قيام الليل والعشر الأواخر
د. منصور الصقعوب
1432/09/17 - 2011/08/17 10:44AM
حينما تظلم العين ويسكن الطير ويخيم الظلام يخلو كل قرين بقرينه, يلتحف كل امريء فراشه, يأوي كل إنسان إلى مأواه, ولكن ثمة أقوام أطار الخوف نومهم, وحرك الشوق قلوبهم, فهجروا فرشهم وتجافوا عن مضاجعهم وخلوا بربهم, أقوام إذا حل الظلام حصلوا على نورٍِ مصدره من الملك العلام, إنهم المتهجدون المصلون بالليل والناس نيام.
الليل ميدان ذوي الهمم العالية من أصحاب العبادات والدعوات، هو الزاد الصالح لرحلة الحياة، أما الذين يحبون العاجلة، فصغار الهمم صغيرو المطالب، يغرقون في العاجلة، وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ، وفي هذا يقول بعض السلف: "كيف يرجو النجاة من سوء الحساب من ينام الليل ويلهو بالنهار؟!!".
صلاة الليل بها يعان المرء على الأعباء, ويرتاح من العناء, قال الله لنبيه وقد أخبره بثقل القول المنزل عليه (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وطئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً)
هي سمت الصالحين وعبادة القانتين, كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون
صلاة الليل يحيا بها - بإذن الله - ميِّت القلوب، وتشحَذ بها فاتر الهمم، هي قربةٌ إلى الله، ومنهاةٌ عن الإثم، وتكفيرٌ للسيئات، ومطردةٌ للداء عن الجسد، وفي الحديث: ((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم)) يقول وهب بن منبه رحمه الله: "قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعزُّ به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون الجنة" ويقول ابن عباس {: (من أحب أن يهوِّن الله عليه طول الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الله ساجداً وقائماً، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه)
حينما يبيت الناس نياماً فإن عباد الرحمن يبيتون لربهم سجداً وقياماً، انتزعوا نفوسهم من وثير الفرش، وهدوء المساكن، وسكون الليل، وسكون الكون، غالبوا هواتف النوم، وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعد الله، والخوف من وعيده
للصلاة الليل عندهم أسرارها، وللأذكار في نفوسهم حلاوتها، وللمناجاة عندهم لذّتها، يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: "أهل الليل في ليلهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا" ، ولما حضرت ابن عمر { الوفاة قال: (ما آسى على شيء من الدنيا إلا عن ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل).
وحينما تتجافى جنوب أقوام في السهر على المحرمات وفي ضياع الأوقات فإن لله عباداً (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فلما أخفوا عملهم بالليل أخفى الله ثوابهم في الجنة وقال فلا تعلم نفس.
لا سواء بين من قام لدنياه أو نام ولم يقم لمولاه وبين من قام لربه ووقف بين يديه (مَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )
من قام الليل مع أهله كتب من الذاكرين, « إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا فِى الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ »
دعا النبي بالرحمة لمن قام وأقام أهله فقال « رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِى وَجْهِهَا الْمَاءَ رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِى وَجْهِهِ الْمَاءَ »
من أراد القرب من الله فأقرب ما يكون في هزيع الليل, في الحديث" أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن"
معشر الكرام: وحينما عرف الصالحون هذه الفضائل كان لهم مع الليل شأن,
وسيد هؤلاء رسول الله وهو الذي قام حتى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ, وفي رواية"كان يُصَلِّي حَتَّى تَزْلَعَ قَدَمَاه" وعند ابن حبان أن عبيد بن عميرٍ قال لعائشة أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فسكتت ثم قالت : لما كان ليلة من الليالي قال : ( يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي ) قلت : والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك قالت : فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت : فلم يزل يبكي حتى بل حجره قالت : ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته قالت : ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر ؟ قال : ( أفلا أكون عبدا شكورا لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها { إن في خلق السموات والأرض } وأما في رمضان فقد صلى بأصحابه ليلة حتى كاد يفوتهم السحور وكان في العشر يحيي الليل كله, ويوقظ فيها كل صغير وكبير قادر على الصلاة.
