قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل

قواعد قرآنية
الشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل

مقدمة:
قال الدكتور حفظه الله:

"فهاؤم لمحاتٌ جلية، ووقفاتٌ ندية، مع مقاطع من آيات من كتاب الله العزيز، فيها حكم وعبر ودرر، عنونتهاب- (قواعد قرآنية)، نحاول فيها - إن شاء الله تعالى - أن نقف على جملٍ قصيرة من الجمل التي بُثّت في ثنايا القرآن، وهي على قصرها، حوت خيراً كثيراً، واشتملت على معانٍ جليلة، تمثل في حقيقتها قاعدة من القواعد، ومنهجا ومنهاجا، سواءً في علاقة الإنسان مع ربه، أو في علاقته مع الخلق، أو مع النفس.




إذا فهي قبس وضاء، وبدر منير، وسراج وهاج، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، فيقول الجملة الواحدة من كلمتين أو ثلاث، ثم تجد تحتها من المعاني ما يستغرق العلماء في شرحها صفحاتٍ كثيرة، فما ظنك بكلام الله جل وعلا الذي يهب الفصاحة والبلاغة من يشاء؟!





إن من أعظم مزايا هذه القواعد، الأجر المتكرر عند قراءتها وشمولها، وسعة معانيها، فليست هي خاصة بموضوع محدد كالتوحيد، أو العبادات مثلاً، بل هي شاملة لهذا ولغيره من الأحوال التي يتقلب فيها العباد، فثمة قواعدُ تعالج علاقة العبد بربه تعالى، وقواعدُ تصحح مقام العبودية، وسير المؤمن إلى الله والدار الآخرة، وقواعدُ لترشيد السلوك بين الناس، وأخرى لتقويم وتصحيح ما يقع من أخطاء في العلاقة الزوجية، إلى غير ذلك من المجالات، بل لا أبالغ إذا قلتُ - وقد تتبعتُ أكثر من مائة قاعدة في كتاب الله -: إن القواعد القرآنية لم تدع مجالاً إلا طرقته ولا موضوعا إلا ذكرته.




أخي المبارك: يروق للكثيرين استعمال واستخدام ما يعرف بالتوقيعات، لتكون همسة متكررة، ومعنى متجلٍ يتجدد، وتكون هذه التوقيعات إما بيتاً رائقا من الشعر أو كلمةً عذبة لأحد الحكماء، أو قطعةً مذهبةً من حديث شريف، وهذا كله حسن لا إشكال فيه، لكن ليتنا نفعّل ونوظف معاني القرآن من خلال تكرار القواعد القرآنية التي حفل بها كتابُ الله تعالى، فإن ذلك له فوائد كثيرة، منها:
1 - ربط الناس بكتاب ربهم تعالى في جميع شؤونهم وأحوالهم، ونيلهم الأجر عند كل قراءة أو كتابة لآية.
2 - ليرسخ في قلوب الناس أن القرآن فيه علاج لجميع مشاكلهم مهما تنوعت، تارةً بالتنصيص عليها، وتارة بالإشارة إليها من خلال هذه القواعد.
3 - أن تفعيل هذه القواعد القرآنية سيكون بديلاً عن كثير من الغث الذي ملئت بها توقيعات بعض الناس سواء في كلماتهم، أو مقالاتهم، أو معرفاتهم على الشبكة العالمية".


والدكتور حفظه الله قد ألقى هذه القواعد في إذاعة القرآن الكريم ولا زال مستمرا، وأحببت أن أجمع ما ألقاها من قواعد وعددها ثلاثا وأربعين.

وما سيلقيها مستقبلا من قواعد سأضيفها هنا إن شاء الله.


إليكم القواعد الذهبية في المرفق
المشاهدات 25716 | التعليقات 11

القاعدة الرابعة والأربعون: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)
د.عمر بن عبد الله المقبل 27/3/1431هـ


الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:


فهذه حلقة جديدة من حلقات هذه السلسلة القرآنية التي تتابع، لنتذاكر ـ في هذه الحلقة ـ شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، هي من أعظم القواعد التي تعين على تعبيد القلب لرب العالمين، وتربيته على التسليم والانقياد، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: 7].



وهذه القاعدة تدل دلالة واضحة ـ كما يقول أبو نعيم: في بيان شيء من خصائصه صلى الله عليه وسلم ـ على:
"أن الله تعالى فرض طاعته على العالم فرضاً مطلقاً لا شرط فيه، ولا استثناء، فقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وإن الله تعالى أوجب على الناس التأسي به قولاً وفعلاً مطلقاً بلا استثناء، فقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} واستثنى في التأسي بخليله، فقال: {لقد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم ـ إلى أن قال ـ إلا قول إبراهيم لأبيه}"(1).



ولقد دأب العلماء على الاستدلال بهذه القاعدة في جميع أبواب العلم والدين:
فالمصنفون في العقائد يجعلونها أصلاً في باب التسليم والانقياد للنصوص الشرعية، وإن خفي معناها، أو عسر فهمها على المكلف، قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا لم نقر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم رددنا على الله أمره، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2).



وفي أبواب الفقه: يعمد كثير من المفتين من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إلى النزع بهذه القاعدة في إيجاب شيء أو تحريمه، وإن شئت فقل: في الأمر بشيء أو النهي عنه، وإليك هذه القصة التي رواها الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه حينما حدّث وقال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله! قال: فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد يقال لها: أم يعقوب! ـ وكانت تقرأ القرآن ـ فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك؟ أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟ فقال عبدالله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته! فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}!



فقالت المرأة: فإني أرى شيئاً من هذا على امرأتك الآن قال اذهبي فانظري قال فدخلت على امرأة عبدالله فلم تر شيئاً! فجاءت إليه، فقالت: ما رأيت شيئاً! فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما لو كان ذلك لم نجامعها(3).



وهذا عبدالرحمن بن يزيد رحمه الله: يرى محرماً عليه ثيابه، فنهر المحرم، فقال: ائتني بآية من كتاب الله عز وجل بنزع ثيابي! فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.



وهذه قصة أخرى تؤكد وضوح هذا المعنى عند سلف الأمة رحمهم الله:
يقول عبد الله بن محمد الفريابي: سمعت الشافعي ببيت المقدس يقول: سلوني عما شئتم أخبركم عن كتاب الله، وسنة رسوله! فقلت: إن هذا لجرئ! ما تقول أصلحك الله في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: نعم بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(4).



ويقول محمد بن يزيد بن حكيم المستملي: رأيت الشافعي في المسجد الحرام، وقد جعلت له طنافس، فجلس عليها، فأتاه رجل من أهل خراسان، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في أكل فرخ الزنبور؟ فقال: حرام.
فقال: حرام؟! قال: نعم من كتاب الله، وسنة رسول الله، والمعقول، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (5).



أيها الإخوة الكرام:

إن هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} لتدل بمفهومها على ضرورة حفظ السنة، حفظها من الضياع، وحفظها في الصدور، إذ لا يتأتى العمل بالسنة إلا بعد حفظها حساً ومعنى: قال إسماعيل بن عبيدالله رحمه الله: ينبغي لنا أن نحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحفظ القرآن لأن الله يقول: {وما أتاكم الرسول فخذوه}(6).



