قيمة الحياة .. رمضان بين يديك

عبدالعزيز بن محمد
1442/09/03 - 2021/04/15 13:41PM

أيها المسلمون: أيامنا في هذه الدنيا تعد وتحسب.. أوقاتها، ولحظاتها، وساعاتها، كلها في كتاب.. فإذا انقضى ذاك الكتاب ترحلت أعمارنا {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}  ومع غروب شمس كل يومٍ.. نودع يوماً من أيامه، وننفصل عن جزءٍ من أعمارنا، ونتخلى عن خصلة من حياتنا.

وها هي الأيام تجري بنا سريعاً، وتمر مرَّ السحاب، وإذا ما ترحلَّ يومٌ.. ترحل بما أُودِعَ فيه من أعمال،  ثم يُبْسَطُ للعبادِ بِسَاطُ يومٍ جَدِيْد، وتُمَدُّ لهم صحائفُ يومٍ آخر، ليملأَ كلُّ امرئ صحيفته بما شاء.   وكلُّ يومٍ مضى.. لا ليس يُرتَجَعُ .. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} جعل الليل والنهار خِلفةً.. يخلف بعضها بعضاً، فإذا أقبل الليل ترحل النهارُ.. وإذا أقبل النهارُ ترحل الليل {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}  {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}

وللعباد في ليلهم ونهارهم.. أعمالٌ وقرباتٌ ، فمن أساء في ليله، فليستعتب في نهاره،   ومن أساء في نهاره فليستعتب في ليله، فإن الله بالناس لرءوف رحيم،  عن أبي موسَى الأشْعريِّ t عن النَّبيّ r قَالَ: «إنَّ الله تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها» رواه مسلم

عباد الله: وأكمل الناس عقلاً.. من ابتدر العمر قبل انقضائه، واستبق الحياة قبل زوالها، وتزودَ من صالح العمل لداره الأخرى {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} فما يقدمه المرء في يومه.. سيجده حاضراً يوم حشره ونشره {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}

قال ابن الجوزي ــ رحمه الله ــ : (ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل)

وكان ابن مسعود t يقول: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه عمري ولم يزد فيه عملي)

إذَا مَرَّ بِي يَوْمٌ وَلَمْ أَسْتَفِدْ هُدًى  **  وَلَمْ أَكْتَسِبْ عِلْمًا فَمَا ذَاكَ مِنْ عُمْرِي

أيها المسلمون: وإذا ما تجاهلَ المرءُ قيمةَ الحياةِ، وتَعَامَى عن قيمةِ الوقتِ، صيرَ حياته مسرحاً للجهالة، وميداناً للهوى، فهو في كل قاع يرتع، ينفتل من معصية إلى معصيةٍ، وينقلب من تفريطٍ إلى آخر.

وقد نادى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله على من يعقلُ فقال: (إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما)  إن الليل والنهار يعملان على انقضاء عمرك وتبدد حياتك، فاعمل فيهما عملاً به من الخيرات تغنم، وبه من المكاره تسلم.   وَلَـحِفاظُ المرءِ على وقته، أعظم من حفاظه على ماله، فالوقت هو الحياة، والحياة هي التي تُبْنى بها منازل الآخرة.

وَمَا الْمَرْءُ إِلاَّ رَاكِبٌ ظَهْرَ عُمْرِه ... عَلَى سَفَرٍ يُفِنْيِه بِاليَوْمِ وَالشَّهْرِ

يَبِيْتُ وَيُضْحِى كَل يَومٍ وَلَيْلَةٍ ... بَعِيْدًا عَنْ الدُّنْيَا قَرَيْبًا إِلَى القَبْرِ

قال ابن عقيل رحمه الله : (وإنَّ أَجَلَّ تَـحْصِيلٍ عند العقلاء، بإجماع العلماء: هو الوقت فهو غنيمة تُنْتَهَزُ فيها الفُرَصُ، فالتكاليفُ كثيرةٌ، والأوقاتُ خاطفة) عن ابن عباس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم : «نِعْمَتَانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالفَرَاغُ» رواه البخاري

فالصحة.. فيها القوةُ والقدرة على فعل العمل.  والفراغ.. فيه التخلصُ من شواغل البال وعوائق الدنيا.  فمن أدرك هاتين النعمتين فلم يكسب فيهما خيراً، فهو بحقٍ مغبونٌ. قد بَخَسَ نفسَهُ بخساً، إذ باع أغلى ما يملك بأدنى ثمن.  {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}

وما اغتنمَ عبدٌ وَقْتَهُ واستثمرَ حياتَه.. إلا بِصِدْقِ مُحَاسَبَتِهِ لِنَفْسِهِ، واستشعارِه لحقارةِ الدنيا وسرعةِ زوالِها، وجلالةِ الآخرةِ وخلودِها ودومِ مُقامِها. وأنَّ مَنْ عَمِلَ صالحاً فلنفسِه وَمَنْ أساءَ فعليها. وقد قال اللهُ وَصَدَقَ الله: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} بارك الله لي ولكم..


