا قصور وجهل بالمعبود سبحانه وما يستحقه لذاته، وهذا حاصل لكثير من المسلمين حيث قصُرتْ معرفتهم لمعبودهم.
وهو سبحانه فطر قلوب عباده على محبته لذاته والإنابة إليه لذاته لا لشيء آخر، وهذا واللهِ من أعظم ما أُكرم به هذا المخلوق، فلقد رفعه الله مقاماً ينقطع الوصف دونه، ولوْ جعل غايته ومنتهى طلبه وإرادته مجرد مخلوقات مهما كُمُلتْ وحسُنَتْ ودامتْ لَمَا صار له هذا الشأن العظيم، وإنما يحصل هذا لمن تمت عليه النعمة وسبقت له السعادة، قال ابن القيم – رحمه الله-: (الشوق إلى مجرد الأكل والشرب والحور العين في الجنـة ناقص جداً بالنسبة إلى شـوق المحبين لله تعالى، بل لا نسبة له إليه البتة) انتهى .
يريد بنقصه قِصَر التعلُّق بذلك لعَدَم تمكُّن محبة المعبود سبحانه في القلب، والعبد لم يُخلق لهذا بل خُلق لتتعلق محبته خالصة لخالقه عزَّ وجلّ.
أمَّا الأكل والشرب والحور والقصور في الجنة فهي نُزُلٌ-أي ضيافة لأولياء الله -، ولأن الربَّ سبحانه كريم وذو فضل عظيم، ولأن المخلوق قد رُكِّبتْ فيه الشهوة للنساء والأكل والشرب ولأن قَوَام جسمه بذلك، فهذه شهوات ولذات كما في الدنيا، وغاية ما هناك أنها أرفع وأكمل وأجمل وأدْوم ولكن ليست هي في نفسها وذاتها غاية بحيث يقتصر الطلب والإرادة والهمّة عليها، فهذا ناقص جـداً-كما ذكر ابن القيم-، ولذلك فإنَّ الملائكة عليهم السلام لا يأكلون ولا يشربون وليست لهم شهوة إلى النساء ومع هذا فهم في نعيم لا يبلغه وصْفنا من قربهم لربهم وحبهم له وشوْقهم إليه.
وقال ابن القيم-رحمه الله-في وصف العارف بربه: (أنه لا يقطعه عن طلب مَن نسبة هذا النعيم الدائم-يعني الحور العين ومآكل الجنة ومشاربها ومساكنها-إلى نعيم معرفته ومحبته والأنس به والفرح بقربه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة) انتهى؛ فتأمل هذا وكيف وصف-رحمه الله-نعيم الجنة المخلوق بالنسبة إلى نعيم معرفة المعبود ومحبته سبحانه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة المخلوق مع أن الفـرق بين نعيم الدنيا ونعيم الجنة عظيم جـداً، فـ (موضع سوط في الجنة خيـرٌ من الدنيـا وما فيهـا) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن القيم-رحمه اللـه-يصف الأنـس بالإلـه الحق سبحانـه: (والأنس به سبحانه أعلى من الأنس بمـا يرجوه العابـد من نعيم الجنة) .
وقال في قوله تعالى: "وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ": (فيسيـرٌ من رضوانه ولا يقال لـه " يسير " أكبر من الجنان وما فيها!) انتهى؛ فتأمل قوله: (أكبر من الجنان وما فيها)!.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي-رحمه الله-: (فأما في الآخرة فما أكبـر نعيم أهل الجنة إلا النظر إلى وجهه، والخيبة لمن حُرِمه!) .
ثم ذكر أن الله تعالى (احتجب من خلقه لِيَبْلُوَ بذلك إيمانهم أيّهم يؤمن به ويعرفه بالغيب ولم يره، وإنما يجزي العباد على إيمانهم بالغيب، لأن الله عز وجل لو تبدّى لخلقه وتجلى لهم في الدنيا لم يكن لإيمان الغيب هناك معنى، كما أنه لم يكفر به عندها كافر، ولا عصاه عاص، ولكن احتجب عنهم في الدنيا ودعاهم إلى الإيمان به بالغيب وإلى معرفته والإقرار بربوبيته، ليؤمن به من سبقت له منه السعادة،ويحق القول على الكافرين، ولوْ قد تجلى لهم لآمن به مَن في الأرض جميعاً بغير رسل ولا كتب ولا دعاة ولم يعصوه طرفة عين، فإذا كان يوم القيامة تجلى لمن آمن به وصدق رسله وكتبه، وآمن برؤيته، وأقرّ بصفاته التي وصف بها نفسه حتى يروْه عياناً، مثوبة منه لهم وإكراماً ليزدادوا بالنظر إلى مَن عبدوه بالغيب نعيماً، وبرؤيته فرحاً واغتباطاً ولم يُحْرَموا رؤيته في الدنيا والآخرة جميعاً، وحُجب عنه الكفار يومئذ إذْ حُرموا رؤيته كما حرموها في الدنيا ليزدادوا حسرة وثبوراً) انتهى.
وعن عُبَيْدِ بنِ عُمَير أنه قال في قوله تعالى في قصة داود: "وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ "، قال: (يُدْنيه حتى يَمسَّ بعضه) ؛ وقال شيخ الإسـلام-رحمه الله-بعد أن ذكـره: (فلا جَرَمَ جاءت الأحاديث بثبوت الْمُمَاسَّـة كمـا دل على ذلك القـرآن وقالـه أئمـة السلف، وهو نظير الرؤية، وهو متعلق بمسألة العرش وخلقِ آدم بيده ، وغير ذلك من مسائـل الصفات) انتهى؛ أمَّـا الجهميـة فإنهم لا يطيقـون هذا لنفيهم صفات الربِّ-سبحانـه-وتعطيلـه، وأما السُّني ففي ذلك حياة قلبه ونعيم رُوحه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه) انتهى ، فإذا علمت أن العرش أكبر من السموات والأرض وأن نوره من نور وجه ربك صارت لك معرفة خاصة به سبحانه.