وأما الحفظ المعنوي: فإن جهود أئمة الحديث من عهد الصحابة رضي الله عنهم ومن تلاهم من التابعين والأئمة لا تخفى على أدنى مطلع، وليس هذا مقام الحديث عن هذا الموضوع، وإنما المقصود: التنبيه على أن الحفظ الذي تحقق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم على أيدي هؤلاء قد قام به أئمة الإسلام خير قيام، فلم يبق على من بعدهم إلا حفظ ألفاظها، والتفقه في معانيها، والعمل بمقتضاها، إذ هذا هو المقصود الأعظم من ذلك كلّه.



معشر القراء الفضلاء:

إن في الآثار التي سقت بعضها وتركتُ كثيراً منها لدلالةً على شمول الآية لجميع الأوامر سواء كانت واجبة أم مستحبة، وشاملة لجميع النواهي سواء كانت محرمة أم مكروهة.



ومن تأمل واقع الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وجدهم أصحاب القدح المعلى في تلقي الأوامر والنواهي بنفوسٍ مُسلِّمة، وقلوب مخبتة، ومستعدة للتنفيذ، ولا تجد في قاموسهم تفتيشا ولا تنقيباً: هل هذا النهي للتحريم أم للكراهة؟ ولا: هل هذا الأمر للوجوب أم للاستحباب؟ بل ينفذون ويفعلون ما يقتضيه النص، فأخذوا هذا الدين بقوة، فصار أثرهم في الناس عظيماً وكبيراً.



ولما طغى على الناس ـ في القرون المتأخرة ـ كثرة السؤال والتنقيب: هل هذا الأمر واجب أم مستحب؟ وهل هذا مكروه أم محرم؟ صار أخذهم لأوامر الله ونواهيه ضعيفاً، فصار أثر التعبد لله هزيلاً، والانقياد عسيراً.



أيها الإخوة الفضلاء:

إنني لا أنكر انقسام الأوامر إلى واجب ومستحب، ولا أنكر انقسام النواهي إلى محرم ومكروه، ولا يُنكر أن الإنسان قد يحتاج إلى تفصيل الحال ـ عند وقوع المخالفة ـ ليتبين حكم الله، وما يجب عليه من كفارة ونحو ذلك، لكن الذي يؤسف عليه: أن أكثر الذين يسألون عن هذا التقسيم، ليس مرادهم طلب العلم وتحرير المسائل، بل التملص، والتنصل من الامتثال، وإلى هؤلاء يتوجه الحديث في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.



إنني موقن ـ أيها الإخوة ـ أن من ربى نفسه على ترك كل ما ينهى عنه، وفعل كل ما يستطيعه من الأوامر، من غير تنقيب عن حال هذا النهي أو ذاك الأمر، بل يبادر تعبداً لله تعالى بتعظيم الأمر والنهي، فإنه سيجد لذة عظيمة في قلبه، إنها لذة العيش في كنف العبودية، وظِلِّ الاستكانة والاستجابة والخضوع لله رب العالمين.



أيها الإخوة:

ومن أعظم دلالات هذه القاعدة ـ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ـ أنها ترد على أولئك الذين يزعمون الاكتفاء بالقرآن فقط في تطبيق أحكام الشريعة، فهاهو القرآن ذاته يأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولن يكون ذلك إلا باتباع سنته، بل كيف يتأتى للإنسان أن يصلي، أو يزكي، أو يصوم، أو يحج بمجرد الاقتصار على القرآن؟!

وإلى هنا ينتهي ما أردنا الحديث عنه في هذه القاعدة القرآنية المحكمة، وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.



_________________

(1) نقله السيوطي في الخصائص الكبرى (2 / 297).
(2) الإبانة لابن بطة (3 / 59).
(3) البخاري (4604)، مسلم (2125).
(4) تاريخ دمشق (51 /271).
(5) سير أعلام النبلاء (10/88).
(6) تاريخ دمشق (8/436).


القاعدة الخامسة والأربعون: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)
د.عمر بن عبد الله المقبل | 4/4/1431 هـ


الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:


فهذا مرفأ جديد من مرافئ مركبنا القرآني ليرسو على شاطئ من شواطئ هذه القواعد القرآنية، نتدارس فيها شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، يحتاجها كل مؤمن، وعلى وجه الخصوص من عزم على الإقبال على ربه، وقرع باب التوبة، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: 114].



وهذه القاعدة هي جزء من آية كريمة في سورة هود، يقول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود: 114]، وهذه الآية الكريمة سبقت بجملة من الأوامر العظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، يحسن ذكرها ليتضح الربط بينها، يقول تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}[هود: 112، 113].



ومعنى الآية ـ التي تضمنت هذه القاعدة باختصار ـ: أن الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ـ وهو خطاب للأمة كلها ـ بأن يقيموا الصلاة طرفي النهار، وساعاتٍ من الليل، ينصب فيها قدميه لله تعالى، ثم ذكر علّلَ هذا الأمر فقال: {إن الحسنات يذهبن السيئات} أي يمحونها ويكفرنها حتى كأنها لم تكن ـ على تفصيل سيأتي بعد قليل إن شاء الله ـ والإشارة بقوله: {ذلك ذكرى للذاكرين} إلى قوله: {فاستقم كما أمرت} وما بعده، وقيل: إلى القرآن، ذكرى للذاكرين: أي موعظة للمتعظين(1).



أيها القراء الأفاضل: وكما أن هذه القاعدة صرحت بهذا المعنى، وهو إذهاب الحسنات للسيئات، فقد جاء في السنة ما يوافق هذا اللفظ تقريباً، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنّه(2) من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"(3).



أيها الإخوة المؤمنون: إذا تبين معنى هذه القاعدة بإجمال، فليعلم أن إذهاب السيّئات يشمل أمرين:

1 ـ إذهاب وقوعها، وحبها في النفس، وكرهها، بحيث يصير انسياق النّفس إلى ترك السيّئات سَهْلاً وهيّناً كقوله تعالى: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها.



2 ـ ويشمل أيضاً محو إثمها إذا وقعت، ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها، فضلاً من الله على عباده الصالحين"(4).



ولقد بحث العلماء ههنا معنى السيئات التي تذهبها الحسنات، والذي يتحرر في الجمع بين أقوالهم أن يقال:

إن كانت الحسنة هي التوبة الصادقة، سواء من الشرك، أو من المعاصي، فإن حسنة التوحيد، والتوبة النصوح لا تبقي سيئة إلا محتها وأذهبتها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا}[الفرقان: 68 - 71].



وفي صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ـ لما جاءه يبايعه على الإسلام والهجرة ـ: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟" (5).



وإن كان المراد بالحسنات عموم الأعمال الصالحة كالصلاة والصيام، فإن القرآن والسنة دلّا صراحةً على أن تكفير الحسنات للسيئات مشروط باجتناب الكبائر، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: 31]، وقال عز وجل: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللّمَم}.



وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر"(6).



أيها الإخوة المؤمنون: إن هذه القاعدة الجليلة: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} والتي جاءت في مساق الحكم الشرعي، جاء معناها في القرآن الكريم على صور منها:

1 ـ في سياق الثناء على أهل الجنة ـ جعلني الله وإياكم من أهلها ـ قال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد: 22].
قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ في بيان معناها ـ: يدفعون بالصالحِ من العملِ السيئَ من العمل.
علق البغوي على كلمة ابن عباس، فقال: وهو معنى قوله: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}" (7).



