قل: "عليَّ رقيبُ!"
تركي بن عبدالله الميمان
الخُطْبَةُ الأُولى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْد: فاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ وَلا تَعْصُوْه! فَإِنَّهُ ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾.
عِبَادَ الله: إِنَّهَا عِلْمُ القَلْبِ بِقُرْبِ الرَّبِّ: إِنَّهَا مُرَاقَبَةُ اللهِ في الغَيْبِ! وَكُلَّمَا قَوِيَتِ المَعْرِفَةُ بِاللهِ: قَوِيَالحَيَاءُ مِنْ قُرْبِهِ وَنَظَرِهِ![1]
إِذَا مَا خَلَوتَ الدَّهْرَ يَومًا فَلا تَقُلْ
خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَليَّ رَقِيبُ
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعَةً
وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ
وَمَنْ أَصْلَحَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ الله: أَصْلَحَ اللهُ ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاس! وَمَنِ انْتَهَكَ مَحَارِمَ اللهِ في الخَلْوَةِ، أَهَانَهُاللهُ في العَلانِيَة! ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِم﴾[2].
وَأَوَّلُ خُطْوَةٍ في طِرِيْقِ التَّوْبَةِ، مِنْ ذُنُوْبِ الخَلْوَةِ: مَرَاقَبَةُ اللهِ فِي السِّرِّ والعَلَانِيَةِ؛ والحَذَرُ مِن الدَّارِ الآخِرَةِ! حَتَّى تَكُوْنَ في مَصَافِّ ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾.
وَاللهُ مُطَّلِعٌ عَلَى السَّرَائِر، وَعَالِمٌ بِمَا فِي الضَمَائِر! ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾. يَقُوْلُ ابْنُ القَيِّم: (أَحَاطَ اللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيءٍ عَدَدًا! وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَات، وَأَحَاطَ بَصَرُهُ بِجَمِيعِ المَرْئِيَّات؛ فَيَرىَ دَبِيْبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاء، عَلَى الصَّخْرَةِ الصَمَّاءِ، في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، فَالغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَة، وَالسِرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَة، يَعْلَمُ السِرَّ، وأَخْفَى مِنَ السِرِّ!)[3].
وَلمَّا غَفَلَ المُنَافِقُوْنَ عَنْ نَظَرِ اللهِ؛ أَظْهَرُوا خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ؛ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ! ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾.
وَمِمَّا يَعْصِمُ الإِنْسَانَ، مِنْ ذُنُوْبِ الخَلْوَةِ: مَخَافَةُ اللهِ، فَإِنَّهُ (إِذَا سَكَنَ الخَوْفُ الْقُلُوبَ؛ أَحْرَقَ مَوَاضِعَ الشَّهَوَاتِ مِنْهَا!)[4]. وَمِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ!)[5].
وَرَاوَدَ رَجُلٌ اِمْرَأةً فَأَبَتْ؛ فَقَالَ لها: (ما يَرَانَا إِلَّا الكَوَاكِبُ)، فقالت: (فَأَيْنَ مُكَوْكِبُهَا؟!)[6].
وَمَنِ اسْتَشْعَرَ رُؤْيَةَ اللهِ، وأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ؛ فَلَنْ يَخْلُوَ بِمَعْصِيَتِه! ﴿إنَّ اللهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾. وَمِنْ وَصَايَا النبيِّ ﷺ: (اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ!)[7].
والحَيَاءُ مِنَ اللهِ: حِجَابٌ حاجِزٌ عَن الخَلْوَةِ بالحَرَامِ![8] فاتَّقِ اللهَ أَنْ يكونَ أهْوَنَ الناظِرِينَ إِلَيْك، وَاسْتَحِمِنْهُ على قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ![9] سُئِلَ بَعْضُ السَّلَف: (بِمَ يُسْتَعَانُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ؟) قَالَ: (بِعِلْمِكَ أَنَّ نَظَرَ اللهِ إِلَيْكَ؛ أَسْبَقُ مِنْ نَظَرِكَ إِلَى مَا تَنْظُرُهُ!)[10].
وَمَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ: مِنْ ذُنُوْبِ الخَفَاءِ؛ صَرَفَ اللهُ عَنْهُ شَرَّهَا، فـالدُّعَاءُ مَلْجَأُ المتَّقِين، مَنْ دَخَلَهُ كانَ مِنَ الآمِنِين؛ فَقَدْ لَجَأَ إِلَيْهِ يُوْسُفُ u عِنْدَمَا هَجَمَتْ عَلَيْهِ الفِتْنَة! فـ﴿قَالَ مَعَاذَ اللهِ﴾؛ فَصَرَفَ اللهُ عَنْهُ السُّوْءَ والفَحْشَاء! وَمِنْ دُعَاءِ النبيِّ ﷺ: (أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)[11].
وَالاِسْتِخْفَافُ بِنَظَرِ اللهِ في الخَلْوَةِ، والجُرْأَةُ على مَعْصِيَةِ الأَسْرَارِ، مَعَ الإِصْرَارِ وَالاِسْتِهْتَارِ، وَتَرْكِ النَّدَمِ والاِنْكِسَارِ؛ يُؤَدِّي إلى الخَسَارِ والدَّمَارِ! قال ﷺ: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي، يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا؛ فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا!) قال ثَوْبَانُ t:(يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟) قال: (إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا!)[12].
وَمَنْ حَفِظَ نَفْسَهُ مِن الفِتْنَةِ، وَخَشِيَ رَبَّهُ في الخَلْوَة؛ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّة! ﴿وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ* هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ* مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾.