وقد روى الشافعي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن تكليم الله لأهل الجنة: (ثم يتبسم الله إليهم، فيقول: سلوا؟!؛ فيقولون: ربنا نسألك رضوانك) .
وليُعلم أنه ليس المقصود أن المسلم لا يسأل الله الجنـة أو التزهيد بها، وإنما المقصود بيان حقيقة العبودية والتفريق بين المعبود والمخلوق.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (حولها ندندن)-يعني الجنة- فهو صلى الله عليه وسلم يقصد اسم الجنة الشامل الذي أعلاه وأعظمه محبة الله وقربه، ولك أن تتفكر في كون ربه اتخذه خليلا فهل يُزاحم هذه الخلّة مخلوق من الحور أو غيرها؟!.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حُـبِّب إليه من الدنيا النساءَ والطيبَ وجُعلت قرةُ عينهِ في الصلاة ، وذلك لأن الصلاة مناجاة لربه ففيها تتغذى روحه الطاهرة بزيادة محبته لمعبوده، وهذا لا يُقارب ما حُـبِّبَ إليه في الدنيا من النساء والطيب،كما أن حبه للحور العين لا يقارب حبه لربه لذاته سبحانه، فتأمل هذا يُطْلعك على بعض أسرار العبادة؛ وكما أنه صلى الله عليه وسلم في الدنيا يحب زوجاته خاصة عائشة ويحب أصحابه إلا أن هذه المحبة لا تُزاحم ولا تقارب محبته لربه عز وجل، وقِسْ على هذا شأنه صلى الله عليه وسلم في الجنة مع الفارق بين الدنيا والآخرة.
وقد جاء في الصحيحين: (أن الله خلق آدم على صورته) الحديث ، وفي الحديث الصحيح: (إن الله خلـق آدم على صورة الرحمـن) ، وفي السِّفْر الأول من التوراة: (سنخلق بَشَراً على صُورَتنا يُشْبِهها).
قال شيخ الإسلام بعد سياقه هذه الأحاديث والأثر: (وأما المثبتة فعندهم قدْر الله تعالى أعظم، وحَدّه لا يعلمه إلا هو، وكرسيه قد وسِع السماوات والأرض، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى وقد قال تعالى: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ".
وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس أن الله يقبض السموات والأرض بيديه . قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: " ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهما وما فيهما في يد الرحمـن إلا كخردلـةٍ في يد أحدكم " رواه ابن جرير في تفسيره بإسناد حسن ).
ثم قال شيخ الإسلام بعد ذكر أحاديث الصورة: (وإذا كان الأمر كذلك كان أكبر وأعظم من أن يقدر بهذا القدْر-يعني بقدر آدم، فإثبات صورة الرحمن وأن الله خلق آدم على صورته سبحانه لا يقتضي ذلك-فإنها تقتضي نوعاً من المشابهة فقط، لا تقتضي تماثلاً لا في حقيقة ولا قدْر).
وقال-رحمه الله-: (بل من المعلوم أن الشيئين المخلوقين قد يكون أحدهما على صورة الآخر مع التفاوت العظيم في جنس ذواتهما وقَدْر ذواتهما، وقد تظهر السموات والقمر في صورة ماء أو مرآة في غاية الصِّغَرِ ويُقال: هذه صورتها، مع العلم بأن حقيقة السموات والأرض أعظم من ذلك بِما لا نسبة لأحدهما إلى الآخر) انتهى .
قال ابن القيم-رحمه الله-: (اعلم أن القلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رئاسة أو صورة وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العُدّة والتأهب للقدوم على الله عز وجل فذلك أول فُـتُوحِه وتباشير فجره.
فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة ما يرضى به ربه منه فيفعله ويتقرب به إليه، وما يسخطه منه فيجتنبه، وهذا عنوان صدق إرادته، فإن كل من أيْقن بلقاء الله وأنه سائله عن كلمتين يُسأل عنهما الأولون والآخرون: " ماذا كُنتُم تعبدُون؟ " و: " ماذا أجبتمُ المرسلين؟ " لابد أن يتنبه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصلة إليه.
فإذا تمكّن في ذلك فُتح لـه باب الأنس بالخلوة والوحدة والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات، فلا شيء أشوق إليه من ذلك فإنها تجمع عليه قُوَى قلبه وإرادته، وتسدّ عليه الأبواب التي تُفرق هَمَّه وتشتّت قلبه، فيأنس بها ويستوحش من الخلق.
ثم يُفتح له باب حلاوة العبـادة بحيث لايكـاد يشبع منهـا، ويجد فيهـا اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهـو واللعـب ونيْل الشهوات) انتهى.
فأين المعرضون عن حبيبهم المخدوعون بلذات تحجبهم عن اللذة والنعيم الذي خلقوا لـه، لقد وُصِفَتْ هذه اللذات والشهوات بمشناق من عسل، وهذا يبين سوء عاقبتها وإن كانت حلوة المذاق وقت مباشرتها.
ثم قال-رحمه الله-: (بحيث أنه إذا دخل في الصلاة وَدَّ أن لا يخرج منها، ثم يُفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه وإذا سمعه هدأ قلبه به كما يهدأ الصبي إذا أُعطي ما هو شديد المحبة له.
ثم يُفتح لـه باب شهود عظمة الله المتكلم به وجلاله وكمال نعوته وصفاته وحكمته ومعاني خطابه، بحيث يستغرق قلبه في ذلك حتى يغيب فيه ويُحسّ بقلبه وقد دخل في عالَمٍ آخر غير ما الناس فيه.
ثم يُفتح له باب الحياء من الله، وهو أول شواهد المعرفة، وهو نور يقع في القلب، يُريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه عز وجل فيستحيي منه في خلواته وجلواته، ويُرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى حضرة العلي الأعلى كأنه يراه ويشاهده فوق سمواته مستوياً على عرشه ناظراً إلى خلقه سامعاً لأصواتهم مشاهداً لبواطنهم.