وعلى هذا درج الصالحون, فكانوا بالليل رهباناً وبالنهار فرساناً, إذا جاء الليل فرحوا, لأنه وقت المناجاة والوقوف بين يدي رب الأرض والسماوات, فلو رأيتهم ولهم في البيوت ضجة وفي الليل صوت ورجة, فهذا يرتل وهذا ينتحب ويدمع وهذا يسجد ويركع, قال أبو الزناد: كنت أخرج قبيل الفجر إلى مسجد النبي r فلا أمر ببيت إلا وفيه قارئ.
وقال الحسن: لقد صحبت أقواما يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجدا وقياما يقومون هذا الليل على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم ، فمرة ركعا ومرة سجدا يناجون ربهم في فكاك رقابهم ، لم يملوا طول السهر لما خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع ، فأصبح القوم بما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين ، وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين
وقال الأوزاعي: كان السلف إذا انصدع الفجر أو قبله بشيء قليل كأن على رؤوسهم الطير مقبلين على أنفسهم حتى لو أن حميماً لأحدهم قد غاب عنه حيناً ثم قدم ما التفت إليه, كانوا يعتبون على من لا يصلي إلا الفجر, فماذا يقول من يفوت حتى الفجر؟! باع حسن بن صالحٍ جارية فلما صارت عند الذي اشتراها قامت في جوف الليل فقالت يا أهل الدار الصلاة الصلاة فقالوا طلع الفجر؟ قالت وليس تصلون إلا المكتوبة, قالوا نعم ليس نصلى إلا المكتوبة فرجعت إلى حسنٍ فقالت بعتني من قوم سوء ليس يصلون بالليل, وقد قال عمن نام الليل حتى طلع الصبح ولم يصل لربه في الليل "ذاك رجل بال الشيطان في أذنه" وكان من وصاياهم لمن رغب في القيام: "لا تعصه بالنهار، وهو يقيمك بين يديه في الليل, فاللهم اعصمنا من الشيطان ووفقنا للصيام والقيام بما يرضيك عنا يا ذا الجلال والإكرام.
الخطبة الثانية:
معشر الصائمين القائمين: وأنتم في شهر القيام والتراويح, وأنتم قد أظلتكم العشر الأواخر, فما هو نصيب قيام الليل من ليلنا هل نحافظ على التراويح هل عزمنا على صلاة التهجد والقيام في العشر هل لنا ورد من الصلوات فيما بين ذلك, إن هذه الليالي فرصة للمرء أن يسلك نفسه في سلك أهل التهجد والقيام, ويدخل في زمرة أهل الليل, صلاة التراويح, وفي العشر الأواخر التهجد يقتطعها المرء من وقته, يفارق أهله وأصحابه, يدع بيته ويلجأ لبيت ربه, يصلي لله في أشرف الليالي, والله شكور إذا تركت لأجله عوضك, وكريم إذا قربت منه كرمت, وجواد إذا سألته أعطاك, من قام مع الإمام الصلاة في رمضان حتى ينصرف كتب الله كأنما أمضى الليل كله قائماً, ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدم من ذنوبه, ومن قام رمضان أدرك ليلة القدر التي ينال شرفها وفضلها بقيامها " من قام ليلة القدر إيمانا.."
معشر المسلمين: ما بالنا نستطيل القيام, ما بال البعض همه من يخرج أولاً من الصلاة, إنك في خير ولن نجد موطناً أشرف من موطن نناجي فيه الله, قال الأعرج " كانوا يقرؤون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أنه قد خفف" وقال السائب بن زيد" كان القارىء يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصى من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر" نعم؛ على الإمام أن يراعي المأمومين, ولكن على المأمومين أن يكونوا عوناً للإمام, وعلى الإمام أن لا يكون همه التخفيف الزائد فيذهب بهاء التراويح, في ظل بعض التسابق في الأسرع انصرافاً وانتهاءً .