وَمِنْ حِيَلِ الشَّيْطَانِ: أَنْ يَصُدَّ المُسْلِمَ عَنْ إنْكَارِ المُنْكَرِ؛ بِحُجَّةِ أَنَّهُ يُمَارِسُهُ في الخَفَاء! وهذا مِنْ تَلْبِيسِ إبليس؛ لِأَنَّ على الإنسانِ وَاجِبَيْن: 1- أَنْ يَنْصَحَ نَفْسَه، 2- وأَنْ يَنْصَحَ غَيْرَه؛ فَتَرْكُأَحَدُ الوَاجِبَيْنِ؛ لا يَكُوْنُ رُخْصَةً في تَرْكِ الآخَر! ولو كانَ المرءُ لا يَنْهَى عنِ مُنْكَرٍ حتَّى لا يكونَ فيهِ شيءٌ؛ ما أَمَرَ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ، ولا نَهَى عن منكَرٍ!
والمُجَاهَرَةُ بالذَّنْبِ؛ أَعْظَمُ مِنَ الاِسْتِتَارِ بِه![13] قال ﷺ: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِيْنَ)[14].
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.
عِبَادَ اللهِ: في زَمَنِ التَّقْنِيَةِ، وَسُهُوْلَةِ المَعْصِيَةِ: تَنْكَسِرُ القُيُوْدُ، وَتَزُوْلُ الْحُدُودَ؛ فَلَا يَبْقَى حَسِيْبٌوَلا رَقِيْبٌ، إِلَّا خَوْفُ اللهِ، وَمُرَاقَبَتُهُ فِي السِّرِّ، وَخَشْيَتُهُ بِالْغَيْبِ!
وَحِينَ تَتَزَيَّنُ لَكَ المَعْصِيَةُ؛ وَتَكُونُ في مُتَنَاوَلِ يَدِكَ؛ فَاحْذَرْ مِنْ السُّقُوْطِ! فَإِنَّهُ امْتِحَانٌ حَقِيْقِيٌّ، لِقُدُرَاتِكَ الإِيْمَانِيَّةِ، وَرَقَابَتِكَ الذَّاتِيَّةِ![15] ﴿لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾.
فَرَاقِبُوْا الرَّحْمَن، وَاحْذَرُوا مَجَالِسَ الشَّيْطَانِ؛ ومَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ: هَدَاهُ اللهُ وَاجْتَبَاهُ! ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: (خَشْيَةُ اللهِ فِي السِّرِّ: تَصْدُرُ عَنْ قُوَّةِ إِيمَانٍ، وَمُجَاهَدَةٍ لِلنَّفْسِ وَالهَوَى؛ وَأَعَزُّ الأَشْيَاءِ: الْوَرَعُ فِي الخَلْوَةِ!)[16].
وَمَنْ زَلَّتْ بِهِ القَدَمُ: وَتَلَطَّخَ بِهَذِهِ القَاذُوْرَاتِ؛ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، وَلْيَغْتَسِلْ بِمَاءِ التَّوْبَةِ! فَـ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.
*******
* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لما تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.
* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
إعداد: قناة الخطب الوجيزة
https://t.me/alkhutab
[1] انظر: مجموع رسائل ابن رجب (3/71).
[2] قال ابنُ الجَوزي: (الحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ الذنوب -خُصُوصًا ذُنُوبُ الخَلَوَات-؛ فَإِنَّ المبارزةَ لله؛ تُسْقِطُ العبدَ مِنَ عَينِه). صيد الخاطر (207).
[3] مفتاح دار السعادة (62). باختصار. قال ابنُ تيمية: (يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ، بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الحَاجَاتِ!). مجموع الفتاوى (1/127).
[4] مدارج السالكين، ابن القيم (1/509).
[5] رواه البخاري (660)، ومسلم (1031).
[6] مجموع رسائل ابن رجب (3/71). باختصار
[7] رواه الترمذي وحسَّنُه (1987).
[8] وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيْبَةٍ في ظُلْمَةٍ * والنَّفْسُ داعِيَةٌ إلى الطُّغيانِ
فَاسْتَحِي مِنْ نَظَرِ الإِلَهِ وَقُلْ لَهَا * إنَّ الَّذي خَلَقَ الظَّلامَ يَرَانِي!
[9] انظر: جامع العلوم والحكم، ابن رجب (129).
[10] المصدر السابق (409).
[11] رواه النسائي (1305)، وصححه الألباني في صحيح النسائي.
[12] رواه ابن ماجه (4245)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
[13] انظر: تفسير ابن كثير (1/152).
[14] رواه البخاري (5721)، ومسلم (2990).
[15] يقولُ ابْنُ عُثَيْمِين: (اللهُ يَبْتَلي المَرْءَ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ المَعْصِيَةِ لَهُ؛ حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ يَخَافُهُ بِالغَيْبِ!). فتاوى ورسائل ابن عثيمين (9/191).
[16] فتح الباري (6/50). باختصار
المرفقات
1704857669_(عليَّ رقيبُ) نسخة للطباعة.pdf
1704857669_(عليَّ رقيبُ) نسخة مختصرة.pdf
1704857669_(عليَّ رقيبُ) خط كبير.pdf
1704857772_(عليَّ رقيبُ) نسخة مختصرة.docx
1704857772_(عليَّ رقيبُ) خط كبير.docx
1704857772_(عليَّ رقيبُ) نسخة للطباعة.docx