فإذا استولى عليه هذا المشهد غطى عليه كثيراً من الهموم بالدنيا وما فيها، فهو في وجود والناس في وجود آخر.. هو في وجود بين يدي ربه ووليه.. ناظراً إليه بقلبه والناس في حجابِ عالَم الشهادة في الدنيا).
ثم قال – رحمه الله-: (ثم يُفتح لـه باب الشعور بمشهد القيومية، فيرى سائر التقلبات الكونيـة وتصاريف الوجود بيده سبحانـه).. وذكر كلاماً، ثم قال: (فإن استمر على حاله واقفاً بباب مولاه لا يتلفت عنه يميناً ولا شمالاً ولا يُجيب غير من يدعوه إليه ويعلم أن الأمر وراء ذلك وأنه لَم يصل بَعْدُ،ومتى توهّم أنه قد وصل انقطع عنه المزيد..-ثم قال رحمه الله-: رُجي أن يُفتح له فتحٌ آخر هو فوق ما كان فيه!).
ثم قال: (ويبقى له وجود قلبي روْحاني مَلَكي فيبقى قلبه سابحاً في بحر من أنوار آثار الجلال، فتنبع الأنوار من باطنه كما ينبع الماء من العين، حتى يجد الملكوت الأعلى كأنه في باطنه وقلبه ويجد قلبه عالياً على ذلك كله، صاعداً إلى من ليس فوقه شيء) انتهى.
هل تعلم أنه بهذا السِّفْر المبارك لا يُعَرِّج على الحور العين، بل تمرّ رُوحُه مجتازةً قصورَ الجنةِ وما فيها، صاعدةً إلى مَن ليس كمثله شيء سبحانه وبحمده لأنه بذاته هو مراد المؤمن وغاية مطلبه "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى "، فما بعده غاية تُطلب لذاتها ولا قبله أيضاً، وهذا يحصل والعارف حيٌّ في الدنيا حيث هو لُباب التعبد، وهو سفر الآخرة الذي يُقطع بالقلوب كما أن سفر الدنيا يُقطع بالأقدام-كما ذكر العلماء-.
ثم قال-رحمه الله-: (ثم يُرقّيه الله سبحانه فيُشهده أنوار الإكرام بعد ما شهد أنوار الجلال، فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال، وفي هذا المشهد يذوق المحبة الخاصة الملهبة للأرواح والقلوب، فيبقى القلب مأسوراً في يد حبيبه ووليه ممتحناً بحبه.
وإن شئت أن تفهم ذلك تقريباً فانظر إليك وإلى غيرك وقد امْـتُحِنْتَ بصورة بديعة الجمال ظاهراً وباطناً فملكَتْ عليك قلبك وفكرك وليلك ونهارك فيحصل لك نـار من المحبـة، فتضرم في أحشائك يَعِـزُّ معها الاصطبـار، و "ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ "؛ فيَالَهُ من قلب ممتحن مغمور مستغرق بما ظهر له من أشعة أنوار الجمال الأحدي، والناس مفتونون ممتحنون بما يفنى من المال والصور والرياسة، معذبون بذلك قبل حصوله وحال حصوله وبعد حصوله!.
وأعلاهم مرتبة: مَن يكون مفتوناً بالحور العين أو عاملاً على تمتعه في الجنة بالأكل والشرب واللباس والنكاح) انتهى.
تأمل قوله: (وأعلاهم مرتبة مَن يكون مفتوناً بالحور العين) ومتى نصل نحن إلى هذه المرتبة العالية بالنسبة للتعلقات والفتن الدنيوية التي ذكرها وهي المال والصور والرياسة.
إن التعلق والافتتان بالحور العين والتمتع بالجنة المخلوقة بالنسبة لِلمُوثَق بالسفليات درجة رفيعة، وإذا كانت الفتنة بالحور العين قاطعة عن المراد في لغـة العارفين فكيف تكون حالنا؟!.
ثم قال-رحمه الله-: (وهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على أهل المقامات، ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق لِعلوِّ درجته وقرب منـزلته من حبيبه ومعيته معه، فإن المرء مع من أحب ، ولكل عمل جزاء وجزاء المحبـةِ المحبـةُ والوصـول والاصطناع والقرب، فهذا هو الذي يصلح وكفى بذلك شرفاً وفخراً في عاجل الدنيا، فما ظنك بمقاماتهم العالية عند مليك مقتدر؟!).
لقد جاء في حديث سؤال موسى-عليه الصلاة والسلام-ربه تعالى عن أدنى وأعلى أهل الجنة منزلة، فلما بين له ربه تعالى أدنى أهل الجنة منزلة، سأل ربه تعالى قائلاً: (ربِّ فأعلاهم منزلة؟!، قال: أولئك الذين أردتّ، غرستُ كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم ترَ عينٌ ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر!، قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل "فَلاَ تَعْلمُ نَفْسٌ مَا أخْفِـيَ لهَمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيـُنٍ ") .
وهل تليق هذه المنـزلة العظيمة إلاَّ لمن قدّمَ حُبَّ الله تعالى والشوق إليه على حبِّ ماسواه!، مع العلم أنَّ مَن ينال مِن اللهِ تعالى تلك المنزلة من المحبين والعارفين فقد نال بلا شك أعلى النعيم المخلوق من الحور والقصور وغيرها زيادة على مايحضون به من القرب من ربهم تعالى وعظيم التنعم برؤيته!.
ثم قال ابن القيم-رحمه الله – عن المحبين لله: (فكيف إذا رأيتهم في موقف القيامة وقد أسمعهم المنادي:" لينطلق كلُّ قوم مع ما كانوا يعبدون "، فيبقون في مكانهم ينتظرون معبودهم وحبيبهم الـذي هو أحب شيء إليـهم حتى يأتيهم فينظرون إليه ويتجلى لهم ضاحكاً ) انتهى .