أيها الكرام: إنكم مقبلون على عشر هي أعظم أيام شهركم فضلاً وأرفعها قدرًا وأكثرها أجرًا، تصفو الأوقات فيها للذيذ المناجاة، وتسكب العبرات بكاءً على السيئات، فكم لربّ العزة من عتيق من النار، كم من شقي سعد وأسير للذنوب عتق ومطيع كتب من أهل الدور العلى, فلا تفتك هذه الفرصة الثمينة ، فما هي إلا ليالٍ معدودة ربما يدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى، فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة، وإنه لمن الحرمان العظيم أن ترى من انشغل فيها بمضيعات الأوقات.
معشر الكرام:ها أنتم في الميدان فجدوا, هاهو الكريم يفتح أبوابه فبادروا, ها هي الجنة قد فتحت فالمهر قدموا, ها هي العشر قد دنت فنافسوا, ها هو الشهر قد بدا نقصه فاستدركوا, كفانا تقصيراً وتفريطاً, شد العزم في العشر, فهي الغنيمة للأحياء وهي الأمنية للأموات وهي الفرصة لطالبي الجنة, اعتكف فيها إن قدرت, فتلك سنة المصطفى , أحي الليل ما استطعت, أكثر من القرآن, وداوم على الطاعات, واستغل الموسم, ولا تفتك ليلة القدر, فهي خير من ألف شهر.
يا فوز عبد قد رآها مرة في عمره إذ أدرك المأمولا.
أيها الراقد ذا الليل التمام قم بجدً فالليالي في انصرام
وتقرب بصلاةٍ وصيام وابتهل لله في جنح الظلام
فعسى تلحق بالقوم الكرام
أيها الراقد كم هذا الكرى إن أهل الله جدوا في السرى
طلقوا الدنيا ومروا زمرا أفترضى أن تبقى ورى
فاستعن بالله وانهض باهتمام
أيها الراقد كم هذا الرقاد قم بإخلاص وبجد واجتهاد
وتزود فالتقى أفضل زاد إن أهل الجد فازوا بالمراد
من يطع مولاه يظفر بالمراد
الليل ميدان ذوي الهمم العالية من أصحاب العبادات والدعوات، هو الزاد الصالح لرحلة الحياة، أما الذين يحبون العاجلة، فصغار الهمم صغيرو المطالب، يغرقون في العاجلة، وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ، وفي هذا يقول بعض السلف: "كيف يرجو النجاة من سوء الحساب من ينام الليل ويلهو بالنهار؟!!".
صلاة الليل بها يعان المرء على الأعباء, ويرتاح من العناء, قال الله لنبيه وقد أخبره بثقل القول المنزل عليه (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وطئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً)
هي سمت الصالحين وعبادة القانتين, كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون
صلاة الليل يحيا بها - بإذن الله - ميِّت القلوب، وتشحَذ بها فاتر الهمم، هي قربةٌ إلى الله، ومنهاةٌ عن الإثم، وتكفيرٌ للسيئات، ومطردةٌ للداء عن الجسد، وفي الحديث: ((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم)) يقول وهب بن منبه رحمه الله: "قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعزُّ به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون الجنة" ويقول ابن عباس {: (من أحب أن يهوِّن الله عليه طول الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الله ساجداً وقائماً، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه)
حينما يبيت الناس نياماً فإن عباد الرحمن يبيتون لربهم سجداً وقياماً، انتزعوا نفوسهم من وثير الفرش، وهدوء المساكن، وسكون الليل، وسكون الكون، غالبوا هواتف النوم، وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعد الله، والخوف من وعيده
للصلاة الليل عندهم أسرارها، وللأذكار في نفوسهم حلاوتها، وللمناجاة عندهم لذّتها، يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: "أهل الليل في ليلهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا" ، ولما حضرت ابن عمر { الوفاة قال: (ما آسى على شيء من الدنيا إلا عن ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل).