2 ـ إثبات هذا المعنى في الأمم السابقة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[المائدة: 65].



3 ـ إثباته في سياق الحديث عن توبة العصاة، كما في آية الفرقان التي تلوتها قبل قليل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ... إلى قوله: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ... الآيات}[الفرقان: 68 - 71].



أيها المحبون لكتاب ربهم:

إن الأمثلة التطبيقية التي توضح وتؤكد معنى هذه القاعدة المحكمة: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} لكثيرة جداً، لكن لعلنا نذكر ما يسمح به وقت البرنامج، وأول ما نبدأ به من الأمثلة هو ما ذكره ربنا في الآية الكريمة التي تضمنتها هذه القاعدة، وهو:

1 ـ إقامة الصلاة طرفي النهار ـ وهو مبتدأه ومنتهاه ـ، وساعات من الليل، ولا ريب أن أول ما يدخل في هذه الصلوات الخمس، كما يدخل فيها: بقية النوافل، كالسنن الرواتب، وقيام الليل.
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تدل على أن الصلوات المفروضات والنوافل من أعظم الحسنات الماحية للسيئات، فإن السنة صرّحت بهذا ـ كما تقدم ـ بشرط اجتناب الكبائر.
فليبشر الذين يحافظون على صلواتهم فرضها ونفلها بأنهم من أعظم الناس حظاً من هذه القاعدة القرآنية: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، ويا تعاسة وخسارة من فرطوا في فريضة الصلاة!!



2 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة، ما رواه الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: أن رجلا أصاب من امرأة قُبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟! قال: "بل لجميع أمتي كلهم"(8).



3 ـ قصة توبة القاتل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً ـ وهي في الصحيحين ـ وهي قصة مشهورة جداً، والشاهد منها، أنه لما انطلق من أرض السوء إلى أرض الخير: "أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاه ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة"(9).



فإلى كل من أسرف على نفسه، وقنّطه الشيطان من رحمة ربه، لا تأيسنّ ولا تقنطن، فهذا رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فلما صحّت توبته، رحمه ربه ومولاه، مع أنه لم يعمل خيراً قط من أعمال الجوارح سوى هجرته من بلد السوء إلى بلد الخير.. أفلا تحرك فيك هذه القصة الرغبة في هجرة المعاصي، والإقبال على من لا سعادة ولا أنس إلا بالإقبال عليه؟!



وتأمل في هذه الكلمة المعبرة، التي قال الحسن البصري رحمه الله: "استعينوا على السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، وإنكم لن تجدوا شيئا أذهب بسيئة قديمة من حسنة حديثة، وأنا أجد تصديق ذلك في كتاب الله: {إن الحسنات يذهبن السيئات}(10).

اللهم ارزقنا حسناتٍ تذهب سيئاتنا، وتوبة تجلو أنوارها ظلمة الإساءة والعصيان، والحمد لله رب العالمين.



________________

(1) ينظر: فتح القدير 2/678.
(2) وفي بعض النسخ: صحيح، وقد استبعد هذا ابن رجب في تعليقه على هذا الحديث في "جامع العلوم والحكم" ح (18).
(3) الترمذي (1987) وقد رجح الدارقطني إرساله، وانظر تعليق ابن رجب عليه في "الجامع" ح (18).
(4) ينظر: التحرير والتنوير (7/284).
(5) مسلم (121).
(6) مسلم (233).
(7) تفسير البغوي (4/313).
(8) البخاري (503)، ومسلم (2763).
(9) البخاري (3283)، ومسلم (2766).
(10) تفسير ابن أبي حاتم (8/279).


القاعدة السادسة والأربعون: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)
د.عمر بن عبد الله المقبل | 11/4/1431 هـ


الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد بكم ومعكم في حلقة من حلقات هذه السلسلة: قواعد قرآنية، نقلب فيها شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، وثيقة الصلة بقضية مهمة في باب الصلة مع الله، ومع عباده، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}[البقرة: 197].

وهذه القاعدة القرآنية المحكمة، جاء ذكرها ضمن سياق آيات الحج، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

ويحسن قبل الشروع في مذاكرة هذه القاعدة، أن نوضح معنى الآية التي تضمنتها هذه القاعدة بإيجاز، فيقال:
1 ـ لما تقرر فرض فالحج، وذكرت بعض قبل هذه الآية ـ فيما يخص الإتمام والإحصار ـ بدأ الحديث عن جملة من الآداب والأحكام، ومنها: النهي عن الرفث "وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن، والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة"(1) فـ"لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعلا، حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم به، وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة"(2).

2 ـ وفي الإخبار بأنه ما من خير نفعله إلا وهو يعلمه سبحانه وتعالى، دلالة واضحة على أن هذا متضمن الإثابة على هذا، والحض عليه، وإلا فإنه سبحانه وتعالى يعلم الخير والشر، ونظير هذه القاعدة قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}[البقرة: 270].

3 ـ وفي قوله تعالى: {من خير} في سياق هذه الجملة الشرطية: {وما تفعلوا} دليل على شمول الآية لكل خير قليلاً كان أو كثيراً.

4 ـ ثم ختمت الآية بأمرين مهمين، تضمنهما قوله سبحانه وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}، ففي قوله تعالى: {وتزودوا} أي اتخذوا زاداً لغذاء أجسامكم، وغذاء قلوبكم -وهذا أفضل النوعين - لقوله تعالى: {فإن خير الزاد التقوى}، فلما رغب سبحانه وتعالى في التقوى، أمر بها طلباً لخيرها فقال تعالى: {واتقون يا أولي الألباب}، وإنما خوطب أصحاب العقول بهذا الخطاب ـ وهم أولوا الألباب ـ لأنهم هم الذين يدركون فائدة التقوى، وثمرتها؛ أما السفهاء فلا يدركونها"(3).

أيها المحبون لكتاب ربهم:

إن هذه القاعدة الجليلة، لتربي في المؤمن معاني إيمانيةٍ وتربوية كثيرة ـ وهو في سيره إلى الله والدار الآخرة ـ ولعلنا نلخص هذه المعاني فيما يلي:
أولاً: في هذه الآية ترغيب وحض على إخلاص العمل لله جلّ وعلا، وإن لم يطلع عليه أحد، بل إن الموفق من عباد الله من يحرص كل الحرص على إخفاء العمل عن الخلق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفي ذلك من الفوائد والعوائد على القلب والنفس الشيء الكثير، ولابن القيم كلمات تكتب بماء الذهب في هذا المعنى، حيث يقول:
"وكم من صاحب قلب وجمَعية وحال مع الله، قد تحدث بها، وأخبر بها، فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلب كفيه، ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله، وأن لا يطلعوا عليه أحداً، ويتكتمون به غاية التكتم، كما أنشد بعضهم في ذلك:
من سارروه فأبدى السر مجتهداً ***لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم *** وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
لا يأمنون مذيعا بعض سرهم *** حاشا وِدادِهِمُ من ذلكم حاشا
والقوم أعظم شيءٍ كتماناً لأحوالهم مع الله، وما وهب الله لهم من محبته والأنس به، وجمعية القلب عليه، ولا سيما للمبتدئ والسالك، فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطيبة ـ التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه، بحيث لا يخشي عليه من العواصف ـ فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله ليقتدي به ويؤتم به؛لم يبال، وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله"(4).

