قنوات الدجل والشعوذة وآثارها المدمرة بتاريخ 29-5-1441هـ
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الواحدِ الأحدِ القائلِ في كتابِه [قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له الفردُ الصمدُ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكنْ له كُفوًا أحد؛ وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأزواجِه وأتباعِه إلى يومِ الدينِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعدُ: فأوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى اللهِ جلَّ وعلا، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون](آل عمران: 102).
أيُّها المؤمنونَ والمؤمناتِ: أعداءُ هذا الدينِ بذلوا جهدَهم من أجلِ إفسادِ عقيدةِ المسلمين، بشتَّى الطُّرقِ والوسائلِ؛ فزيَّنوا لهم الباطلَ، وأنفقوا الأموالَ الطائلةَ، حتَّى جنَّدوا في بلادِهم أتباعَ الكهنةِ والعرافةِ والتنجيمِ وأشياعَ السَّحرةِ بأدواتٍ تناسبُ العصرَ، وقامتْ قنواتٌ فضائيةٌ تبثُّ سِحْرَهم وتَنْجِيمَهم وكهانَتهم وشعوذتَهم ودَجَلهم.
ولهذا أصبحَ التنجيمُ ومطالعةُ الأبراجِ مكانًا رائجًا في كثيرٍ من الصحفِ والمجلاتِ فوضعتْ له زوايا وأعمدةٌ مستمرةٌ على مدارِ العامِ، وكذلكَ القنواتِ الفضائيةِ التي خَصَّصتْ له برامجَ كثيرةً لتسهيلِ وصولِه للناسِ وتصديقِ ما يُعرضُ عنه.
وقد جاءَ من روايةِ معاويةَ بنِ الحكمِ قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أمورٌ كنَّا نصْنَعُها في الجاهليةِ، كنَّا نأتي الكهَّان، نأتي للكاهنِ ونسألُ، قالَ: فلا تأتوا الكهَّانَ، قالَ: قلتُ: كنَّا نتطيَّر، قال: ذلك شيءٌ يَجِدُه أحدُكم في نفسِه فلا يَصدَّكم)(رواه مسلم).
والمُطَّلعُ على ما يُبَثُّ من خلالِ تلكَ القنواتِ يجدُ صورًا كثيرةً من الشِّركِ الصُّراحِ، من أقوامٍ لا دينَ لهم ولا خلاقَ؛ كادِّعاءِ علمِ الغيبِ، وغيرِ ذلكَ ممَّا لا يَقدرُ عليهِ إلا اللهُ جلَّ جلالُه فاستغلُّوا عقولَ النَّاسِ الضعيفةَ واستغوَوْهُم بأفكارٍ سخيفةٍ واستمَالُوهم بأعمالٍ سقيمةٍ فلبَّسوا عليهم سُبلَ الرَّشادِ، وأغوَوهمْ إلى طريقِ الضلالِ والفسادِ.
حتى أُلبسِ التنجيمُ في زمانِنا هذا رداءَ العَصْرَنَة، وإزارَ التّقنيةِ الحديثةِ، فتعلَّقَ القاصدونَ لهم والمتَّصلونَ بهم بالأماني والأوهامِ الفارغةِ، وأمّلوا منهم وُعودًا كاذبةً فيها رجمٌ بالغيبِ. وقد أَخَبرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عن ذلك بقولِه: (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ)(رواه مسلم).
وعرَّف شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ التنجيمَ بقولِه: هو الاستدلالُ على الحوادثِ الأرضيةِ بالأحوالِ الفلكيةِ والتَّمزيجُ بين القوى الفلكيَّةِ والقوابِل الأرضيةِ»، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ)(رواه أبو داود (3905)، وابن ماجة (3726)، «صحيح الجامع» (6074)، وقولُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في الحديثِ: (زَادَ مَا زَادَ)، يعني: كلَّما زادَ من علمِ النُّجومِ زيدَ له من الإثمِ مثلَ إثمِ السَّاحرِ، أو زادَ اقتباسُ شُعبِ السِّحرِ ما زادَه اقتباسُ علمِ النجومِ.
والتنجيمُ هو أساسُ صناعةِ الفلاسفةِ والدهريةِ؛ فإنَّهم كانوا يعتقدونُ أنَّ للنجومِ تأثيراً وتصرفاً وأنَّه يُمكنُ التعرُّفُ بحركاتِها وأبراجِها وسيرِها في السماءِ على ما يحصُل في الأرضِ من الحوادِث، قال ابنُ القيمِ رحمَه اللهُ: وهذا هو شركُ خواصَِّ المشركينَ، وأربابِ النَّظرِ منهم، وهو أقوى السببينِ في وقوعِ الشِّركِ في العالمِ. ا.هـ
ويَحرُمُ تعلُّم هذا العلمِ، وتعليمُه، أو أخذُ المالِ عليه، أو التَّواصلُ مع أصحابِه.
