قوة إلى قوتكم .. العشر الأواخر

عبدالعزيز بن محمد
1442/09/17 - 2021/04/29 11:49AM

أيها المسلمون: شريعةٌ سماويةٌ ودينٌ قويم، وهِدَايَةٌ رَبَّانيةٌ وصِرَاطٌ مُسْتَقِيْم، طُمأنينةٌ وسكينةٌ وسعادةٌ وانشراح. عبوديةٌ لله خالصةٌ، واستجابةٌ لله كاملة، وخضوعٌ لله تامّ.

دينٌ ارتضاه الله لعبادِه فأكمَلَهُ. حمى حُدُوْدَه، وصانَ أحكامَهُ، وحفظَ دستورَه. قرآنٌ من الله يُتلى، وحكمةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم تُفَصِّلُ وتُبَيِّن {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

دينٌ.. أرسى قواعدَ القوةِ وأحكمَ دعائمها، وشيدَ صروحَها وذللُ مسالِكَها. قوةٌ بها النفوسُ تتألقُ، وبها الأُمم تسودُ، وبها المطالِبُ تتَحققُ، وبها المكارِم تُعْتَلى.

ومَن لم يَكُن له قوةٌ تنهض به، لن يكون له شرفٌ يفخرُ به. والقوةُ.. مطلبٌ من مطالبِ الشريعةِ.. بها كان الاصطفاءُ لبعض الأفرادِ والأمم، {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) رواه مسلم

 قوةٌ إيمانٍيةٌ وقوةُ بدنيةٌ، قوةُ حِسيةٌ وقوةٌ معنوية، قوتان متآزرتان لا غنى لإحداهما عن الأخرى.   قوةٌ حسيةٌ تُقيمُ الهيبةَ وتحمي الجَناب. وتحفظُ الحقَّ وتنشر المعروف.  وقوةٌ أخرى هي قوةٌ معنويةٌ.. تنبعثُ من أعماقِ القلبِ، فينبِضُ بالطاقةِ والعطاء، ويرسو بالثباتِ والصمود.

عباد الله: وإن ديناً قضى الله له بالرفعةِ والبقاءِ والخلود.. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أنَّى له أن يكونَ مصدراً للضعفً أو الوَهَنِ أو الخمول.  

فمبادئُ الإسلامِ وأحكامُهُ وأوامِرُهُ ونواهيه.. ليست تكاليفُ خاويةً، ولا طقوسَ لا معنى لها.  بل هي تشريعاتٌ إلهيةٍ لها حِكَمٌ ربَّانية. فالله تعالى شرعَ للعبادِ ما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادُهم. وما مِنْ تَشْرِيْعٍ في الإسلامِ إلا وهو مصدرٌ للقوةِ والبقاءِ والثبات.   يَتَعَبَّدُ المسلمُ لرَبِّه مخلصاً.. فيأتمِرُ بأمرِه وينتهي عن نهيه، ويعملُ بشريعته ويستمسكُ بدينه.. راضياً بالله رَاضياً. وبالإسلامِ ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم  فتتضاعفُ القوةُ في قلبِه وتزداد في جوارِحِه.

* فـ (الصلاةُ) التي يُقيمها المسلمُ ويحافظُ عليها.. هي رأسُ القوةِ المعنوية، سندٌ في مواجهةِ المدلهمات، وثباتٌ في طريق النائبات {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} قوةٌ تحمي النفسَ من الانزلاقِ في رذائل الأحوال، وتقيها من الانحطاط في رديءِ الأعمال {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}

* و(ذِكرُ الله) عبادةٌ يلازِمها العبدُ فيتحققُ بها القوةُ ويُنالُ بها الظفر، وما وَهَنَ قلبٌ كانَ لله ذاكِراً.   تُقبِلُ جحافِلُ الأعداءِ بجيوشٍ جرارة.  فيؤمرُ المؤمنُون إِبَّانَ مواجهتِهم لهم بالإكثارِ مِن ذكرِ الله،  فلا يزالون يذكرون الله، فلا تزالُ ترتفِعُ فيهم القوةُ المعنويةُ.. متضافرةً مع القوةِ الماديةِ التي أمِروا بإعدادها من قبل، حتى تكونَ الغلبةُ لهم بإذن الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

* و(ذِكرُ الله) قوةٌ قاهرةٌ وَحِصْنٌ حَصِيْن.. يُستعانُ بها على صَدِّ الأعداء، وبها تُقهرُ الشياطين، وفي فضلِ (مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ) قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ) رواه البخاري ومسلم   فأيُ قوةٍ ماديةٍ تملِكُها البشريةُ.  تستطيعُ أن تواجِهَ كيدَ الشيطانِ الرجيم. إنها شرائِعُ الدين.. هي للقوةِ قِوامٌ، وهي لها عِماد، وهي لها مدد.