تأمل قوله (ينتظرون معبودهم وحبيبهم الذي هو أحب شيء إليهم) وهذا في القيامة، فالقوم متعلقة قلوبهم بمعبودهم الحق سبحانه بالقصد الأول ليس ليكون واسطة ووسيلة لمحبوبهم من الحور العين وغير ذلك من الـنُّـزُل والضيافة بل مرادهم ربهم لذاته إذْ محبته في قلوبهم لا تُدانيها ولا تُقاربها محبة.
أما محبة الله سبحانه ليكون وسيلة للأغراض فهذا عندهم مدخول مشُـوب، ولذلك فهم يُجَرّدون المحبة وإن كانوا يريدون من ربهم خير الدنيا والآخرة، فليـس مرادنا هنـا الشَّطَح، وتأمل قوله تعالـى عن أوليائـه: "يُرِيدُونَ وَجْهَهُ "، فهذه إرادة خالصة لا لغرض آخر؛ وهذا هو الإخلاص وهو التوحيد.
قال شيخ الإسلام-رحمه الله-: (فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة) .
وقال – أيضاً-: (إن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى) .
ثم قال ابن القيم-رحمه الله-: (والمقصود أن هذا العبد لا يزال الله يُرقيه طبقاً بعد طبق ومنـزلاً بعد منـزل إلى أن يُوصله إليه ويُمكِّن له بين يديه أوْ يموت في الطريق فيقع أجره على الله؛ فالسعيد كل السعيد والموفَّق كُلّ الموَفَّـق مَن لَمْ يَلْتَفِت عَن ربِّـه تبارك وتعالى يميناً ولا شمـالاً ولا اتخذ سواه ربـًّا ولا وكيـلاً ولا حبيبـاً ولا مدبِّـراً ولا حَكَمـاً ولا ناصِـراً ولا رازقـاً) انتهى .
لتعْلَم أنّ كلام ابن القيم وشيخه وعلماء السلف الربّانيين بيانٌ وتفسير لنصوص الكتـاب والسنة، وقد أثمر لهم صدقهم وإخلاصهم هذه الثمار الطيبـة، وليست محبة الله عز وجل مجرد مقام في طريق السالك بل هذا أصل الأصول وهو حقيقة العبودية وهو معنى كلمة التوحيد، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (فَمَا أُعطُوا شَيئـاً أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظـَرِ إلى رَبـِّهِمْ) فهذا بعد دخولهم الجنة ومباشرة نعيمها.
وفي الحديث الآخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذْ سطع لهمْ نورٌ فرفعوا رؤوسهم،فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله تعالى: "سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ "، قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نورُه وبركته عليهم في ديارهم) .
وإذا كان الأنس به سبحانه في الدنيا-كما يقول ابن القيم -أعلى من الأنس بما يرجوه العابد من نعيم الجنة فالأمر إذاً عظيم، والاقتصار على التعلق بالحور العين قصورٌ ونقص!.
ثم قال ابن القيم-رحمه الله-: (وإرادة السِّوَى توقف السالك وتنكس الطالب وتحجب الواصل، فإياك وإرادة السوى وإن علا!، " تأمل قوله: وإن علا " فإنك تُحجب عن الله بقدْر إرادتك لغيره، قال تعالى عن عباده المقربيـن: "إِنَّمَا نُطْعِمُكُـمْ لِوَجْـهِ اللَّـهِ لا نُرِيـدُ مِنْكُـمْ جَـزَاءً وَلا شُكُـوراً ") انتهى.
وليس المراد أن المؤمن لا يريد من الله، أو يَحتقر مَا عظَّمَه الله من نعيم الجنة كالْحُور والمآكل والمساكن وغيرها، وإنما المقصود معرفة حقيقة العبودية وألاّ يحتجب العبدُ عن إرادة رَبـِّه لذاته ولو لم يكن هناك جنةً ولا ناراً.
ولو لم يوجب محبة الله عز وجل إلا أنه خالق العبد ومالكه وسيّده، كيف ما يتصف به سبحانه من صفات الجمال والكمال والقلوب مفطورة على حب الصُّوَر الجميلـة لكن المؤمـن مُتعَـبَّد بغَـضِّ بَصَره لئـلاّ تَـنْـتَقِش هذه الصُّوَرُ في قلبه، فيعكف عليها محبةً تصرف قلبـه عما خُلق له العبدُ من النظَر في الآخرة إلى خالق الجمال سبحانه، وهو أوْلى به.
وهنا أنقل كلاماً كتبته قديماً في كتاب (معرفة الكبير المتعال بالعظمة والجلال والجمال)، وهو:
(وإنما سأل موسى الرؤيـة لِشَوْق ألْهَبَ قلبه بعـد سمـاع كلام ربـه وحُقّ لـَه.
ولوْلا مَدَدُ الله للأنبياء بالصبر المناسب مع مقاماتهم ومعرفتهم بربهم لما صبروا اشتياقاً إليه ومحبة لكمال معرفتهم به سبحانه ولكماله وجلاله وجماله.
وإذا كان يحصل مِن محبةِ مخلوقٍ لمخلوقٍ مِن انجذابِ الروح إليه والصبابة والشوق ما يكون عجباً مثل العشق-مع أنه في الحقيقـة مرض في القلب صارف له عما فُطر عليه من محبة معبوده الحق-فكيف بمحبة مَن لوْلا تعلق المحبة به لما خُلقت المحبة أصلاً، فهي إنما وُجدت لهذا الغرض.
من هذا يتبين أن كل محبة لسواه فهي صرف حقه لغيره، وهي ألَـمٌ في القلب يُعَذّب به لانصرافه وانحرافه عن فطرته التي فُطر عليها من محبة إلهه الحق إلا ما كان من الحب فيه، فهذا داخل في محبته غير مُعارض كمحبة أنبيائه وأوليائه وما يُحب بشرط عدم الغلو في ذلك بألا يُرفع أحد إلى درجة محبتـه أو يُماثَل فيها) انتهى .
قال شيخ الإسلام: (ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء كما في الحديث: " إن أهلَ الجنةِ يُلهمُون التسْبيحَ كَمَا يُلهَمُونَ النَّفَس " وهو يبين غاية تنعمهم بذكر الله ومحبته) انتهى .
