كبر على المشركين ما تدعوهم إليه
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1435/04/05 - 2014/02/05 18:37PM
[كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ]
7/4/1435
الحَمْدُ للهِ الأَحَدِ الصَّمَدِ؛ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3، 4] {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 101، 103]، نَحْمَدُهُ فَهُوَ أَهْلُ الحَمْدِ كُلِّهِ، يُحْمَدُ لِذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَيُحْمَدُ لِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ خَلَقَهَمُ وَلَمْ يَكُونُوا أَحْيَاءً وَلاَ مَذْكُورِينَ، وَرَزَقَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ مُوسِرِينَ، وَهَدَاهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ مَنْ عَرَفَهُ أَغْنَتْهُ مَعْرِفَتُهُ بِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا سِوَاهُ، وَمَنْ جَهِلَهُ لَمْ تَنْفَعْهُ مَعْرِفَةٌ وَلَوْ بَلَغَ بِهَا أَعَالِي الآفَاقِ، وَشَقَّ الأَرْضَ إِلَى الأَعْمَاقِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَرَفَ اللهَ تَعَالَى كَمَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ، فَشَرُفَ بِعُبُودِيَّتِهِ، وَقَدَّمَهَا عَلَى مُلْكِ الدُّنْيَا كُلِّهَا، وَاخْتَارَ جِوَارَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الخُلْدِ فِيهَا، فَقَالَ: فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْرِفُوا رَبَّكُمْ سُبْحَانَهُ وَعَظِّمُوهُ، وَأَخْلِصُوا لَهُ العُبُودِيَّةَ وَأَحِبُّوهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إِلاَّ بِاللهِ تَعَالَى، وَلاَ هَلاَكَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالبُعْدِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ، وَلاَ مَلْجَأَ لِلْعِبَادِ مِنْهُ إِلاَّ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50، 51].
أَيُّهَا النَّاسُ: يَزْدَانُ الكَلاَمُ وَيَعْظُمُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ وَالقَارِئِ إِذَا كَانَ المَقْرُوءُ أَوِ المَسْمُوعُ كَلاَمَ المَحْبُوبِ، وَتَزْدَادُ الرَّغْبَةُ فِي الامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ إِذَا كَانَ الآمِرُ النَّاهِي أَقْوَى مَوْجُودٍ؛ لِيَتَوَاءَمَ فِي نَفْسِ المُؤْمِنِ الأَمْرُ الكَوْنِيُّ مَعَ الأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَتُصْرَفُ العُبُودِيَّةُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا دُونَ مَا سِوَاهُ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
وَأَمَّا المَصْدُودُونَ عَنِ السَّبِيلِ، المَصْرُوفُونَ عَنِ التَّنْزِيلِ فَأُولَئِكَ قَوْمٌ مَا شَرُفُوا بِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى حَقَّ المَعْرِفَةِ، وَلاَ ذَاقُوا طَعْمَ الإِيمَانِ وَحَلاَوَتَهُ، وَلاَ تَنَعَّمُوا بِالامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ، فَتَضِيقُ صُدُورُهُمْ مِنْ سَمَاعِ القُرْآنِ، وَتَثْقُلُ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ، حَتَّى إِنَّ لَنَحْتَ جَبَلٍ، وَنَقْلَ صَخْرٍ أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ مِنْ آيَةٍ يُنْصِتُونَ لَهَا، أَوْ مَوْعِظَةٍ يَمْتَثِلُونَهَا، أَوْ عِبَادَةٍ يُؤَدُّونَهَا، أَوْ مَعْصِيَةٍ يَجْتَنِبُونَهَا.