ثانياً: ومن المعاني التي تربيها هذه القاعدة: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} في نفوس أهلها:
راحة النفس، واطمئنان القلب، ذلك أن المحسن إلى الخلق، المخلص في ذلك لا ينتظر التقدير والثناء من الخلق، بل يجد سهولةً في الصبر على نكران بعض الناس للجميل الذي أسداه، أو المعروف الذي صنعه! فإنه إذا يفعل الخير ويوقن بأن ربّه يعلمه علماً يثيب عليه، هان عليه ما يجده من جحود ونكران، فضلاً عن التقصير في حقه، ولسان حاله ـ كما أخبر الله عن أهل الجنة ـ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9].
أعرف رجلاً مفضالاً، له شفاعات ووجاهات لنفع الخلق، وابتلي بأناس نسوا جميله، وتنكروا لمعروفه، بل شعر أن بعضهم طعنه من الخلف، أو قلب له ظهر المجن!
فذكرتُ له هذا المعنى ـ الذي ندندن حوله ههنا ـ فاستراح كثيراً.

ومع ما تقدم ذكره، فإني أهدي لإخواني ـ الذين منّ الله عليهم بالإحسان إلى الخلق وابتلوا بجفائهم ـ هذا النص النفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية:، حيث يقول في كلام طويل له حول هذا المعنى، قال رحمه الله:
"ولا يحملنك هذا على جفوة الناس؛ وترك الإحسان إليهم؛ واحتمال الأذى منهم؛ بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم؛ وكما لا تخفهم فلا ترجهم؛ وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله؛ وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله؛ وكن ممن قال الله فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}[الليل: 17 - 20]. وقال فيه: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]" (5).

وقال في موضع آخر: موصياً من يتصدى لنفع الخلق:
"وإذا أحسن إلى الناس فإنما يحسن إليهم: ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد من عليه بأن جعله محسناً، ولم يجعله مسيئاً، فيرى أن عمله لله وأنه بالله، وهذا مذكور في فاتحة الكتاب {إياك نعبد وإياك نستعين}... فالمؤمن يرى: أن عمله لله لأنه إياه يعبد وأنه بالله؛ لأنه إياه يستعين، فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكوراً؛ لأنه إنما عمل له ما عمل لله كما قال الأبرار { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]، ولا يمن عليه بذلك ولا يؤذيه، فإنه قد علم أن الله هو المان عليه إذ استعمله في الإحسان، وأن المنة لله عليه وعلى ذلك الشخص، فعليه هو: أن يشكر الله إذ يسره لليسرى، وعلى ذلك: أن يشكر الله إذ يسر له من يقدم له ما ينفعه من رزقٍ أو علمٍ أو نصر أو غير ذلك.

ومن الناس: من يحسن إلى غيره ليمن عليه، أو يرد الإحسان له بطاعته إليه، وتعظيمه أو نفع آخر، وقد يمن عليه، فيقول: أنا فعلت بك كذا، فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه، ولا عمل لله ولا عمل بالله، فهو المرائي، وقد أبطل الله صدقة المنان وصدقة المرائي... الخ"(6).

والمقصود ـ أيها القراء الكرام ـ أن من فهم ما ترشد إليه هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أقدم على فعل الخير، وسهل عليه الصبر على تقصير الخلق وجفائهم؛ لأنه لا يرجو سوى الله، نسأل الله تعالى بمنّه وكرمه أن يرزقنا فعل الخيرات، والإخلاص لله تعالى في كل ما نأتي ونذر، والحمد لله رب العالمين.

________________
(1) تفسير السعدي (91).
(2) تفسير ابن كثير (1/197).
(3) ينظر: تفسير القرآن للعثيمين: (2/415).
(4) بدائع الفوائد 3/847 (ط.عالم الفوائد).
(5) مجموع الفتاوى (1/31).
(6) مجموع الفتاوى (14/329).


القاعدة السابعة والأربعون: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)
د.عمر بن عبد الله المقبل 18/4/1431هـ


الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء جديد من حلقات هذه السلسلة: قواعد قرآنية، نتأمل فيها شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، نحن بأمس الحاجة إليها كل حين، وخاصة حين يبتلى الإنسان بمصيبة من المصائب المزعجة، وما أكثرها في هذا العصر، إنها القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].

وهذه القاعدة القرآنية جاء ذكرها ضمن آية كريمة في سورة التغابن يقول الله فيها: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[التغابن: 11].

والآية ـ كما هو ظاهر وبيّن ـ تدل على أنه ما من مصيبة أيّاً كانت، سواء كانت في النفس أم في المال أم في الولد، أم الأقارب، ونحو ذلك، فكل ذلك بقضاء الله وقدره، وأن ذلك بعلمه وإذنه القدري سبحانه وتعالى، وجرى به القلم، ونفذت به المشيئة، واقتضته الحكمة، والشأن كل الشأن، هل يقوم العبد بما يجب عليه من عبودية الصبر والتسليم ـ الواجبين ـ، ثم الرضا عن الله تعالى؟! وإن كان الرضا ليس واجبا بل مستحباً.

وتأمل ـ أيها المؤمن ـ أن الله تعالى علق هداية القلب على الإيمان؛ ذلك أن الأصل في المؤمن أن يروضه الإيمان على تلقي المصائب، واتباع ما يأمره الشرع به من البعد عن الجزع والهلع، متفكراً في أن هذه الحياة لا تخلوا من منغصات ومكدرات:

جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الأقذاء والأقذار!
وهذا كما هو مقتضى الإيمان، فإن في هذه القاعدة: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} إيماءً إلى الأمر بالثبات والصبر عند حلول المصائب؛ لأنه يلزم من هَدْيِ الله قلبَ المؤمن عند المصيبة = ترغيبَ المؤمنين في الثبات والتصبر عند حلول المصائب، فلذلك جاء ختم هذه الآية بجملة: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(1).

وهذا الختم البديع بهذه الجملة: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يزيد المؤمن طمأنينة وراحة من بيان سعة علم الله، وأنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء مما يقع، وأنه عز وجل الأعلم بما يصلح حال العبد وقلبه، وما هو خير له في العاجل والآجل، وفي الدنيا وفي الآخرة، يقرأ المؤمن هذا وهو يستشعر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"(2).

ويقول عون بن عبدالله بن عتبة رحمه الله: "إن الله ليكره عبده على البلاء كما يكره أهل المريض مريضهم، وأهل الصبي صبيهم على الدواء، ويقولون: اشرب هذا، فإن لك في عاقبته خيرا" (3).

أيها الإخوة المؤمنون: ولنعد إلى هذه القاعدة: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} التي هي موضع حديثنا في هذه الحلقة.
وثمة كلماتٍ نورانية، قالها سلف هذه الأمة تعليقاً على معنى هذه القاعدة، ولنبدأ بحبر الأمة وترجمان القرآن حيث يقول رضي الله عنه ـ في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه(4).
ويقول علقمة بن قيس رحمه الله في هذه القاعدة: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضَى(5).
وقال أبو عثمان الحيري: من صح إيمانه، يهد الله قلبه لاتباع السنة(6).
ومن لطيف ما ذكر من القراءات المأثورة ـ وإن كانت ليست متواترة ولا مشهورة ـ: أن عكرمة قرأ: "ومن يؤمن بالله يهدأ قلبه" أي: يسكن ويطمئن(7).