فهذا نعيم لا يشغلهم عنه ولا يلهيهم ما بين أيديهم من النعيم المخلوق لأن لذّته أعظم مما هم فيه.
ولتمام الفائدة تعلم أن ربهم فوقهم حتى وهم في الجنة فعرشه سبحانه سقف الفردوس كما أن السماء الدنيا سقف الأرض قال تعالى: "وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً ".
يبين هذا ما جاء في الحديث المتقدم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذْ سطع لهمْ نورٌ فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله تعالى: "سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ "قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم).
قال ابن القيم بعد أن ذكر الحديث: (فهذا نور مشاهد قد سطَع حتى حرّكهم واسْتفزهم إلى رفع رؤوسهم إلى فوق) انتهى .
وليس المراد الاقتصار على معرفة جمال المعبود-سبحانه وبحمده-والذي من أسمائـه (الجميل) بل وتعظيمه وإجلالـه سبحانـه على مقتضى اسمـه (الجليل).
قال ابن القيم-رحمه الله-في محبة العبد لربه وأنه لابد فيها من الإجلال والتعظيم، قال: (ولا ريب أن الحب والأنس المجرَّد عن التعظيم والإجلال يَبْسط النفس ويحملها على بعض الدعاوي والرّعونات والأماني الباطلة وإساءة الأدب والجناية على حق المحبة.
فإذا قارن المحبة مهابة المحبوب وإجلاله وتعظيمه وشهود عِزّ جلاله وعظيم سلطانه انكسرت نفسه لـه وذلّتْ لعظمته واسْتكانت لعزته وتصاغرت لجلالـه، وصَفَتْ مِن رُعُونات النفْسِ وحماقاتها ودعاويها الباطلة وأمانيها الكاذبة.
ولهذا في الحديث يقول الله عز وجل: (أين المتحابون بجلالي؟!، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) ؛ فقال: (أين المتحابون بجلالي) فهو حُب بجلاله وتعظيمه ومهابته ليس حباً لمجرد جماله فإنه سبحانه الجليل الجميل.
والحب الناشئ عن شهود هذين الوصفين هو الحب النافع الموجب لكونهم في ظل عرشه يوم القيامة.
فشهود الجلال وحده يوجب خوفاً وخشيةً وانكساراً، وشهودُ الجمالِ وحده يوجب حباً بانبساط وإدلال ورعونة.
وشهود الوصفين مما يوجب حباً مقروناً بتعظيم وإجلال ومهابة، وهذا هو غاية كمال العبد، والله أعلم) انتهى .
وينبغي أن يُعلم أن شدة التعلق بالثواب المخلوق في الجنة من الحور وغيرها إذا كان معه محبة لله ضعيفة فإنه يُخشى أن يكون-كما قال ابن القيم-رحمه الله –: (أنه إذا نال ذلك الحظ من محبوبه فَتَرَتْ محبته وسكن قلبه وترحّل قاطن المحبة من قلبه كما قيل "من وَدّكَ لأمرٍ ولّى عِندَ انقضائه "، فهذه محبة مشوبة بالعِلل، بل المحبة الخالصة أن يحب المحبوبَ لكماله وأنه أهل أن يُحب لذاته وصفاته) انتهى .
وقال-رحمه الله-: (فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه، ومَن عَبَدَ غيره وأحبه وإن حصل له نوع من اللذة والمودّة والسكون إليه والفرح والسرور بوجوده ففساده بـه ومضرته وعَطَـبُه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشّهي الذي هو عذْبٌ في مَـبْدَئِـه عذابٌ في نهايتـه كما قال القائل:
مَـآرِبُ كانت فـي الشبـابِ لأهْلِـهَـا عِذابـاً فَصَـارتْ فِي الْمَشِيـبِ عَذابَـا
إذاً فلاَبدَّ من معرفة المعبود الحق سبحانه الموجبة للشعور به مع العمل الخالص لأن المحبة تابعة للشعور.
ولذلك يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-: (فإن أوصـاف المدعـوّ إليـه ونعـوت كمالـه وحقائـق أسمائـه هي الجاذبـة للقلـوب إلـى محبتـه وطلب الوصـول إليـه، لأن القلـوب إنما تحب مَـن تعـرفـه وتخـافـه وترجـوه وتشـتـاق إليـه وتلتـذّ بقربـه وتطمئـن إلـى ذكـره بحسب معرفتها بصفاتـه) انتهى.
وقد تكلم ابن القيم في تجريد المحبة لله عز وجل وتصفية القصد وتهذيبه وتجريده فقال-رحمه الله – عن ذلك: (يكون قصده وعبوديته محبة لله بلا عِلّة، وأن لا يحب الله لِما يعطيه ويحميه منه فتكون محبته لله محبة الوسائل، ومحبته بالقصد الأول لِما يناله من الثواب المخلوق فهو المحبوب لـه بالذات، بحيث إذا حصل له محبوبه تَسَلَّى به عن محبة من أعطاه إياه، فإن من أحبك لأمـرٍ والاك عند حصوله ومَلَّكَ عند انقضائه، والمحب الصادق يخاف أن تكون محبته لِغرضٍ من الأغراض، فتنقضي محبته عند انقضاء ذلك الغرض.
وإنما مراده أن محبته تدوم لا تنقضي أبداً، وأن لا يجعل محبوبه وسيلة لـه إلى غيره، بل يجعل ما سواه وسيلة لـه إلى محبوبه.
وهذا القدْر هو الذي حام عليه القوم وداروا حولـه وتكلموا فيـه وشمـّروا إليه) انتهى .
أنظر قولـه-رحمه الله-: (وأن لا يجعل محبوبه وسيلة له إلى غيره) فهذا حقاً مخيف!.