وَهَذَا لَيْسَ خَاصًّا بِزَمَنٍ دُونَ زَمَنٍ، وَلاَ بِأُمَّةٍ دُونَ أُخْرَى، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الأُمَمِ كُلِّهَا، وَالأَزْمِنَةِ جَمِيعِهَا، وَسِيَرُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ مَعَ أَقْوَامِهِمْ تَدُلُّ عَلَى ذلك؛ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِقَوْمِهِ: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71]، فَمَقَامُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَتَذْكِيرُهُ لَهُمْ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى كَانَ ثَقِيلاً عَلَيْهِمْ، وَلاَ يُطِيقُونَ سَمَاعَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُغَطُّونَ عَنْهُ رُؤُوسَهُمْ، وَيُغْلِقُونَ دُونَهُ آذَانَهُمْ؛ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7]، وَهَذَا يَدُلُّ دَلاَلَةً وَاضِحَةً عَلَى شِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَالإِيمَانِ بِه، وَلِذَا قَالَ لَهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]
وَمِثْلُ هَذَا فَعَلَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5] ، فَمِنَ المَعَانِي المَذْكُورَةِ لِلآيَةِ أَنَّ المُشْرِكِينَ يَحْدَوْدِبُونَ حِينَ يَرَوْنَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِئَلاَّ يَرَاهُمْ وَيُسْمِعَهُمْ دَعْوَتَهُ، وَيَعِظَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، فَهَلْ فَوْقَ هَذَا الإِعْرَاضِ إِعْرَاضٌ؟
هَذَا؛ ودَعْوَةُ الْحَقِّ لاَ تَذْهَبُ بَاطِلًا حَتَّى عِنْدَ مَنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَا وَلَمْ يَتَّبِعُوهَا، فَإِنَّهَا تَلْفِتُ عُقُولَهُمْ إِلَى فَرْضِ صِدْقِهَا أَوْ الِاسْتِعْدَادِ إِلَى دَفْعِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُثِيرُ حَقِيقَتَهَا، وَيُشِيعُ دِرَاسَتَهَا، وَكَمْ مِنْ مُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَةِ حَقٍّ مَا وَسِعَهُمْ إِلاَّ التَّحَفُّزُ لِشَأْنِهَا، وَالْإِفَاقَةُ مِنْ غَفْلَتِهِمْ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ المُشْرِكِينَ حِينَ سَمِعُوا دَعْوَةَ الْقُرْآنِ؛ إِذْ أَخَذُوا يَتَدَبَّرُونَ وَسَائِلَ مُقَاوَمَتِهَا وَنَقْضِهَا، وَالتَّفَهُّمِ فِي مَعَانِيهَا لِإِيجَادِ دَفْعِهَا.
وَمِنْ أَبْيَنِ الآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا فِي قُلُوبِ الكُفَّارِ مِنْ صُدُودٍ عَنِ الحَقِّ، وَكَرَاهِيَةٍ لَهُ، وَتَبَرُّمٍ بِهِ، وَضِيقٍ مِنْهُ، وَحَنَقٍ عَلَيْهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى {كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]؛ أَيْ: شَقَّ عَلَيْهِمْ وَعَظُمَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَطَاعَتِهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَلِعِظَمِ ذَلِكَ وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ الله تَعَالَى مِنَ البَيِّنَاتِ؛ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9].
وَيَجْتَهِدُونَ فِي عَدَمِ سَمَاعِهِ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
بَلْ يَكُادُونَ يَبْطِشُونَ بِمَنْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لَهَا؛ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: 72] وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ امْتِلَاءِ نُفُوسِهِمْ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْغَيْظِ حَتَّى تَجَاوَزَ أَثَرُهُ بَوَاطِنَهُمْ فَظَهَرَ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
وَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ مِنْ جِهَاتٍ عِدَّةٍ:
فَكَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الدَّاعِي؛ لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ {قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94]؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ مِنْ عُظَمَائِهِم {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا بِهِ الدَّعْوَةُ فَإِنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّ اللَّهَ لاَ يُخَاطِبُ الرُّسُلَ إِلاَّ بِكِتَابٍ يُنَزِّلُهُ إِلَيْهِ دَفْعَةً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ قَالُوا {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93]، أَوْ يَرْوَنَ اللهَ تَعَالَى أَوْ يُكَلِّمُهُمْ أَوْ يَخُصُّهُمْ بِآيَةٍ: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118] {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] وَالْقَائِلُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمَّا جَاءَتْهُمُ الآيَاتُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا: {مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59].
وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إلِيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّعْوَةُ مِمَّا لَمْ تُسَاعِدْ أَهْوَاؤُهُمْ عَلَيْهِ فَقَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7].
وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْتَهِيَ سُلْطَانُهُمُ الدِّينِيُّ بِانْتِهَاءِ عَهْدِ الوَثَنِيَّةِ وَالأَصْنَامِ وَالأَسَاطِيرِ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا هَذَا السُّلْطَانُ، وَتَعْتَمِدُ عَلَيْهَا مَصَالِحُهُمُ الاقْتِصَادِيَّةُ وَالشَّخْصِيَّةُ، فَتَشَبَّثُوا بِالشِّرْكِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمُ التَّوْحِيدُ الخَالِصُ الوَاضِحُ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ آبَاءَهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ مَاتُوا عَلَى ضَلاَلَةٍ وَعَلَى جَاهِلِيَّةٍ فَتَشَبَّثُوا بِالشِّرْكِ، وَأَخَذَتْهُمُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ، وَاخْتَارُوا َأْن يُلْقُوا بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى الجَحِيمِ، عَلَى أَنْ يُوصَمَ آبَاؤُهُمْ بِأَنَّهُم مَاتُوا ضَالِّينَ، وَأَغْوَوْا أَبَا طَالِبٍ عَمَّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَقَدْ حَاوَلَ هِدَايَتَهُ فِي الرَّمَقِ الأَخِيرِ مِنْ حَيَاتِهِ، فَكَبُرَ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ دِينَ أَبِيهِ أَمَامَ المَلأِ مِنْ قُرَيْشٍ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ: "يَا عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ " فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ المَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَلِسَانُ مَقَالِهِمْ فِي رَدِّ الحَقِّ {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] كَمَا قَالَ قَبْلَهُمْ قَوْمُ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي تَعْلِيلِهِمْ لِعِبَادَةِ الأَصْنَامِ: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 53]
وَهُوَ قَوْلُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ لِرَسُولِهَا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
نَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى عَلَى الهِدَايَةِ لِلإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَمَعْرِفَةِ الحَقِّ المُبِينِ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ الثَّبَاتَ عَلَيْهِ إِلَى المَمَاتِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَمْسِكُوا بِدِينِكُمْ، وَزِيدُوا إِيمَانَكُمْ؛ فَإِنَّ العَمَلَ الصَّالِحَ يَزِيدُ الإِيمَانَ، وَإِنَّ المَعَاصِي تَنْقُصُهُ؛ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِذَا رَأَى المُؤْمِنُ تَخَبُّطَ أَكْثَرِ البَشَرِ فِي الدِّينِ، وَبُعْدَهُمْ عَنِ اليَقِينِ؛ عَلِمَ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى بِهِ، وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، بِأَنْ هَدَاهُ حِينَ ضَلَّ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَعَلَّمَهُ حِينَ جَهِلُوا، وَقَادَهُ لِلاسْتِسْلاَمِ حِينَ اسْتَكْبَرُوا، وَلِلتَّصْدِيقِ وَالإِذْعَانِ حِينَ كَذَبُوا وَاسْتَنْكَفُوا، وَقَدْ ذُيِّلَتِ الآيَةُ الَّتِي بَيَّنَتْ كِبَرَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى المُشْرِكِينَ بِهَذِهِ الحَقِيقَةِ المُهِمَّةِ، وَهِيَ أَنَّ الهِدَايَةَ لِلإيمَانِ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَمِنَّةٌ عَلَى المُؤْمِنِينَ: {كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلِيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلِيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلِيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].
وَأَعْظَمُ الخُسْرَانِ، وَأَشَدُّ أَنْوَاعِ الخِذْلاَنِ: أَنْ يُفَارِقَ العَبْدُ الإِيمَانَ بَعْدَ أَنْ هُدِيَ إِلَيْهِ، وَنَشَأَ عَلَيْهِ، فَيَنْحُو إِلَى الشَّكِّ وَالجُحُودِ وَالإِلْحَادِ، وَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ النَّاسِ يَكُونُ أَشَدَّ النَّاسِ كُفْرًا، وَأَعْظَمَهُمْ ضَلاَلاً {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران: 90]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137].
وَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُ إِيمَانَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَيَتَخَلَّى عَنِ الحَقِّ، وَيَرْكَبُ البَاطِلَ لِدُنْيَا يُؤْثِرُهَا، وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الضَّلاَلِ؛ لِأَنَّهُ لاَ يُقَدِّمُ العَاجِلَةَ الفَانِيَةَ عَلَى الآجِلَةِ البَاقِيَةِ إِلاَّ مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ، وَتَاهَ عَنِ الحَقِّ {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [البقرة: 108] ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } [البقرة: 174، 175].
إِنَّهُ حَرِيٌّ بِنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى إِيمَانِنَا، وَأَنْ نُرَسِّخَ يَقِينَنَا، وَأَنْ نَزْرَعَ الإِيمَانَ وَاليَقِينَ وَتَعْظِيمَ اللهِ تَعَالَى فِي قُلُوبِ أَوْلاَدِنَا وَنَاشِئَتِنَا فِي زَمَنٍ فُتَحِتْ فِيهِ الشُّبُهَاتُ عَلَى مَصَارِيعِهَا، وَكَثُرَ دُعَاتُهَا وَمُرَوِّجُوهَا، مَعَ مَا يُحِيطُ بِالنَّاسِ مِنْ بُحُورِ الشَّهَوَاتِ الَّتِي تَكَادُ تُغْرِقُهُمْ، وَلاَ عَاصِمَ مِنَ الفِتَنِ إِلاَّ اللهُ تَعَالَى، وَلاَ حِصْنَ يَعْصِمُ المُؤْمِنَ إِلاَّ اللُّجُوءُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ مَعَ لُزُومِ الذِّكْرِ وَالقُرْآنِ تِلاَوَةً وَتَدَبُّرًا وَعَمَلاً، وَكَثْرَةَ العِبَادَةِ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 98، 99].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
7/4/1435
الحَمْدُ للهِ الأَحَدِ الصَّمَدِ؛ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3، 4] {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 101، 103]، نَحْمَدُهُ فَهُوَ أَهْلُ الحَمْدِ كُلِّهِ، يُحْمَدُ لِذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَيُحْمَدُ لِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ خَلَقَهَمُ وَلَمْ يَكُونُوا أَحْيَاءً وَلاَ مَذْكُورِينَ، وَرَزَقَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ مُوسِرِينَ، وَهَدَاهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ مَنْ عَرَفَهُ أَغْنَتْهُ مَعْرِفَتُهُ بِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا سِوَاهُ، وَمَنْ جَهِلَهُ لَمْ تَنْفَعْهُ مَعْرِفَةٌ وَلَوْ بَلَغَ بِهَا أَعَالِي الآفَاقِ، وَشَقَّ الأَرْضَ إِلَى الأَعْمَاقِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَرَفَ اللهَ تَعَالَى كَمَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ، فَشَرُفَ بِعُبُودِيَّتِهِ، وَقَدَّمَهَا عَلَى مُلْكِ الدُّنْيَا كُلِّهَا، وَاخْتَارَ جِوَارَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الخُلْدِ فِيهَا، فَقَالَ: فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْرِفُوا رَبَّكُمْ سُبْحَانَهُ وَعَظِّمُوهُ، وَأَخْلِصُوا لَهُ العُبُودِيَّةَ وَأَحِبُّوهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إِلاَّ بِاللهِ تَعَالَى، وَلاَ هَلاَكَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالبُعْدِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ، وَلاَ مَلْجَأَ لِلْعِبَادِ مِنْهُ إِلاَّ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50، 51].