وإذا اعتقدَ المنجِّمُ أو مَن طَلَبَ منه التَّنجيمَ، أنََّ هذه النُّجومَ مؤثِّرةٌ فاعلةٌ، بمعنى كونِها خالقةً للحوادثِ، فهذا شركٌ أكبرُ مخرجٌ من الملَّة. وكذا إذا جَعلَ هذهِ النُّجومَ ومَطالعَها سببًا لمعرفةِ الغيبِ، فاستدلََّ المنجِّمُ بحركاتِها وتنقُّلاتِها وتغيُّراتِها على أمورٍ مستقبليةٍ فهذا كُفرٌ أكبرُ مخرجٌ من الملَّة أيضًا.
أيُّها المؤمنون: لقد انتشرَ التنجيمُ في زمانِنَا هذا انتشاراً كبيراً، حتَّى أصبحَ وسيلةً من وسائلِ ابتزازِ الأموالِ وجرِّ الخلقِ إلى الشّركِ والكفرِ والعياذُ باللهِ.
وإنَّ مما أسهمَ في ظهورِ أمثالِ هؤلاءِ المنجمينَ والعرَّافينَ في المجتمعاتِ الإسلاميةِ وانتشارهِم في الآونةِ الأخيرةِ تلكَ الفضائياتِ ووسائلَ التقنيةِ الحديثةِ التي سهَّلت عليهم الوصولَ لكلِّ بيتٍ دونَ عناءٍ أو مشقَّةٍ.
وكذلكَ ضعفُ العلمِ الشرعي وانتشارُ الجهلِ، مما أوجدَ صنفًا من النَّاسِ قد علّقوا قلوبَهم بهم، وصدَّقوا ما يقولونَه من أكاذيبٍ وافتراءاتٍ وادعاءاتٍ باطلةٍ، بل ووَصلَ الأمرُ أنَّهم يروِّجونَ لهم ذلكَ في القنواتِ الفضائيةِ ومواقعِ التواصلِ.
والمسلمُ الذي يَذهبُ لهؤلاءِ أو يتَّصلُ عليهم أو يراسلَهم، على خطرٍ عظيمٍ، لقولِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم:(مَنْ أتَى عرَّافًا فسألهُ عن شيء لمْ تُقبلْ لهُ صلاةٌ أربعينَ ليلةً)(رواه مسلم)، وفي روايةٍ: (مَنْ أتَى كَاهِناً أو عرَّافًا فصدَّقه بما يقولُ فقدْ كَفَرَ بَمَا أُنزلَ علَى مُحمدٍ)(رواه مسلم).
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ ما سمعتمْ فاسْتَغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّ ممَّا يُحزنُ القلبَ ويُدميه اغترارُ بعضِ النَّاسِ منْ ضعيفي الإيمانِ والصبرِ، مِمّنْ إذا أصابَه شيءٌ في دُنياهُ بادرَ إلى هؤلاءِ المنجمينَ، وأسْرعَ وهَرعَ، وإلى قولِه رَجعَ وفَزعَ، رغبةً منه في جَلْبِ هَنَاءٍ أو دفْعِ بَلاَءٍ، فيلجأُ إليهِم من مُنطَلَقِ ضعفِ عقيدتِه، وقلَّةِ تحمُلِه وسُوءِ ظنِّه بربِّه؛ غَيْرَ آبهٍ بدينٍ، ولا مُلتفتٍ لشريعةِ ربِّ العالمينَ، وهؤلاءِ على خطرٍ عظيمٍ. إذا كيفَ يَليقُ بمسلمٍ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أن يجعلَ للعبادِ نصيبًا هو من اختصاصِ الربِّ جلَّ وعلا القائلِ في كتابِه [قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ](النمل: 65)، والقائل: [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ] [الجن: 26، 27].
عبادَ اللهِ: إنَّ مشاهدةَ ومتابعةَ أقوالِ واستنتاجاتِ وتوقُعاتِ المنجِّمينَ لا تجوزُ، والشَّرعُ الحنيفُ حرَّم ذلكَ وجَعلهُ ذنبًا عظيمًا ومنكرًا كبيرًا، ومتابعةُ أمثالِ هؤلاءِ يُفضي بالمسلمِ إلى تصديقهم والتأثرِ بباطلِهم، واعتقادِ فضلهِم، إلى غيرِ ذلكَ منَ الأمورِ التي تُوصلُ إلى التَّعلقِ بهم والسيرِ على باطِلهم، فالواجبُ الابتعادُ عن مثلِ هذهِ الصحفِ والمجلاتِ والقنواتِ وتحذيرُ النَّاسِ من متابعتِها.
وكلُّ مسلمٍ عليه مسؤوليةٌ في هذا البابِ، كلٌّ حسّبَ استطاعتِه، ولُّي الأمرِ في بيتِه، والمعلِّمُ والمعلِّمةُ في مدارسِهم، ومَنْ لَهُم نشاطٌ في وسائلِ التواصلِ، والخطباءُ وأئمةُ المساجدِ والدعاةُ، كلُّ هؤلاءِ مطالبونَ بالحديثِ عن هذا الموضوعِ الهامِ، وتبصيرِ الناسِ بحقيقتِه، وتعليمهِم الصحيحَ والثابتَ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ فيه.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].
الجمعة 29-5-1441هـ