وقال-رحمه الله-في هذا المعنى أيضاً: لِـ (تكُن إجابتك لِداعي الحق خالصة، إجابة محبة ورغبة، وطلب للمحبوب ذاته، غير مشوبة بطلب غيره من الحظوظ والأعـواض، فإنه متى حصـل لك حصل لك كل عوض وكل حظّ به وكل قسم، كما في الأثر الإلهي: " ابن آدم.. اطلبني تجدنـي، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتّك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء " ) انتهى.
تأمل كيف أن هذا الأثر يطابق ما في الحديث المتقدم " فَمَا أُعطُوا شَيئـاً أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظـَرِ إلى رَبـِّهِمْ " .
ثم قال: (فمن أعرض عن طلب ما سوى الله ولم يَشب طلبه له بعوَض، بل كان حباً له وإرادة خالصة لوجهه فهو في الحقيقة الذي يفوز بالأعواض والأقسام والحظوظ كلها، فإنه لَمّا لم يجعلها غاية طلبه تَوَفرتْ عليه في حصولها وهو محمود مشكور مقرّب، ولوْ كانت مطلوبهُ لنقصتْ عليه بحسب اشتغاله بطلبها وإرادتها عن طلب الرب تعالى لذاته وإرادته.
فهذا قلبه ممتلئ بها والحاصل له منها نزرٌ يسير، والعارف ليس قلبه متعلقاً بها وقد حصلت له كلها، فالزهد فيها لا يُفيتكها بل هو عين حصولها، والزهد في الله هو الذي يُفيتكه ويُفيتك الحظوظ) انتهى .
وهنا يضرب أهلُ العلمِ مثـالاً وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى"، وذلك بما رُوي عما فعلته جارية من جواري هارون الرشيد؛ فقد كان من عادته أن يُتحف جواريه في الأعياد بهدايا من الجواهر ونحوها، فكان يأمر بوضع تلك الهدايا في مجلس من مجالسه، ويقول لجواريه: " من أرادت من ذلك شيئاً وأعجبها فلتضع يدها عليه " – أي بحيث يكون لها-، فوضعت كل جارية يدها على ما أحبت من تلك الـتُّحَف إلا واحدة منهن فإنها وضعت يدها على رأس هارون!، فسألها عما أرادت بهذا الفعل؟!، فقالت: " أنت طلبت من كل واحدة منا أن تضع يدها على ما تحب وأنا لاشيء يعدل حبي لأمير المؤمنين!"، فأعجبه ذلك منها وصارت أحظى جواريه عنده!، فتأمل ذلك، وهكذا نحن عند الله!.
ويضرب ابن القيم – رحمه الله – مثلاً آخراً فيقول: (وإذا كان لك أربعة عبيد؛ أحدهم: يريدك ولا يريد منك بل إرادته مقصورة عليك وعلى مرضاتك.
والثاني: يريد منك ولا يريدك بل إرادته مقصورة على حظوظه منك.
والثالث: يريدك ويريد منك.
والرابع: لا يريدك ولا يريد منك بل هو متعلق القلب ببعض عبيدك فلَـهُ يريد، ومنه يريد، فإن آثر العبيد عندك وأحبهم إليك وأقربهم منك منـزلة والمخصوص من إكرامك وعطائك بما لا يناله العبيـد الثلاثة هو الأول، هكذا نحن عند الله!) انتهى .
فالخوف علينا أن نكون من جنس العبد الثاني، وياليتنا نسير بدرب العبد الثالث!، أما العبد الأول فلغته لا نعرفها فلا نخوض بالكلام في إرادته وطلبه، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه!.
وحيث إن عمل العبد على حسب شاهده فسوف أكتب هنا شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة مما يُبين ويُوضح معنى ما سبق إن شاء الله:
الشاهد الأول : قال ابن القيم-رحمه الله-: (فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها وقلّة وفائها وكثرة جفائها وخِسَّة شركائها وسرعة انقضائها، ويرى أهلها وعشاقها صرعى حولها قد بَدّعَتْ بهم وعذبتهم بأنواع العذاب وأذاقتهم أمَرَّ الشراب، أضحكتهم قليلاً وأبكتهم طويلاً، سقتْهم كؤوس سمّها بعد كؤوس خمرها فسكروا بحبها وماتوا بهجرها.
الشاهد الثاني: فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحَّل قلبه عنها وسافر في طلب الدار الآخرة وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الدار الآخرة ودوامها وأنها هي الحيوان حقاً، فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها، بل هي دار القرار ومحطّ الرحال ومنتهى السير، وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قـال النبـي صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بِمَ ترجع) .
وقال بعض التابعين: " ما الدنيا في الآخرة إلا أقلّ من ذرة واحدة في جبال الدنيا ".
الشاهد الثالث : ثم يقوم بقلبه شاهد من النـار وتوقدها واضطرامها وبُعْد قعرها وشدة حرها وعظيم عذاب أهلها، فيشاهدهم وقد سِيقوا إليها سود الوجوه زرق العيون، والسلاسل والأغلال في أعناقهم.
فلما انتهوا إليها فُـتِّحت في وجوههم أبوابها، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع وقد تقطعت قلوبهم حسرة وأسفاً "وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً" فيراهم شاهد الإيمان وهم إليها يُدفعون، وأتى النداء من قِبَل رب العالمين "وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ" ثم قيل لهم: "هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُـونَ ۞ أَفَسِحْرٌ هَـذَا أَمْ أَنْتُـمْ لا تُبْصِرُونَ ۞ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْـزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "فيراهم شاهد الإيمان وهم في الحميم على وجوههم يسحبون، وفي النار كالحطب يسجَرون "لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ "فبئس اللِّحَـاف وبئس الفِـرَاش، إنِ استغاثوا من شِـدة العطش "يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ "فإذا شربوا قطّع أمعاءهم في أجوافهم وصهر ما في بطونهم، شرابهم الحميم وطعامهم الزقوم "كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ۞ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ".
فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات ولَبِسَ ثياب الخوف والحذر، وأخصب قلبه من مطر أجفانه وهانَ عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه.