أيها الإخوة القراء: ومجيء هذه القاعدة في هذا السياق له دلالات مهمة، من أبرزها:
1 ـ تربية القلب على التسليم على أقدار الله المؤلمة ـ كما سبق ـ.
2 ـ أن من أعظم ما يعين على تلقي هذه المصائب بهدوء وطمأنينة: الإيمان القوي برب العالمين، والرضا عن الله تعالى، بحيث لا يتردد المؤمن ـ وهو يعيش المصيبة ـ بأن اختيار الله خير من اختياره لنفسه، وأن العاقبة الطيبة ستكون له ـ ما دام مؤمناً حقاً ـ فإن الله تعالى ليس له حاجة لا في طاعة العباد، ولا في ابتلائهم! بل من وراء الابتلاء حكمة بل حِكَمٌ وأسرار بالغة لا يحيط بها الإنسان، وإلا فما الذي يفهمه المؤمن حين يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"(8)؟! وما الذي يوحيه للإنسان ما يقرأه في كتب السير والتواريخ من أنواع الابتلاء التي تعرض لها أئمة الدين؟! إن الجواب باختصار شديد: "أن أثقال الحياة لا يطيقها المهازيل، والمرء إذا كان لديه متاع ثقيل يريد نقله، لم يستأجر له أطفالا أو مرضى أو خوارين؛ إنما ينتقى له ذوى الكواهل الصلبة، والمناكب الشداد!! كذلك الحياة، لا ينهض برسالتها الكبرى، ولا ينقلها من طور إلى طور إلا رجال عمالقة وأبطال صابرون!"(9).

أيها القراء الأفاضل:
ليس بوسع الإنسان أن يسرد قائمة بأنواع المصائب التي تصيب الناس، وتكدر حياتهم، لكن بوسعه أن ينظر في هدي القرآن في هذا الباب، ذلك أن منهج القرآن الكريم في الحديث عن أنواع المصائب حديث مجمل، وتمثيل بأشهر أنواع المصائب، لكننا نجد تركيزاً ظاهراً على طرق علاج هذه المصائب، ومن ذلك:
1 ـ هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} فهي تنبه إلى ما سبق الحديث عنه من أهمية الصبر والتسليم، بالإضافة إلى ضرورة تعزيز الإيمان الذي يصمد لهذه المصائب.

2 ـ ومن طرق معالجة القرآن لشأن المصائب: الإرشاد إلى ذلك الدعاء العظيم الذي جاء ذكره في سورة البقرة، يقول تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة: 155، 156].

3 ـ كثرة القصص عن الأنبياء وأتباعهم، الذين لقوا أنواعاً من المصائب والابتلاءات التي تجعل المؤمن يأخذ العبرة، ويتأسى بهم، ويهون عليه ما يصيبه إذا تذكر ما أصابهم، وعلى رأسهم نبينا وإمامنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ويتبع هذا العلاج القرآني: النظر في سير الصالحين من هذه الأمة وغيرهم، ممن ابتلوا فصبروا، ثم ظفروا، ووجدوا ـ حقاً ـ أثر الرضا والتسليم بهداية يقذفها الله في قلوبهم، وهم يتلقون أقدار الله المؤلمة، والموفق من تعامل البلاء بما أرشد الله إليه ورسولُه صلى الله عليه وسلم، وبما أرشد إليه العقلاء والحكماء، ففي كلام بعضهم عبر متينة، وتجارب ثرية، فاستمع ـ مثلاً ـ إلى مقولة الإمام الجليل أبي حازم: ـ والتي تزيح جبال الهمّ التي جثمت على صدور الكثيرين، يقول رحمه الله: الدنيا شيئان: فشيء لي، وشيء لغيري، فما كان لي لو طلبته بحيلة من في السموات والأرض لم يأتني قبل أجله، وما كان لغيري لم أرجه فيما مضى، ولا أرجوه فيما بقي، يمنع رزقي من غيري كما يمنع رزق غيري مني، ففي أي هذين أفني عمري؟!"(10).

وبعد ـ أيها القراء الكرام ـ لماذا يتسخط بعضنا ويتوجع على حادثٍ حصل قبل سنوات؟! ولماذا يقلب أحدنا ملف زواجٍ فاشل؟! أو صفقةٍ تجارية خاسرة، أو أسهم بارت تجارتها؟! وكأنه بذلك يريد أن يجدد أحزانه!!

فيا كل مبتلى:
اصبر على القدر المجلوب وارض به... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئٍ عيشٌ يسرّ به... إلاّ سيتبع يوماً صفوة كدر (11)
وأوصي في ختام هذه الحلقة بقراءة رسالة قيمة جداً، قليلة الكلمات، عظيمة المعاني؛ لشيخ شيوخنا: العلامة الجليل، الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: وعنوان رسالته: "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة"، جعل الله أيامنا جميعاً أيام أنس وسرورٍ بالله، وسرورٍ بما يقدره الله، ويقضيه الله، والحمد لله رب العالمين.

________________
(1) ينظر: التحرير والتنوير (28/251).
(2) مسلم (2999).
(3) حلية الأولياء (4/252).
(4) تفسير الطبري (23/421).
(5) تفسير الطبري (23/421).
(6) تفسير القرطبي (18/139).
(7) تفسير القرطبي (18/139).
(8) الترمذي (2398) وابن ماجه (4023)، وابن حبان (699، 700)، وقد صححه الترمذي وابن حبان وغيرهما، ولعله لشواهده.
(9) خلق المسلم، باختصار (133- 134).
(10) حلية الأولياء (10/104).
(11) الكامل في اللغة (2/ 33).


القاعدة الثامنة والأربعون: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ)


الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فحياكم الله إلى هذه الحلقة الجديدة من حلقات هذه السلسلة: قواعد قرآنية، نتفيأ في هذه الحلقة ظلال قاعدة قرآنية محكمة، سارت مسار الأمثال، وهي أثر من آثار حكمة الله عز وجل في خلقه، تعين من تدبرها على رؤية الأمور بتوازن واعتدال، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60].

وهذه القاعدة هي جزء من آية كريمة في سورة البقرة وسورة الأعراف، في قصة استسقاء نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لقومه، يقول تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60].

والمعنى الخاص الذي يتعلق بهذه الآية الكريمة، أن الله تعالى امتن على بني إسرائيل بأن جعل العيون التي انفجرت من ذلك الحجر اثنتي عشرة عيناً، بعدد قبائل بني إسرائيل، منعاً للزحام، وتيسيراً عليهم، ليعرف كل سبط من أسباط بني إسرائيل، فلما تحققت هذه المنة، اكتملت عليهم النعمة، بتنوع المآكل والمشارب من غير جهد ولا تعب، بل هو محض فضل الله ورزقه، وتمت عليهم النعمة بتنظيم أمرهم في الورود والصدور، فأصبحوا منظمين، لا يبغي أحد على أحد، ولا ينقص أحد حق أحد.

