كأن لم تغنَ بالأمس

سامي بن محمد العمر
1444/07/18 - 2023/02/09 18:30PM

كأن لم تغنَ بالأمس

أما بعد:

{كأن لم تغن بالأمس}، موحشةُ العَرَصَاتِ بعد الأُنس.

{كأن لم تغن بالأمس}، قد دَثَر عُمرانها، وهلكَ سُكانها.

{كأن لم تغن بالأمس}، إذْ عادت مغانيها رسوماً، ومسراتُها حسراتٍ وهمومًا.

مواعظُ يجب ألا تمر علينا كسحابةِ صيفٍ أو خيالِ طيف.

فمن ذا يتخيل في لحظةٍ أن يفقد نفسه أو والده وولده؟

من ذا يتخيل في لحظةٍ أن تزول عنه النعم، وتتبدلَ العافية، ويذهبَ الأمن، ويحلَّ الدمار، وتكثرَ الأضرار؟

من ذا يتخيل في لحظةٍ أن يفقدَ مسكنه، أو يخسرَ تجارته، أو يُسلبَ صحته؟

إنها الفُجاءة التي تجعلُ الحليمَ حيران، والعاقلَ كالسكران.. إذْ لا مُنذراتٍ تُنذر، ولا مُقدماتٍ تُؤذنُ وتُخبِر.

الزلازل؛ ككلِّ آياتِ الله العظيمة؛ فيها عظةٌ للمتعظين، وعبرةٌ للناجين السالمين، وابتلاءٌ للمؤمنين، وتنبيهٌ للغافلين، وعقوبةٌ للمتكبرين الظالمين.

فرحمات الله تترى على عباده المؤمنين، ونسألُه اللطفَ بالمصابين المنكوبين، والعفو والعافية والسلامة للمسلمين أجمعين.

ولكن: ماذا عن زلازلَ تضربُ وتضرب، وتهدمُ وتهدم، وتمرضُ وتقتل؛ والناس عنها غافلون.

زلازلُ تضطربُ منها القلوب، وتتصدعُ منها الافئدة؛ في صورة بلايا وشهوات، وفتنٍ وشبهات؛ وامتحانٍ للإيمان عظيم، واختبارٍ للثبات جسيم {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11]

حين ترفلُ الأممُ في خيراتِ الله، وتَتنعَّمُ بأرزاقِه وعطاياه، مع إقامتِها على معصيتِه، ومباشرتِها لما يُغضبه، ومُعاقرتِها لنواهيه؛ فقد دخلتْ في مرحلةِ الاستدراجِ والعياذُ بالله.

{وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}

وفي الحديثِ عن عُقبةَ بنِ عامرٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتَ اللهَ يُعطي العبدَ من الدنيا على معاصيهِ ما يُحبُّ، فإنما هو استدراجٌ)).

ثم تلا صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ}([1]).

فلِمَ الغفلةُ يا عبادَ الله، ونُذُرُ اللهِ علينا تَترى، ومواعظُهُ لنا تَتَابَع؟

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 1 - 3]

لم الغفلةُ أيها الآمنون المطمئنون؟ والله تعالى يصيب الناس مِن حولكم بالنكبات، والبلايا المهلكات، لتكون لكم دروسًا وعظات، وآياتٍ بينات.

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]

إن في تلك الآياتِ الكونيةِ والسننِ الإلهيةِ إفزاعًا وتخويفًا كما قال سبحانه:

{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]

قال قتادة رحمه الله: "إن الله يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبرون، ويذَّكَّرون، ويرجعون"([2]).

ولما كان المرء يغْفُلُ عن سبب وجوده في هذه الحياة، ويتعالى على مرادات ربه منه، كان من تربية الله لعباده ورحمته بهم ... أن يريهم من آثار قدرته وجبروته في هذه الدنيا من تغيير ما اعتادوه، وتبديل ما ألفوه ما ينبههم من غفلتهم، ويوقظهم من رقدتهم.

{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 96 - 99]

فألله الله بدوام الحمد والشكر، والإقبال على الله بالطاعة والتوبة والذِّكر؛ فما نحن إلا خلق من خلقه؛ تجري علينا أوامره ومقاديره..

فإن لطفَ بنا فجعل غيرنا عبرةً لنا؛ فلا يبعدُ مع بطرنا أن يجعلنا عبرةً لغيرنا..

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

الخطبة الثانية

 

أما بعد:

فإلى كل من طال عليه أمد الجهالة، واستولت عليه أسباب الضلالة.

إلى كل من تمكنت منه الغفلة التمكن التام، حتى أصبحت معيشته في الحياة معيشة الأنعام.

الدنيا مليئة بالأحداث والعبر، والله لا يعذب إلى بعد إرسال النذر، وأنتم ههنا آمنون، والناس من حولكم يُتخطفون ويُهلكون، زلزالٌ ودمار، حرائقُ وانفجار، هلاكٌ وأضرار؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار، وهبوا لنجدة إخوانكم وتخفيف مصابهم فذاك من أفضل القربات؛ فقد فُتِح لك بابٌ للخير بدعوة من خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ووفقه لكل خير؛ لحملةِ إغاثةٍ عاجلةٍ لمنكوبي الزلزال؛ كما جرت به عادة هذا البلد المعطاء حكومة وشعباً.

اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْوبَنَا عَلَى دِينِكَ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَحْفَظَنَا بِحِفْظِكَ، وَأَنْ تَكْلَأَنَا بِرِعَايَتِكَ، وَأَنْ تَدْفَعَ عَنَّا الغَلَاء َوَالوَبَاءَ وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَالزَّلَازِلَ وَالمِحَنَ وَسُوءَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.

 

 

([1]) أخرجه أحمد (17311) وحسنه محققو المسند.

([2]) تفسير ابن كثير (5/ 91).

المرفقات

1675956620_كأن لم تغن بالأمس.docx

المشاهدات 1055 | التعليقات 0