وحينما تتجافى جنوب أقوام في السهر على المحرمات وفي ضياع الأوقات فإن لله عباداً (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فلما أخفوا عملهم بالليل أخفى الله ثوابهم في الجنة وقال فلا تعلم نفس.
لا سواء بين من قام لدنياه أو نام ولم يقم لمولاه وبين من قام لربه ووقف بين يديه (مَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )
من قام الليل مع أهله كتب من الذاكرين, « إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا فِى الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ »
دعا النبي بالرحمة لمن قام وأقام أهله فقال « رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِى وَجْهِهَا الْمَاءَ رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِى وَجْهِهِ الْمَاءَ »
من أراد القرب من الله فأقرب ما يكون في هزيع الليل, في الحديث" أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن"
معشر الكرام: وحينما عرف الصالحون هذه الفضائل كان لهم مع الليل شأن,
وسيد هؤلاء رسول الله وهو الذي قام حتى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ, وفي رواية"كان يُصَلِّي حَتَّى تَزْلَعَ قَدَمَاه" وعند ابن حبان أن عبيد بن عميرٍ قال لعائشة أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فسكتت ثم قالت : لما كان ليلة من الليالي قال : ( يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي ) قلت : والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك قالت : فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت : فلم يزل يبكي حتى بل حجره قالت : ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته قالت : ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر ؟ قال : ( أفلا أكون عبدا شكورا لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها { إن في خلق السموات والأرض } وأما في رمضان فقد صلى بأصحابه ليلة حتى كاد يفوتهم السحور وكان في العشر يحيي الليل كله, ويوقظ فيها كل صغير وكبير قادر على الصلاة.
وعلى هذا درج الصالحون, فكانوا بالليل رهباناً وبالنهار فرساناً, إذا جاء الليل فرحوا, لأنه وقت المناجاة والوقوف بين يدي رب الأرض والسماوات, فلو رأيتهم ولهم في البيوت ضجة وفي الليل صوت ورجة, فهذا يرتل وهذا ينتحب ويدمع وهذا يسجد ويركع, قال أبو الزناد: كنت أخرج قبيل الفجر إلى مسجد النبي r فلا أمر ببيت إلا وفيه قارئ.
وقال الحسن: لقد صحبت أقواما يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجدا وقياما يقومون هذا الليل على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم ، فمرة ركعا ومرة سجدا يناجون ربهم في فكاك رقابهم ، لم يملوا طول السهر لما خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع ، فأصبح القوم بما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين ، وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين
وقال الأوزاعي: كان السلف إذا انصدع الفجر أو قبله بشيء قليل كأن على رؤوسهم الطير مقبلين على أنفسهم حتى لو أن حميماً لأحدهم قد غاب عنه حيناً ثم قدم ما التفت إليه, كانوا يعتبون على من لا يصلي إلا الفجر, فماذا يقول من يفوت حتى الفجر؟! باع حسن بن صالحٍ جارية فلما صارت عند الذي اشتراها قامت في جوف الليل فقالت يا أهل الدار الصلاة الصلاة فقالوا طلع الفجر؟ قالت وليس تصلون إلا المكتوبة, قالوا نعم ليس نصلى إلا المكتوبة فرجعت إلى حسنٍ فقالت بعتني من قوم سوء ليس يصلون بالليل, وقد قال عمن نام الليل حتى طلع الصبح ولم يصل لربه في الليل "ذاك رجل بال الشيطان في أذنه" وكان من وصاياهم لمن رغب في القيام: "لا تعصه بالنهار، وهو يقيمك بين يديه في الليل, فاللهم اعصمنا من الشيطان ووفقنا للصيام والقيام بما يرضيك عنا يا ذا الجلال والإكرام.