وهذا المعنى ـ الذي دلّت عليه هذه القاعدة ـ جاء ذكره في قاعدة أخرى لكن بلفظ مغاير، وذلك في قوله عز وجل: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] أي على طريقته وسيرته التي اعتادها صاحبها، ونشأ عليها.
كما أن هذا المعنى الذي دلّت عليه هذه القاعدة جاءت السنة بتقريره كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له"(1).

والحاصل أن هذا المعنى جاءت الشريعة بتقريره بعبارات متنوعة، وجُمَلٍ مختصرة، وألفاظ مختلفة؛ ولهذا دلالته ومغزاه، من جهة أهمية تدبر هذه المعاني والإفادة منها في واقعنا، ولعلنا في هذه الحلقة نشير إلى أهم هذه التطبيقات التي حصل بسبب الإخلال بها بعض الآثار السيئة، وفات بسبب ذلك بعض المكاسب الطيبة، ذلكم هو ـ معشر الإخوة ـ:
أهمية معرفة الإنسان للمواهب والقدرات التي وهبه الله إياها، ليفعلها في المجال الذي تناسبه؛ إذ من المتقرر أن الناس ليسوا على درجة واحدة في المواهب والقدرات والطاقات، ولم يجتمع الكمال البشري إلا في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فمعرفة الإنسان لما يحسنه ويتميز به مهم جداً في تحديد المجال الذي ينطلق فيه ليبدع؛ ولينفع أمته، إذ ليس القصد هو العمل فحسب، بل الإبداع والإتقان.

ومن نظر في سير الصحابة رضي الله عنهم أدرك شيئاً من دقة تطبيقهم لمعاني هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} فمنهم العالم المتخصص، ومنهم المعروف بالسنان ومقارعة الفرسان، وثالث يبدع في ميادين الشعر والبيان.

ومن جميل ما يذكر في هذا المقام القصة التي رواها ابن عبدالبر في كتابه القيم "التمهيد"، ذلك أن عبدالله بن عبدالعزيز العمري العابد، كتب إلى الإمام مالك يحضه إلى الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك: إن الله عز وجل قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشرُ العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم له، والسلام(1).
وهذا الجواب من الإمام مالك لا يدل على علمه فحسب، بل على وفور عقله وسمو أدبه، وجودة بيانه عن هذه القضية التي تاه في تقديرها فئام من الناس.

وفي عصرنا هذا برز سجالٌ يشبه هذا نبه الإمام مالك على خطئ قصور النظر فيه، فإنك واجدٌ في مقالات بعض الناس الذين نفروا للجهاد في سبيل الله عتاباً ولوماً لبعض العلماء المتفرغين للتعليم ونشر العلم، طالبين منهم النفير والخروج إلى الجهاد؛ لأن الجهاد أفضل الأعمال، وأنه فرض الوقت،... في سلسلة من التعليلات التي يُصَدّرون بها هذا اللون من العتاب، ويقابل ذلك ـ أحياناً ـ عتاب آخر من قبل بعض المشتغلين بالعلم والدعوة بلوم هؤلاء المتفرغين للجهاد، ورميهم لهم بأن كثيراً منهم ليس بعالم، ولا يفقه كثيراً من مسائل الشرع، في سلسلة من المآخذ التي كان يمكن تهذيبها وتخفيف حدتها لو تأمل الجميع هذه القاعدة وما جاء في معناها، كقوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} وكالقاعدة النبوية الآنفة الذكر: "كل ميسر لما خُلق له".

يوضح هذا ويبينه قول النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيحين ـ: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبدالله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، قال أبو بكر الصديق يا رسول الله ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم وأرجو أن تكون منهم"(3).

قال ابن عبدالبر رحمه الله: "وفيه: أن أعمال البر لا يفتح في الأغلب للإنسان الواحد في جميعها، وأن من فتح له في شيء منها حرم غيرها في الأغلب، وأنه قد تفتح في جميعها للقليل من الناس وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من ذلك القليل"(4).

أيها القراء الفضلاء:
في الساحة نماذج كثيرة خسرت الأمة طاقاتهم بسبب الإخلال بما دلّت عليه هذه القاعدة، فهذا شاب مبدع في العلم، وآتاه الله فهماً، وقدرةً على الحفظ، وسلك طريقه في العلم، فيأتيه من يأتيه ليقنعه بالانخراط في العمل الخيري، وكأنه ـ وهو في طريق الطلب ـ في طريق مفضول، أو عمل مرجوح!

والعكس صحيح، فمن الشباب من يحاول في طلب العلم، لكنه لا ينجح ولا يتقدم، ويعلم مَنْ حوله أنه ليس من أهل هذا الشأن، فليس من الحكمة في شيء أن يطالب هذا الرجل وأمثاله بأكثر مما بذل، فقد دلّت التجربة على أنه ليس من أحلاس العلم، فينبغي توجيهه إلى ما يحسنه من الأعمال.. فالأمة بحاجة إلى طاقات في العمل الخيري، والإغاثي، والاجتماعي، والدعوي، وصدق الله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}.

وفيما أشرتا إليه في تنوع اهتمامات الصحابة رضي الله عنهم ما يؤكد أهمية فهم هذه القاعدة على الوجه الصحيح، حتى لا نخسر طاقات نحن بأمس الحاجة إليها، خصوصاً في هذا الزمن الذي تنوعت فيه الاهتمامات، وتعددت فيه طرائق خدمة الإسلام، ونفع الناس، والموفق من عرف ما يحسنه، فوظفه لخدمة دينه، وأمته، وفي الأثر: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"(5)، وكيف يتأتى الإتقان من شخص لا يحسن ما يعانيه ويعالجه!

هذه ـ أيها الإخوة ـ هي هدايات الوحي: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}، {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}، "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له"(6)، فهل نتدبرها ونستفيد منها، من أجل فاعلية أكثر لطاقاتنا؟
وإلى هنا ينتهي ما أردت الإشارة إليه في هذه الحلقة، والحمد لله رب العالمين.

________________
(1) البخاري (7112)، مسلم (2648).
(2) التمهيد (7/185).
(3) البخاري ـ في مواضع ـ منها: (3466)، مسلم: (1027).
(4) التمهيد (7/185).
(5) أخرجه أبو يعلى (7/349) ح (4386) وفي سنده ضعف، لكن معناه صحيح.
(6) سبق تخريجه آنفاً.



القاعدة التاسعة والأربعون: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
د.عمر بن عبد الله المقبل | 3/5/1431 هـ


الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فحياكم الله إلى هذه الحلقة الجديدة، نتفيأ في هذه الحلقة ظلال قاعدة قرآنية محكمة، لها أثرها البالغ في تصحيح سير الإنسان إلى ربه، وضبط عباداته ومعاملاته وسلوكياته، ومعرفة ما يخفى عليه أو يشكل من أمر دينه، إنها القاعدة التي دل عليها قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]

وهذه القاعدة تكررت بنصها في موضعين من كتاب الله تعالى:
الموضع الأول في سورة النحل، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 43، 44].


والموضع الثاني: في سورة الأنبياء، يقول سبحانه وتعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].
وكلا الآيتين جاء في سياق إرشاد الكفار ـ المعاندين والمكذبين ـ إلى سؤال من سبقهم من أهل الكتاب، وفي هذا الإرشاد إيماء واضح إلى أن أولئك المشركين المعاندين لا يعلمون، وأنهم جهال، وإلا لما كان في إرشادهم إلى السؤال فائدة.