وعلى حسب قوة هذا الشاهد يكون بعده من المعاصي والمخالفات، فيذيب هذا الشاهد من قلبه الفضلات والمواد المهلكة وينضجها ثم يخرجها، فيجد القلب لذّة العافية وسرورها.
الشاهد الرابع: فيقوم به بعد ذلك شاهد من الجنة وما أعَدّ الله لأهلها فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فضلاً عما وصفه الله لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصل الكفيل بأنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والصور والبهجة والسرور.
فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم المقيم الدائم بحذافيره فيها تربتها المسك وحصباؤها الدّر وبناؤها لَبِن الذهب والفضة وقصب اللؤلؤ وشرابها أحلى من العسل وأطيب رائحة من المسك وأبرد من الكافور وألّذ من الزنجبيل، ونساؤها لوْ برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون وشرابهم عليه خمرة لا فيها غوْل ولا هم عنها ينـزفون وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون، وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متكـئون، وفي تلك الرياض يُحبـرون، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون.
الشاهد الخـامس: فإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد والنظر إلى وجه الرب جل جلاله وسماع كلامه منه بلا واسطة، كما قـال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذْ سطع لهمْ نورٌ فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله تعالى: "سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ "، قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نورُه وبركته عليهم في ديارهم) ، فإذا انضم هذا الشاهد إلى الشواهد التي قبله فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابِّها فلا يلتفت في طريقه يميناً ولا شمالاً) انتهى.
قد يظن القارئ أن هذا منتهى المسير، والحقيقة أننا إن انتهينا إلى هذا انتهينا إلى غاية جليلة عظيمة، فهذا المقام بالنسبة لعلمنا وزماننا وأحوالنا مَنْ يناله؟!، وإنما لم ينته المسير بَعْد، وما يأتي وهو الشاهد السادس هو الذي عليه مدار معاني هذا الكتاب لبيان خطأ التعلق الشديد بالحور العين وخشية الانقطاع أو ضعف التعلق بالمعبود الحق سبحانه، وإن كانت هذه المقامـات لا تليق بنا ولا بزماننا وإنما نرجو رحمة الله وأن يتوب علينا وينجينا من النار، ونريد هنا بيان إخلاص التوحيد وتجريد المحبة وتصحيح العبودية، والتوفيق بيد الله، وَفضْلـُه عظيمٌ يؤتيهِ مَنْ يَشاء، وقبل أن أنقل هنا الشاهد السادس من شواهد السائر إلى ربه عز وجل أسأل الله أن يغفر لي ولجميع المسلمين، ولا مانع وإن كنا لسنا بأهل أن يتجاوز كلامنا وصْف جهنم فهو نقل عن السلف والعـلم شيء والحـال شيء آخـر، فلا يُحمّـل الكاتب مالا يحتـمل، وكما يقال:
فالخوف أوْلـى بالمـسـيءِ وبالـنَّـقَـاءِ مِـنَ الـدّرَنْ
والْحُبُّ يَجْمُـلُ بالـتُّـقـاءِ إذا تـَـألَّـهَ والـحَـزَنْ
الشاهد السادس: ثم قال ابن القيم-قدس الله روحه-: (هذا وفوق ذلك شاهد آخر تضمحل فيه هذه الشواهد، ويغيب به العبد عنها كلها، وهو شاهد جلال الرب تعالى وجماله وكماله وعزّه وسلطانه وقيوميته وعلوّه فوق عرشه، وتكلمه بكتبه وكلمات تكوينه وخطابه لملائكته وأنبيائه.
فإذا شاهده شاهد بقلبه قيّوماً قاهراً فوق عباده مستوياً على عرشه منفرداً بتدبير مملكته، آمرًا ناهياً مرسلاً رسله ومنـزلاً كتبه، يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويحب ويكره، ويرحم إذا اسْـتُرحم ويغفر إذا استُغفر، ويعطي إذا سُئل، ويجيب إذا دُعي ويُقيل إذا اسْتقيل، أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء وأعز من كل شيء وأقدر من كل شيء وأعلم من كل شيء وأحكم من كل شيء).
ثم قال: (ولوْ قُدِّر جمال الخلق كلهم على واحد منهم ثم كانوا كلهم بذلك الجمال، ثم نُسِب إلى جمال الرب تعالى لكان دون سراج ضعيف بالنسبة إلى عين الشمس).
ثم قال: (فالسموات السبع في كَفِّه كخردلة في كف العبد، ولوْ أن الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم قاموا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله عز وجل، لوْ كشف الحجـاب عن وجهـه لأحرقـت سُبـُحَاتـُه ما انتـهى إليـه بصـره من خلقـه.
فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد اضمحلت فيه الشواهد المتقدمة من غير أن تُعدم.
بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشاهد، وتندرج فيه الشواهد كلها!.
وَمَنْ هذا شاهده فله سلوك وسيْر خاص ليس لغيره ممن هو عن هذا في غفلة أوْ معرفة مجملة.
فصاحب هذا الشاهد سائر إلى الله في يقظته ومنامه وحركته وسكونه وفطره وصيامه، لـه شأن وللناس شأن، هو في واد والناس في واد..
خَلِيلَيَّ لاَ وَاللـهِ مَا أنا مِنكمَـا إذا عَلَمٌ مِن آلِ لَيْلَى بَدَا لِيـَا
قال الحسن البصري-رحمه الله-: (لوْ عَلِمَ العابدون أنهم لا يروْن ربهم يوم القيامة لذابتْ أنفسُهم!) ؛ وقال: (إن أحبّاء الله هم الذين ظفروا بطيب الحيـاة، وذاقوا لـذة نعيمها بما وصلوا إليـه من مناجـاة حبيبهم وما وجدوا من حلاوة حبه في قلوبهم، ولاسيما إذا خطر على بال أحدهم ذكر تكليمه وكشْف ستورِ الحـُجُب عنه في المقام الأمين والسرور الدائم، وأراهم جلاله وأسمعهم لذيذ كلامه، وَرَدّ عليهم جواب ما ناجَوْه به أيام حياتهم إذْ قلوبهم به مشغوفة، وإذْ مودّتهم إليه معطوفة، وإذْ هم له مؤثرون، وإليه منقطعون.