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الكريم صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:   فاتقوا الله عباد الله.. فإن تقوى الله هي السعادة وهي الفلاح، وهي الفوز وهي النجاة.

أيها المسلمون: ولئن كان ضياعُ العمرِ وتبديدُ الأوقاتِ في غير طاعةٍ غبنٌ وخسارة،  فإن ضياعَ مواسمِ الخيرِ بالغفلةِ والملهياتِ حسراتٌ وندم.  فَشَهْرُ رَمَضَانَ شهرٌ عظيمٌ ليس كغيره من الشهور، أَضْفَى اللهُ فِيه بركةً غامِرةً.. فضاعَفَ فيه للمحسنين الأجرَ والحسنات، وكَفَّرَ عنهم فيه الأوزار والسيئات. هو هِبَةٌ من الله للأحياءِ ليزدادوا فيه إيماناً مع إيمانِهم، وثواباً به إلى ربهم يزدلفون.    وإنَّ حَيّاً لمْ يَتَفَطَّنْ لِـهذهِ النعمةِ وَقتَ حُلُولِها، ولم يَبْتَدِرْهَا قَبْلَ رَحِيْلِها، حريٌ أن يَعَضَّ أصابِع الندمِ يومَ تُبلى السرائرُ.

عباد الله: ولئن كان أعظمُ عملٍ يُقضى به نهارُ هذا الشهرِ هو الصيام، فإن أعظمَ عملٍ يُقضى به ليلُه هو التهجدُ والقيام.   

وصلاةُ التراويحِ شُرِعَت للمسلمين في رمضانَ، وهي من أجل العبادات وأكرم القُرُبات {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} وفي الحديث أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه) متفق عليه   وَمِنْ عَظِيمِ فَضْلِ اللهِ على عبادِه أن (مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ) رواه الترمذي وغيره يقومُ المسلمُ في صلاة التراويحِ مع الإمامِ من أولِ الصلاةِ حتى ينصَرِفَ الإمام بإتمامها. فَيَكتُبُ الله لهم بذلك أجرَ قيامِ ليلةٍ كاملة. فمَن كان قيامُهُم بصلاةِ التراويحِ أتَمُّ وأكمل، كان ثوابُهم من اللهِ أتَمُّ وأجزل.  

عباد الله: وفي شهرُ رمضان.. اعتادَ كثيرٌ من المسلمين أن يُخرجوا زكاةَ اموالِهم، والزكاةُ فريضة الله عليهم في الأموال. وهي ركن من أركانِ الإسلامِ، قرنها الله بالصلاةِ في كثير من الآيات {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}

والزكاةُ لها شروطٌ وأحكام تتعلق بها، بَسَطَها أهلُ العلمِ في مؤلفاتِهم وفي دروسهم.     إلا أنًّ على المسلمِ أن يعلمَ أنه ليس لشهر رمضانَ ارتباطٌ بوقتِ إخراج الزكاة، فالزكاةُ في الأموالِ تجب إذا حال عليها الحول ــ أي سنةٌ كاملة ــ .  

ويجب على المسلمِ أن يعتني بأمر الزكاةِ، وأن يُـحْصِيَ ما يـَجِبُ عليه فيها، فيخرجَه كاملاً موفوراً، فإن المالَ مالُ اللهِ أودَعَه في يدِ عبدِه ليبتليه، والله محاسبٌ كُلَّ عبدٍ عما مَلَك.   كما يجب على المسلم أن لا يدفع زكاةَ مالِه لغيرِ مَن قضى الله لهم بها، وهم أهلُ الزكاةِ الذين بينهم الله في كتابِه.

كما أَنَّ على المسلمِ أن يجتهدَ في تحري الصوابَ في موضعِ زكاةِ مالِه، فلا يُعْطِيها إلا لمن يستحقُها حقاً، ولا يَسْتَأَمِنْ عليها إلا الأمينَ صدقاً، وأن لا يتهاونَ في ذلك.

كما أن عليه أن يتفقدَ أحوالَ مَن حَوْلَه من الجيران والأقربين، فَكَم مِن قريبٍ محتاجٍ تَخطَتْهُ زكاةُ الأقربين إلى الأبعدين.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.

المرفقات

1618494108_قيمة الحياة.. رمضان بين يديك.doc

المشاهدات 1079 | التعليقات 0