وإذا تأملت ـ أيها القارئ الكريم ـ في هذه القاعدة مع سياقها في الموضعين من سورة النحل والأنبياء، خرجت منها بأمور:
1 ـ عموم هذه القاعدة فيها مدح لأهل العلم.
2 ـ وأن أعلى أنواعه: العلمُ بكتاب الله المنزل، فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث.
3 ـ أنها تضمنت تعديل أهل العلم وتزكيتهم، حيث أمر بسؤالهم.
4 ـ أن السائل والجاهل يخرج من التبعة بمجرد السؤال، وفي ضمن هذا: أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله، وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم، والاتصاف بصفات الكمال.
5 ـ كما أشارت هذه القاعدة إلى أن أفضل أهل الذكر أهلُ هذا القرآن العظيم، فإنهم أهل الذكر على الحقيقة، وأولى من غيرهم بهذا الاسم(1).
6 ـ الأمرُ بالتعلم، والسؤالُ لأهل العلم، ولم يؤمر بسؤالهم إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه.
7 ـ وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم، ونهي له أن يتصدى لذلك.
8 ـ وفي هذه القاعدة دليل واضح على أن الاجتهاد لا يجب على جميع الناس؛ لأن الأمر بسؤال العلماء دليل على أن هناك أقواماً فرضهم السؤال لا الاجتهاد، وهذا كما هو دلالة الشرع، فهو منطق العقل ـ أيضاً ـ إذ لا يتصور أحدٌ أن يكون جميع الناس مجتهدين.


أيها المحبون لكتاب ربهم:
مرّ بنا كثيراً في هذا البرنامج، أن المقرر في علم أصول التفسير: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها مثال لذلك، فهذه الآية وإن كان سببها خاصاً بأمر المعاندين أن يسألوا عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر ـ وهم أهل العلم ـ فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين: أصوله وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علمٌ منها وبها، فعليه أن يسأل من يعلمها.

وهذا من الوضوح بمكان، بحث لا يحتاج إلى استطراد، إلا أن الذي يحتاج إلى تنبيه وتوضيح هو ما يقع من مخالفة هذه القاعدة في واقع الناس، وخرقٍ للآداب التي تتعلق بهذا الموضوع المهم، ومن صور ذلك:
1 ـ أنك ترى بعض الناس حينما تعرض له مشكلة أو نازلة، واحتاج إلى السؤال عنها سأل عنها أقرب شخص له، ولو لم يعلم حاله، هل هو من أهل العلم أم لا؟ وبعض الناس يعتمد على المظاهر، فإذا رأى من سيماه الخير ظنّ أنه من طلاب العلم أو العلماء الذين يستفتى مثلهم!
وكل ذلك غلط بيّن، ومخالف لما دلت عليه هذه القاعدة المحكمة: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}!
ولا أدري، ماذا يصنع هؤلاء إذا مرض أحدهم؟ أيستوقفون أول مارٍّ عليهم في الشارع فيسألونه أم يذهبون إلى أمهر الأطباء وأكثرهم حذقاً؟
ولا أدري ماذا يصنع هؤلاء إذا أصاب سيارته عطل أو تلف؟ أيسلمها لأقرب من يمر به؟ أم يبحث عن أحسن مهندس يتقن تصليح ما أصاب سيارته من تلف؟
إذا كان هذا في إصلاح دنياه، فإن توقيه في إصلاح دينه أعظم وأخطر!
قال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.


ومن صور مخالفة هذه القاعدة:
2 ـ عدم التثبت في الأخذ عن أهل الذكر حقاً، ذلك أن المنتسبين للعلم كثرٌ، والمتشبهين بهم أضعاف ذلك، ومن شاهد بعض من يظهرون في الفضائيات أدرك شيئاً من ذلك؛ فإن الناس ـ بسبب ضعف إدراكهم، وقلة تمييزهم ـ يظنون أن كلّ من يتحدث عن الإسلام عالمٌ، ويمكن استفتاؤه في مسائل الشرع! ولا يفرقون بين الداعية أو الخطيب وبين العالم الذي يعرف مآخذ الأدلة، ومدارك النصوص، فظهر ـ تبعاً لذلك ـ ألوان من الفتاوى الشاذة، بل والغلط الذي لا يحتمل، ولا يُقْبَل، وكثر اتباع الهوى وتتبع الرخص من عامة الناس، فرقّت أديانهم، وضعفت عبوديتهم، بأسباب من أهمها فوضى الفتاوى التي تعج بها كثير من الفضائيات.


وهذا ما يجعل الإنسان يفهم ويدرك جيداً موقع المقالات المأثورة عن السلف ـ رحمهم الله ـ في شأن الفتوى وخطورتها، وهي نصوص ومواقف كثيرة، منها ما رواه ابن عبدالبر رحمه الله: أن رجلاً دخل على ربيعة بن عبدالرحمن ـ شيخ الإمام مالك ـ فوجده بيكي! فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له! وظهر في الإسلام أمر عظيم! قال ربيعة: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق(2).

علّق العلامة ابن حمدان الحراني على هذه القصة فقال:
"قلت: فكيف لو رأى ربيعة زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا مع قلة خبرته وسوء سيرته وشؤم سريرته؟ وإنما قصده السمعة والرياء ومماثلة الفضلاء والنبلاء والمشهورين المستورين، والعلماء الراسخين والمتبحرين السابقين، ومع هذا فهم يُنْهَون فلا ينتهون، ويُنَبّهون فلا ينتبهون، قد أملي لهم بانعكاف الجهال عليهم، وتركوا ما لهم في ذلك وما عليهم"(3) اهـ.


والمقصود من هذا البيان الموجز: التنبيه على ضرورة تحري الإنسان في سؤاله، وأن لا يسأل إلا من تبرأ به الذمة، ومن هو أتقى وأعلم وأورع، فهؤلاء هم أهل الذكر حقاً الذين نصت هذه القاعدة على وصفهم بهذا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.

وختاماً.. فإن الحديث السابق لا يفهم منه ـ أبداً ـ أن جميع من يظهرون على الفضائيات كمن ذكروا آنفاً، بل فيمن يظهر ـ ولله الحمد ـ عدد طيب من العلماء الراسخين، والشيوخ المتقنين، لكن الحديث كان منصباً على طوائف من المفتين، ليسوا على جادة أهل العلم في الفتوى، وليسوا أهلاً لها: {ولتعرفنهم في لحن القول}، والله المستعان،وعليه التكلان، ونعوذ به سبحانه وتعالى أن نقول عليه أو على رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا نعلم، والحمد لله رب العالمين.

_______________
(1) ينظر: تفسير السعدي: (441، 519).
(2) جامع بيان العلم وفضله - (2 / 201).
(3) صفة الفتوى: (11).


القاعدة الخمسون: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)
د.عمر بن عبد الله المقبل | 10/5/1431 هـ

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه هي الحلقة الأخيرة من حلقات هذه السلسلة التي وسمت بـ"قواعد قرآنية" نحاول أن نتحدث عن قاعدة لعلها تناسب ختام هذه السلسلة، والتي تجعل المؤمن يزداد يقيناً بعظمة هذا القرآن، وأنه الكتاب الوحيد الذي يصلح لكل زمان ومكان، إنها القاعدة التي دل عليها قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].