فليبشر المصفّون له وُدّهُمْ بالمنظر العجيب بالحبيب، فواللـهِ ما أراه يحـلّ لعاقـل ولا يجمـل بـه أن يسْتَوْعبـه حب أحد سـوى حب الله عز وجل) انتهى
قال أبو تراب النخشبي:
لا تُخدعَـنّ!، فللمُحِبِّ دَلاَئلُ منهـا تنعّمُـهُ بِـمُـرّ بَلاَئِـهِ
فالمنعُ منـه عَطِـيَّـة مَقـبُولـةٌ وَمِن الدلائلِ أن يُرى مِنْ عَزْمِهِ
وَمِن الدلائلِ أن يُرى متبسِّمـاً وَمِن الدلائلِ أن يُرى مُتفهِّمـاً
وَمِن الدلائل أن يُـرى متقشِّفـاً ولَديْـه مِنْ تُحفِ الحبيبِ وسائلُ
وسـرُوره في كُلِّ مَا هُوَ فاعِـلُ والفقـرُ إكـرامٌ وبِـرٌّ عاجـلُ
طَـوْع الحبيبِ وإنْ ألَحَّ العاذِلُ والقلبُ فيـهِ مَنَ الحبيبِ بَلاَبلُ
لِكلام من يُحظى لديْـه السَّائلُ متحفِّظاً في كُلِّ مَا هُوَ قائِـلُ
ومن أسمائه سبحانه (الودود)، قال ابن عباس – رضي الله عنهما-: (الودود) الحبيب.
وقال ابن القيم-رحمه الله-: (الودّ أصفى الحب وألطفه) ، وقد قال تعالى عن أوليائه: "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ "وقال سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ".
إن كثيراً من الناس لا يعرف من العبادة إلا الأعمال الظاهرة، أما حال القلب وعمله وحبه وشوْقه وتعلّقه فقد لا يبالي أن ينصرف لأي وِجْهةٍ ويسلك أيّ سبيل لِقصور فهمه ونقص علمه، ولذلك فإن فَهْم معنى التعبّد والعبادة يبين الأمر على جلـيَّته.
قال ابن القيم-رحمه الله-: (وأما التعبد فهو غاية الحب وغاية الذّل، يُقال: عَبَّدَه الحب-أي ذلّله-، وطريق مُعَبّدٌ بالأقدام-أي مُذلّل-وكذلك المحب قد ذلّلـه الحب وَوَطَّـأه، ولا تصلح هذه المرتبة لأحد غيـر الله عز وجل.
ولا يغفر الله سبحانه لمن أشرك به في عبادتـه ويغفر ما دون ذلك لمن شـاء، فمحبة العبودية هي أشرف أنواع المحبة، وهي خالص حق الله على عباده) انتهى .
ومن أعظم القواطع عن محبة الله وعبوديته العشق الذي قال فيه ابن القيم: (إنه شرك في المحبة وفراغ عن الله، وتمليك للقلب والروح والحب لغيره).
وقال – رحمه الله-: (فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد، بل هو خمر الروح الذي يُسكرها ويصدها عن ذكر الله وحبه، والتلذذ بمناجاته، والأنس به؛ ويُوجب عبودية القلب لغيره، فإن قلب العاشق متعبّد لمعشوقه، بل العشق لُبّ العبودية، فإنها كمال الذل والحب والخضوع والتعظيم) انتهى .
ولاشك أن التعلق بالدنيـا والسُّفْلِيـَّات وشِـدَّة الرغبة فيها يُوثِق القلب ويقيّد الروح أنْ تصعد لمرادها الحق، فَتَجُول في العالَم السُّفلي المظلم الموحِش فلا تجد سوى الظلمة والوحشة، وتكون بذلك مُعذّبة بحسب قوة ذلك التعلق وضعفه.
قال شيخ الإسلام-رحمه الله-: (وكلما كان قلبه في محبة الله وذكره وطاعته كان معلقاً بالمحل الأعلى، فلا يزال في عُلوِّ مادام كذلك، فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل فلا يزال في هبوط مادام كذلك) انتهى .
وعن عطاء بن يسار، قال: قال موسى صلى الله عليه وسلم: (ياربّ مَن أهْلُكَ الذين هم أهْلُكَ الذيـن تظلهـم في ظِـلِّ عَرْشِـك؟!، فذكر صفاتهم ومنها: " ويَكْلـَفُون بُحُـبِّي كما يكْلَف الصبيُّ بحب الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استُحِلّت كما يغضب النِّمْرُ إذا حَرِب ") انتهى
لقد كان سلف هـذه الأمـة يتنافسـون فـي هـذا لكمال علمهـم ومعرفتهـم بمعبودهم الحق سبحانه، ومن هنا صاروا أولياء لله، ولذلك استحقوا أن يقول فيهم سبحانه كما في الحديث القدسي: (من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة) ، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) الحديث.
وكما في كلام الله تعالى لموسى عليه السلام: (واعلم أنه من أهان لي ولياً أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة) وهذا يوافق ما عندنا في الحديث المتقدم، وقد ذَكره الإمام أحمد من رواية وهب بن منبه في كلام الله لموسى في الطور لما أراد سبحانه إرساله إلى فرعون؛ وسوف أنقل هنا بعضه لما فيه من العِبر والآيات،ولِما فيه مما يُصدِّق ما عندنا، ولمناسبته لِحالنا وما يجري في زماننا.
قال سبحانه في كلامه لموسى في الطور: (إني قد أقمتك اليـوم مقامـاً لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك، أدْنيْتك وقربتك حتى سمعت كلامي، وكنت بأقرب الأمكنة مني، فانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي، وإن معك يدي ونصري،وإني قد ألْبستك جُنَّة من سلطاني تستكمل بها الق
المشاهدات 4737 | التعليقات 0