* وهذا (الصيامُ) عبادةٌ تَبْنِيْ فِيْ النفوسِ مناعةً وشجاعةً وصمود. تنكسِرُ أمامها شهواتِ النفسِ الجامحة، وتنثني أمامَها أهواءُ النفسِ الطَّمُوْح. فَمَنْ ظَفِرَ بقوةٍ معنويةٍ يملكُ بها كَفَّ النفسِ عن الشهوات. تضاعفَت لديه القوةُ الحسيةُ التي يواجهُ بها الأعداءَ في الأزمات. وفي هذا المعنى قال ربنا سبحانه  {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}  

عباد الله: ولئن كان القيامُ بأمرِ الله مصدراً لمضاعفةِ القوةِ الحسيةِ والمعنوية.. فإنه ليس أوهنُ لهما، من الجرأةِ على حدودِ الله والجسارةِ على انتهاكِ حُرُماتِ الله. ذنوبٌ تقضي على القوةِ وتأتي على النِّعَم.

سارَ أقوياءٌ مترفون في سبيل المستكبرين، معرضين عن أمر الله، فقذفَ اللهُ الوَهَنَ في قلوبهمِ، فلم تنفَعُهُم يوم النِّزالِ قوةٌ {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ  يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} بارك الله لي ولكم..


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه اجمعين وسلم تسليماً أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم تفلحون.

أيها المسلمون: وأعظمُ قوةٍ.. قوةٌ يستعين بها العبدُ على القيامِ بأمرِ الله، يقفُ بها عند حدودِه، ويسارِعُ بها في مرضاتِه.   وَلَئنْ كانَ العبدُ مُفتقراً إلى هذه القوةِ في كُلّ أزمانِه، فإنه في زمن مضاعفة الحسناتِ إليها أشَدُّ افتقاراً .

يُبْصِرُ المؤمنُ مَوَاسِمَ الخيراتِ تُقْبِلُ عليه، تُزَفُّ إليه في ليالٍ مباركات.. عشرٌ هي أكرمُ عشرٍ يُدرِكُها الأحياء في أعمارِهم، فيها ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهر. مَن قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم مِن ذنبهِ. {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ}

فمَن وَهَنَ وضَعُفَ عن إحياءِ هذه الليالي المباركات.. بالصلاة والذكر والقيامِ وقراءة القرآن.. فَبُعداً لكلِّ قوةٍ يدرِكُها بَعدَ ذلك.

وَصَفَتْ عائشةُ رضي الله عنها حال رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: (كانَ إذَا دَخَلَ العَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ) رواه البخاري ومسلم

وكَمْ ممن أُوتي قوةً حسيةً ونشاطاً بدنياً.. وَهَنَ عن القيامِ بحقِّ هذه الليالي وعن الجدِّ في اغتنامِها، فبانَ غبنُه وظهرَت خسارَتُه.  وكمْ ممن ضَعُفَ جَسَدُه وَرَقَّ عَظْمُهُ.. أفاض الله عليه قوةَ إيمانٍ وصلاحِ قلبٍ.. فأعانه على اغتنامِ كُلِّ لحظةٍ من لحظاتِها. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}  واسألوا الله الإعانةَ.. فإنه هو المُستعانُ وهو المُعين {إياك نعبدُ وإياكَ نستعين}

وَمَنْ لَزِمَ كَنْزَ الجنةِ غَنِم.. عن أَبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قالَ: قَالَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (ألا أدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ فقلت: بلى يَا رسولَ الله قَال: (حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ) متفق عليه

من لزمَ قولَ (لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله) موقناً بها، مدركاً لمعناها، بأنه لا قدرةَ له على التحوُّلِ من حال إلى حال إلا بالله، وأنه لا قُوَّةَ له على إدراكِ كُلِّ مطلوبٍ ولا دفعِ كُلِّ مرهوبٍ إلا بالله.  مَن لزمَ هذه الكلمةَ.. أنالَه الله مِنهُ قوةً وعوناً ومدداً

عباد الله: هي أعمارُنا لا تزال بها فُسحةٌ.. وهي مواسمُ مضاعفة الحسناتِ بين أيدينا.. والمنايا تَخْتَرِم، والأرواحُ تُتَخَطَّف، والآجالُ مضروبة. والموعدُ الله، والمغبونُ حقاً مَن بُخِسَ الفوزَ في دارِ البقاء

فاستعينوا بالله واستقووا بِقُوَّتِه، وأحسنوا في أعمالكم فإن الله يُحِبُّ المحسنين. 

ومَنْ أخذَ أوامِرَ الدينِ بعزيمةٍ قوةٍ ونشاط، أورثَه الله عزاً وفلاحاً وفوزاً {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

اللهم أعنا على ذكرك.. اللهم قوِّ عزائمنا، وثبت قلوبناً،و..

المرفقات

1619696958_قوة إلى قوتكم.. العشر الأواخر.doc

المشاهدات 1536 | التعليقات 0