وهذه القاعدة جاءت ضمن آية كريمة في سورة الإسراء، والتي يقول الله فيها: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 9، 10].

قال قتادة رحمه الله ـ في بيان معنى هذه القاعدة ـ: "إن القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم فأما دائكم فالذنوب والخطايا وأما دواؤكم فالاستغفار"(1).
وهذا التفسير من هذا الإمام الجليل إشارة واضحة إلى شموله إلى علاج جميع الأدواء، وأن فيه جميع الأدوية، لكن يبقى الشأن في الباحثين عن تلك الأدوية في هذا القرآن العظيم.


ومن أراد أن يقف ـ من الإخوة الكرام ـ على شيء من محاولات العلماء ـ رحمهم الله ـ في الوقوف على شيء من ذلك، فليقرأ ما كتبه العلامة الشنقيطي - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية الكريمة، والقاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها، فإنه قد كتب - رحمه الله - نحواً من ستين صفحة وهو يتحدث عن نماذج عالجها القرآن، وهدى لأقوم الطرق في حلها.

يقول رحمه الله: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدا برب العالمين جل وعلا ـ يهدي للتي هي أقوم. أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب،... وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق، وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم؛ لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة، ولكننا إن شاء الله تعالى سنذكر جملاً وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدي القرآن للطريق التي هي أقوم بياناً لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة،... ثم سرد جملة من المسائل العقدية والاجتماعية"(2).

أيها القارئ المحب لكتاب ربه:
دعنا نستعرض ـ بإجمال شديد ـ شيئاً من أنواع هذه الهدايات التي دل هدى القرآن للطريق الأقوم فيها:
"إنه يهدي للتي هي في ضبط التوازن بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله..
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء، ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.


ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً، ودولاً وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض..

ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها، فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.." (3)

أيها الإخوة الأكارم:
إذا تأملنا هذا الإطلاق في هذه القاعدة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أدركت أنها آية تتجاوز في هدايتها حدود الزمان والمكان.. وتتجاوز كل الأنظمة والقوانين التي كانت قائمة أو التي ستقوم بعد ذلك!

إنها قاعدة تقطع الطريق على جميع المنهزمين والمتخاذلين من أهل الإسلام أو المنتسبين له، أو من الزنادقة، الذين يظنون ـ لجهلهم ـ أن هذا القرآن إنما هو كتاب رقائق ومواعظ، ويعالج قضايا محدودة من الأحكام! أما القضايا الكبرى، كقضايا السياسة، والعلاقات الدولية، ونحوها، فإن القرآن ليس فيه ما يشفي في علاج هذه القضايا!!

وهذا الكلام فضلاً عن كونه خطيراً وقد يؤدي إلى الكفر، فإنه سوء أدب مع الله، ذلك أن ربنا ـ وهو العليم الخبير ـ يعلم حين أنزل القرآن أن العباد سيقبلون على متغيرات كثيرة، وانفتاح، وعلاقات، ومستجدات، فلم يتركهم هملاً، بل حفظ لهم هذا القرآن ليرجعوا إلى هداياته، وحفظ لهم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لتكون شارحةً لما أجمل من قواعد القرآن، بل وجعل في السنة أحكاماً مستقلة، فمن أراد الهداية وجدها فيهما، ومن كان في عينيه عشى، أو في قلبه عمى، فليتهم نفسه، ولا يرمين نصوص الوحي بالنقص والقصور:

قد تنكرُ العينُ ضوء الشمسِ من رمدٍ *** ويُنْكِرُ الفَمُّ طَعْمَ الماء منْ سَقَم

أيها الإخوة الفضلاء:
وأختم ما أردتُ الإشارة إليه في الحديث عن هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} بهذه القصة التي وقفتُ عليها، وهي أنني أذكر أن أحد العلماء لما طُلِبَ منه أن يلقي محاضرة حول هداية هذه القاعدة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} قال في نفسه: وماذا سأقول عن هذه الآية في ساعة أو أكثر؟! فقررت أن أراجع كلام بعض المفسرين حولها، فبدأت بتفسير السعدي، فوجدته يقول: "يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي: أعدل وأعلى من العقائد، والأعمال، والأخلاق"(4).

فقررت أن أبدأ بالحديث عن هداية القرآن للتي هي أقوم في أبواب العقائد، فانتهى وقت المحاضرة ولم أنته من الحديث عن هذه الجزئية فقط! فكيف بمن أراد الحديث عن هداية القرآن للتي هي أقوم في أبواب العبادات؟ والمعاملات؟ والأحوال الشخصية؟ والحدود؟ والأخلاق والسلوك؟ فعلمت أن من يريد الحديث عن هذه القاعدة، فسيحتاج إلى عشرات المحاضرات.

أيها الموقنون بهذا الكتاب العظيم:
هذا كتاب ربنا، يخبرنا فيه أنه يهدي للتي هي أقوم، فأين الباحثون عن هداياته؟ وأين الواردون حياضه؟ وأين الناهلون من معينه؟ وأين المهتدون بتوجيهاته؟.

وبعد ـ أيها الإخوة والأخوات الكرام من المتابعين لهذه الحلقات ـ:
فهذه هي الحلقة المتممة للخمسين، وبها تنتهي حلقات هذه السلسلة التي حاولت فيها المرور على جملة من القواعد التي تضمنها كتاب الله العظيم، وتسليط الضوء على تلك القواعد، وإبراز بعض ما تضمنته تلك القواعد من هدايات وتوجيهات ربانية، ومحاولة تنزيلها على واقع الناس، لأن من أجلى صور عظمة القرآن هو تجدد معانيه بتجدد أحوال الناس، ليبقى هادياً ومقيماً لمن أراد الله هدايته واستقامته.
وإنني ـ في ختام هذه الحلقات ـ لأشكر جميع الذين تواصلوا معي باقتراحاتهم، أو ملاحظاتهم، والتي حاولت الإفادة منها، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

__________________
(1) الدر المنثور (5/245).
(2) أضواء البيان 3/17 - 54.
(3) ينظر: في ظلال القرآن (4/2215).
(4) تفسير السعدي: (454).




للرفع للاستفادة منه في تدبر القرآن خاصة في هذا الشهر المبارك




للرفع



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أولا : جزاك الله خيرا فضيلة الشيخ على هذا الطرح والجمع المبارك
ثانيا : كيف يمكننا تصنيف هذه القواعد (عقائدية، سلوكية ، اجتماعية ،......)؟؟


فعلى سبيل المثال في كتابنا الحكيم الاية:( لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.....) من الأمور الرائعة أن يبين لمن ليسوا على هذا الدين أنه الاسلام لايكرهك على ان تكون مسلما... خاصة وأن هذه الامور تحبب وترغب الناس في ديننا الحنيف وتنفي مايسمعوه عنه من شبه وتضليل والله حافظ لدينه ولو كره الكافرون...
فالحقيقة أرغب في دراسة تلك القواعد والقوانيين الربانية التي يعجز عن وضعها البشر ولو تفلسفوا ماتفلسفوا .. وجزيتم عنا وعن الاسلام خير الجزاء.

اخوكم