أَيُّهَا النَّاسُ: يَزْدَانُ الكَلاَمُ وَيَعْظُمُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ وَالقَارِئِ إِذَا كَانَ المَقْرُوءُ أَوِ المَسْمُوعُ كَلاَمَ المَحْبُوبِ، وَتَزْدَادُ الرَّغْبَةُ فِي الامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ إِذَا كَانَ الآمِرُ النَّاهِي أَقْوَى مَوْجُودٍ؛ لِيَتَوَاءَمَ فِي نَفْسِ المُؤْمِنِ الأَمْرُ الكَوْنِيُّ مَعَ الأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَتُصْرَفُ العُبُودِيَّةُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا دُونَ مَا سِوَاهُ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
وَأَمَّا المَصْدُودُونَ عَنِ السَّبِيلِ، المَصْرُوفُونَ عَنِ التَّنْزِيلِ فَأُولَئِكَ قَوْمٌ مَا شَرُفُوا بِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى حَقَّ المَعْرِفَةِ، وَلاَ ذَاقُوا طَعْمَ الإِيمَانِ وَحَلاَوَتَهُ، وَلاَ تَنَعَّمُوا بِالامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ، فَتَضِيقُ صُدُورُهُمْ مِنْ سَمَاعِ القُرْآنِ، وَتَثْقُلُ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ، حَتَّى إِنَّ لَنَحْتَ جَبَلٍ، وَنَقْلَ صَخْرٍ أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ مِنْ آيَةٍ يُنْصِتُونَ لَهَا، أَوْ مَوْعِظَةٍ يَمْتَثِلُونَهَا، أَوْ عِبَادَةٍ يُؤَدُّونَهَا، أَوْ مَعْصِيَةٍ يَجْتَنِبُونَهَا.
وَهَذَا لَيْسَ خَاصًّا بِزَمَنٍ دُونَ زَمَنٍ، وَلاَ بِأُمَّةٍ دُونَ أُخْرَى، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الأُمَمِ كُلِّهَا، وَالأَزْمِنَةِ جَمِيعِهَا، وَسِيَرُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ مَعَ أَقْوَامِهِمْ تَدُلُّ عَلَى ذلك؛ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِقَوْمِهِ: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71]، فَمَقَامُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَتَذْكِيرُهُ لَهُمْ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى كَانَ ثَقِيلاً عَلَيْهِمْ، وَلاَ يُطِيقُونَ سَمَاعَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُغَطُّونَ عَنْهُ رُؤُوسَهُمْ، وَيُغْلِقُونَ دُونَهُ آذَانَهُمْ؛ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7]، وَهَذَا يَدُلُّ دَلاَلَةً وَاضِحَةً عَلَى شِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَالإِيمَانِ بِه، وَلِذَا قَالَ لَهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]
وَمِثْلُ هَذَا فَعَلَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5] ، فَمِنَ المَعَانِي المَذْكُورَةِ لِلآيَةِ أَنَّ المُشْرِكِينَ يَحْدَوْدِبُونَ حِينَ يَرَوْنَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِئَلاَّ يَرَاهُمْ وَيُسْمِعَهُمْ دَعْوَتَهُ، وَيَعِظَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، فَهَلْ فَوْقَ هَذَا الإِعْرَاضِ إِعْرَاضٌ؟
هَذَا؛ ودَعْوَةُ الْحَقِّ لاَ تَذْهَبُ بَاطِلًا حَتَّى عِنْدَ مَنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَا وَلَمْ يَتَّبِعُوهَا، فَإِنَّهَا تَلْفِتُ عُقُولَهُمْ إِلَى فَرْضِ صِدْقِهَا أَوْ الِاسْتِعْدَادِ إِلَى دَفْعِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُثِيرُ حَقِيقَتَهَا، وَيُشِيعُ دِرَاسَتَهَا، وَكَمْ مِنْ مُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَةِ حَقٍّ مَا وَسِعَهُمْ إِلاَّ التَّحَفُّزُ لِشَأْنِهَا، وَالْإِفَاقَةُ مِنْ غَفْلَتِهِمْ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ المُشْرِكِينَ حِينَ سَمِعُوا دَعْوَةَ الْقُرْآنِ؛ إِذْ أَخَذُوا يَتَدَبَّرُونَ وَسَائِلَ مُقَاوَمَتِهَا وَنَقْضِهَا، وَالتَّفَهُّمِ فِي مَعَانِيهَا لِإِيجَادِ دَفْعِهَا.