الخطبة الثانية:
معشر الصائمين القائمين: وأنتم في شهر القيام والتراويح, وأنتم قد أظلتكم العشر الأواخر, فما هو نصيب قيام الليل من ليلنا هل نحافظ على التراويح هل عزمنا على صلاة التهجد والقيام في العشر هل لنا ورد من الصلوات فيما بين ذلك, إن هذه الليالي فرصة للمرء أن يسلك نفسه في سلك أهل التهجد والقيام, ويدخل في زمرة أهل الليل, صلاة التراويح, وفي العشر الأواخر التهجد يقتطعها المرء من وقته, يفارق أهله وأصحابه, يدع بيته ويلجأ لبيت ربه, يصلي لله في أشرف الليالي, والله شكور إذا تركت لأجله عوضك, وكريم إذا قربت منه كرمت, وجواد إذا سألته أعطاك, من قام مع الإمام الصلاة في رمضان حتى ينصرف كتب الله كأنما أمضى الليل كله قائماً, ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدم من ذنوبه, ومن قام رمضان أدرك ليلة القدر التي ينال شرفها وفضلها بقيامها " من قام ليلة القدر إيمانا.."
معشر المسلمين: ما بالنا نستطيل القيام, ما بال البعض همه من يخرج أولاً من الصلاة, إنك في خير ولن نجد موطناً أشرف من موطن نناجي فيه الله, قال الأعرج " كانوا يقرؤون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أنه قد خفف" وقال السائب بن زيد" كان القارىء يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصى من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر" نعم؛ على الإمام أن يراعي المأمومين, ولكن على المأمومين أن يكونوا عوناً للإمام, وعلى الإمام أن لا يكون همه التخفيف الزائد فيذهب بهاء التراويح, في ظل بعض التسابق في الأسرع انصرافاً وانتهاءً .
أيها الكرام: إنكم مقبلون على عشر هي أعظم أيام شهركم فضلاً وأرفعها قدرًا وأكثرها أجرًا، تصفو الأوقات فيها للذيذ المناجاة، وتسكب العبرات بكاءً على السيئات، فكم لربّ العزة من عتيق من النار، كم من شقي سعد وأسير للذنوب عتق ومطيع كتب من أهل الدور العلى, فلا تفتك هذه الفرصة الثمينة ، فما هي إلا ليالٍ معدودة ربما يدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى، فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة، وإنه لمن الحرمان العظيم أن ترى من انشغل فيها بمضيعات الأوقات.
معشر الكرام:ها أنتم في الميدان فجدوا, هاهو الكريم يفتح أبوابه فبادروا, ها هي الجنة قد فتحت فالمهر قدموا, ها هي العشر قد دنت فنافسوا, ها هو الشهر قد بدا نقصه فاستدركوا, كفانا تقصيراً وتفريطاً, شد العزم في العشر, فهي الغنيمة للأحياء وهي الأمنية للأموات وهي الفرصة لطالبي الجنة, اعتكف فيها إن قدرت, فتلك سنة المصطفى , أحي الليل ما استطعت, أكثر من القرآن, وداوم على الطاعات, واستغل الموسم, ولا تفتك ليلة القدر, فهي خير من ألف شهر.
يا فوز عبد قد رآها مرة في عمره إذ أدرك المأمولا.
أيها الراقد ذا الليل التمام قم بجدً فالليالي في انصرام
وتقرب بصلاةٍ وصيام وابتهل لله في جنح الظلام
فعسى تلحق بالقوم الكرام
أيها الراقد كم هذا الكرى إن أهل الله جدوا في السرى
طلقوا الدنيا ومروا زمرا أفترضى أن تبقى ورى
فاستعن بالله وانهض باهتمام
أيها الراقد كم هذا الرقاد قم بإخلاص وبجد واجتهاد
وتزود فالتقى أفضل زاد إن أهل الجد فازوا بالمراد
من يطع مولاه يظفر بالمراد
د. منصور الصقعوب
للرفع لمناسبة الوقت أعاننا الله وإياكم على الصيام والقيام
تعديل التعليق