وَمِنْ أَبْيَنِ الآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا فِي قُلُوبِ الكُفَّارِ مِنْ صُدُودٍ عَنِ الحَقِّ، وَكَرَاهِيَةٍ لَهُ، وَتَبَرُّمٍ بِهِ، وَضِيقٍ مِنْهُ، وَحَنَقٍ عَلَيْهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى {كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]؛ أَيْ: شَقَّ عَلَيْهِمْ وَعَظُمَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَطَاعَتِهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَلِعِظَمِ ذَلِكَ وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ الله تَعَالَى مِنَ البَيِّنَاتِ؛ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9].
وَيَجْتَهِدُونَ فِي عَدَمِ سَمَاعِهِ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
بَلْ يَكُادُونَ يَبْطِشُونَ بِمَنْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لَهَا؛ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: 72] وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ امْتِلَاءِ نُفُوسِهِمْ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْغَيْظِ حَتَّى تَجَاوَزَ أَثَرُهُ بَوَاطِنَهُمْ فَظَهَرَ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
وَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ مِنْ جِهَاتٍ عِدَّةٍ:
فَكَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الدَّاعِي؛ لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ {قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94]؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ مِنْ عُظَمَائِهِم {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا بِهِ الدَّعْوَةُ فَإِنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّ اللَّهَ لاَ يُخَاطِبُ الرُّسُلَ إِلاَّ بِكِتَابٍ يُنَزِّلُهُ إِلَيْهِ دَفْعَةً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ قَالُوا {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93]، أَوْ يَرْوَنَ اللهَ تَعَالَى أَوْ يُكَلِّمُهُمْ أَوْ يَخُصُّهُمْ بِآيَةٍ: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118] {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] وَالْقَائِلُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمَّا جَاءَتْهُمُ الآيَاتُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا: {مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59].
وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إلِيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّعْوَةُ مِمَّا لَمْ تُسَاعِدْ أَهْوَاؤُهُمْ عَلَيْهِ فَقَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7].
وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْتَهِيَ سُلْطَانُهُمُ الدِّينِيُّ بِانْتِهَاءِ عَهْدِ الوَثَنِيَّةِ وَالأَصْنَامِ وَالأَسَاطِيرِ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا هَذَا السُّلْطَانُ، وَتَعْتَمِدُ عَلَيْهَا مَصَالِحُهُمُ الاقْتِصَادِيَّةُ وَالشَّخْصِيَّةُ، فَتَشَبَّثُوا بِالشِّرْكِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمُ التَّوْحِيدُ الخَالِصُ الوَاضِحُ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ آبَاءَهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ مَاتُوا عَلَى ضَلاَلَةٍ وَعَلَى جَاهِلِيَّةٍ فَتَشَبَّثُوا بِالشِّرْكِ، وَأَخَذَتْهُمُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ، وَاخْتَارُوا َأْن يُلْقُوا بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى الجَحِيمِ، عَلَى أَنْ يُوصَمَ آبَاؤُهُمْ بِأَنَّهُم مَاتُوا ضَالِّينَ، وَأَغْوَوْا أَبَا طَالِبٍ عَمَّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَقَدْ حَاوَلَ هِدَايَتَهُ فِي الرَّمَقِ الأَخِيرِ مِنْ حَيَاتِهِ، فَكَبُرَ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ دِينَ أَبِيهِ أَمَامَ المَلأِ مِنْ قُرَيْشٍ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ: "يَا عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ " فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ المَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَلِسَانُ مَقَالِهِمْ فِي رَدِّ الحَقِّ {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] كَمَا قَالَ قَبْلَهُمْ قَوْمُ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي تَعْلِيلِهِمْ لِعِبَادَةِ الأَصْنَامِ: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 53]
وَهُوَ قَوْلُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ لِرَسُولِهَا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
نَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى عَلَى الهِدَايَةِ لِلإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَمَعْرِفَةِ الحَقِّ المُبِينِ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ الثَّبَاتَ عَلَيْهِ إِلَى المَمَاتِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَمْسِكُوا بِدِينِكُمْ، وَزِيدُوا إِيمَانَكُمْ؛ فَإِنَّ العَمَلَ الصَّالِحَ يَزِيدُ الإِيمَانَ، وَإِنَّ المَعَاصِي تَنْقُصُهُ؛ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِذَا رَأَى المُؤْمِنُ تَخَبُّطَ أَكْثَرِ البَشَرِ فِي الدِّينِ، وَبُعْدَهُمْ عَنِ اليَقِينِ؛ عَلِمَ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى بِهِ، وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، بِأَنْ هَدَاهُ حِينَ ضَلَّ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَعَلَّمَهُ حِينَ جَهِلُوا، وَقَادَهُ لِلاسْتِسْلاَمِ حِينَ اسْتَكْبَرُوا، وَلِلتَّصْدِيقِ وَالإِذْعَانِ حِينَ كَذَبُوا وَاسْتَنْكَفُوا، وَقَدْ ذُيِّلَتِ الآيَةُ الَّتِي بَيَّنَتْ كِبَرَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى المُشْرِكِينَ بِهَذِهِ الحَقِيقَةِ المُهِمَّةِ، وَهِيَ أَنَّ الهِدَايَةَ لِلإيمَانِ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَمِنَّةٌ عَلَى المُؤْمِنِينَ: {كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلِيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلِيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلِيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].
وَأَعْظَمُ الخُسْرَانِ، وَأَشَدُّ أَنْوَاعِ الخِذْلاَنِ: أَنْ يُفَارِقَ العَبْدُ الإِيمَانَ بَعْدَ أَنْ هُدِيَ إِلَيْهِ، وَنَشَأَ عَلَيْهِ، فَيَنْحُو إِلَى الشَّكِّ وَالجُحُودِ وَالإِلْحَادِ، وَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ النَّاسِ يَكُونُ أَشَدَّ النَّاسِ كُفْرًا، وَأَعْظَمَهُمْ ضَلاَلاً {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران: 90]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137].
وَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُ إِيمَانَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَيَتَخَلَّى عَنِ الحَقِّ، وَيَرْكَبُ البَاطِلَ لِدُنْيَا يُؤْثِرُهَا، وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الضَّلاَلِ؛ لِأَنَّهُ لاَ يُقَدِّمُ العَاجِلَةَ الفَانِيَةَ عَلَى الآجِلَةِ البَاقِيَةِ إِلاَّ مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ، وَتَاهَ عَنِ الحَقِّ {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [البقرة: 108] ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } [البقرة: 174، 175].
إِنَّهُ حَرِيٌّ بِنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى إِيمَانِنَا، وَأَنْ نُرَسِّخَ يَقِينَنَا، وَأَنْ نَزْرَعَ الإِيمَانَ وَاليَقِينَ وَتَعْظِيمَ اللهِ تَعَالَى فِي قُلُوبِ أَوْلاَدِنَا وَنَاشِئَتِنَا فِي زَمَنٍ فُتَحِتْ فِيهِ الشُّبُهَاتُ عَلَى مَصَارِيعِهَا، وَكَثُرَ دُعَاتُهَا وَمُرَوِّجُوهَا، مَعَ مَا يُحِيطُ بِالنَّاسِ مِنْ بُحُورِ الشَّهَوَاتِ الَّتِي تَكَادُ تُغْرِقُهُمْ، وَلاَ عَاصِمَ مِنَ الفِتَنِ إِلاَّ اللهُ تَعَالَى، وَلاَ حِصْنَ يَعْصِمُ المُؤْمِنَ إِلاَّ اللُّجُوءُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ مَعَ لُزُومِ الذِّكْرِ وَالقُرْآنِ تِلاَوَةً وَتَدَبُّرًا وَعَمَلاً، وَكَثْرَةَ العِبَادَةِ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 98، 99].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه مشكولة.doc
كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه مشكولة.doc
كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.doc
كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.doc
المشاهدات 2870 | التعليقات 2
وإياك شيخ شبيب
وشكر الله تعالى لك مرورك.
وشكر الله تعالى لك مرورك.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق