قل اعملوا

أحمد عبدالعزيز الشاوي
1445/12/21 - 2024/06/27 11:52AM

الحمد  لله الذي هدانا للإسلام وجعلنا خير أمة أخرجت للأنام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبي الهدي ورسول السلام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وسلم تسليماً، أما بعد:

فاتقوا الله يا معشر المسلمين، فمن اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

إنها قضية من قضايا الشباب.. قضية فرضتها حياة الترف والنعيم التي يعيشها فئة من الشباب.. هي ضحية للعادات الموروثة والتقاليد البالية.. إنها قضية أفرزها الاستغلال الخاطئ لما ننعم به من أمن في الأوطان ورغد في العيش وتوفر وسائل الحياة الكريمة قضية تتأكد في كل حين، وفي الإجازات وأوقات الفراغ أوكد إنها همّ من هموم الشباب.

ليس الشباب بورقة النفوس وسجل الميلاد، فكل من مات قلبه وانطفأت شعلة حماسته وضاعت مثله العليا وأحس بأنه قد بلغ مأمله فلم يعد له أمل فهو شيخ ولو كان في شرخ الشباب.

إنها قضية الشباب والعمل.

كان النبي ﷺ ذات يوم جالساً بين أصحابه فمر عليهم رجل، فرأى أصحاب رسول الله ﷺ من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله ﷺ: «إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان»  

إن هذا الحديث يصور نظرة الإسلام إلى العمل الدنيوي فهو يعتبر السعي في طلب الرزق عبادة يؤجر الإنسان عليها ويثاب.

إنها نظرة الدين الحق الذي جمع بين الدنيا والآخرة ووفق بين سعي الإنسان لدنياه في طلب رزقه ورزق عياله، وبين اجتهاده في العبادة وإقباله على الدار الآخرة.

سئل رسول الله ﷺ: أي الكسب أفضل، فقال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور»،

الإسلام ليس دين بطالة أو تواكل أو سؤال وكسل وخمول، وإنما هو دين يحفز أتباعه على العمل ويحثهم عليه، ويمقت الاعتماد على غيره فهو يشخص الداء ويضع الدواء.

قال ﷺ: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه».

إن البطالة والكسل والقعود عن العمل لأي سبب وتحت أي حجة هو أمر مرفوض في شرعنا، حتى التفرغ للعبادة وترك العمل زهداً في الدنيا هو أمر مرفوض كذلك لأنه ينطوي على فهم خاطئ لحقيقة الزهد في الدنيا فليس الزهد أن يعيش المرء عالة على غيره ولا أن يحترف التسول ويقعد عن التكسب، إنما الزهد تقديم الآخرة على الدنيا، وأن تكون الدنيا في يد الإنسان لا في قلبه واليد العليا خير من اليد السفلى.

إنك لتنظر بعين الأسى والأسف لحال كثير من شبابنا ممن أصبحوا عالة على غيرهم في كل شيء، فهم ينظرون إلى الحياة بعين الترف والتنعم ولا يعرفون أنصاف الحلول. فهدفهم إما الوظيفة المرموقة أو البطالة إما التجارة الرابحة المضمونة أو النوم وتوسد الشهادة وانتظار عطاءات الآخرين، فأي قوة ترجى في أقوام ليس عندهم مما عملت أيديهم ما يكتسون أو ينتعلون، وليس لديهم من صنعهم ما يأكلون أو يركبون إنها طفولة صارخة تجعل غيرهم يمن عليهم بالطعام وبالكساء ويحسن إليهم بالعلاج والدواء.

فأين استجداء الأطفال من قدرات الأبطال، وماذا يرتجى من ناشئة لا تعرف قيمة العمل؟ كيف يرمق المعالي من همته في الدنايا، لا تخشن له يد ولا يعرق له جبين.

إذا كان العمل يلبس أهله لباس الاستغناء والكرامة فإن في البطالة ثوب حقارة فضفاضاً، قال عمر رضي الله عنه: أرى الفتى فيعجبني فإذا قيل لا حرفة له سقط من عيني، وقال أيضاً: مكسبة فيها دناءة خير من مسألة الناس.

إن البطالة أيها الشباب تجعل صاحبها كلاً على غيره يتنكر له العارفون ويستثقله حتى الأقربون، وليس لها من سبب إلا سقوط الهمة وفتور العزيمة.

البطالة يا شباب تورث الفراغ. والفراغ مع الغنى والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة، فهو الخطوة الأولى للانحراف والضياع.

لقد بلي المجتمع بفئة من العاطلين غرقوا في حياة الترف والنعيم فلا يعرفون للحياة طعما آخر ولا يتصورون حياة التقشف والخشونة إلا أنها حياة لمجتمع آخر غريب على ساحتهم ويتربى هذا الحس الخاطئ في أعماقهم وتمضي أيام الله وهم في حلل النعم رافلون وبترف الغنى مبتهجون فيستقبلون صفحات الزمن وضربات الدهر بقلوب ليست مهيئة إلا لاقتطاف المتع واللذائذ، فأنى لأمثال هؤلاء أن يواجهوا شدائد الحياة وعناء المستقبل.

معاشر المسلمين، وإذا كان في الأمة مترفون عاطلون فإن فيها رجالاً شيباً وشباباً صغاراً وكباراً، أصحاب همم عالية، أبوا الرضا بالدون من العيش حتى لو وجدوا من يكفل لهم معاشهم.

إن من هؤلاء صغاراً في العمر كباراً في الشرف والقدر أبت عليهم عزة نفوسهم وشرفها أن يخلدوا للراحة والكسل أو يجعلوا من الليل وقتاً للسهر والأشر ومن النهار زمناً للنوم والبطر.

لم ترض لهم نفوسهم الأبية أن يكون مكانهم زوايا الشوارع وعند المقاهي والمقاصف أو يكون همهم الدوران والانفلات، أو يكون شغلهم تسريح الشعور وتجميل الوجوه والرضا بالتأنث.

هم فتية تراهم في كل ميدان شريف، يتنافسون لإعفاف أنفسهم في مهن يعتبرها البعض مهينة، وإنما الهوان والحقارة في دنو الهمة والبقاء عالة على الآخرين.

فتحية إكبار وإجلال لصغار وشباب رجال خاضوا غمار العمل في كل مجال .تحت أشعة الشمس وتحت كل ظلال ليترفعوا عن ذل السؤال ولتبقى نساؤهم ومحارمهم في بيوتهن دررا مصونة لايخالطن الرجال ولا يتعرضن لامتهان ولا ابتزاز ولا ابتذال. وإننا إذ نكبر فيهم هذا الشرف والتسامي فإننا نوصيهم بالصبر على عناء هذا الطريق مع صدق التوكل على الله والصدق في التعامل مع الآخرين.

وإلى هؤلاء الرجال يقال: لا تنظروا إلى الساخرين فلكم في أنبياء الله ورسله خير قدوة، أليس نبي الله زكريا كان نجاراً، وداود كان يصنع الدروع ونبيكم خير الورى وأفضل من وطئ الثرى كان راعياً للغنم، أفليس لكم في هؤلاء أسوة [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ]  .

ولا عزاء للضعفاء، ولا مكان في هذا العالم للأمة الهزيلة والتي يحفظ أبناؤها كلمات الأغاني وأسماء الأفلام ، ولا يتقنون أبجديات التجارة والصناعات، وإنما الهموم على قدر الهمم.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخطبة الثانية

أما بعد: فهذه كلمات نبعثها إلى كل عامل وكادح، إلى كل من يسعى لإعفاف نفسه والحفاظ على قدره، إلى كل عامل وموظف وبائع وصانع من أبناء هذه البلاد، إلى كل أخ وافد ضحى بأهله ووطنه وراحته في سبيل البحث عن اللقمة الحلال وتأمين الحياة الكريمة له ولولده.

أيها الشرفاء العاملون: إننا إذ نبارك مسعاكم ونكبر عصاميتكم فإننا نحثكم على الصبر والمصابرة والاحتساب في طلب الرزق وعدم استعجال النتائج و (دلوني على سوق المدينة) ليس معناه المغامرة بلا تخطيط والمجازفة دون دراسة وتحمل الديون في سبيل عمل تجاري غير مدروس، وإنما يعني بذل الأسباب في اكتساب الرزق وفق برنامج منظم وتخطيط مسبق ودراسة متأنية للمصالح والمفاسد مع صدق اليقين بوعد الله وصدق التوكل على الله.

يا معشر الشباب: دوام الحال من المحال، ونضارة الربيع تعقبها حرارة الصيف ورياح الخريف، فوطنوا نفوسكم على تقبل كل ظروف الحياة وتعلموا من المهن ما تواجهون به كل طارئ وتقلب من تقلبات الزمن.

إننا نذكركم بأن مشوار النجاح طويل، وأن من بلغوا القمم كانوا في البداية يصارعون ويكافحون في سفح الجبل وكم قاوموا من عثرة وكم واجهوا من عقبة فلم يستطيلوا الطريق ولم توهنهم العقبات فارتقوا أخيراً قمة المجد بالصبر والتقوى.

أيها العاملون: إن المؤمن لا يكتفي بالاندفاع الذاتي إلى العمل، بل يهمه أن يجوده ويتقنه ويبذل جهده لإحسانه وإحكامه لشعوره العميق واعتقاده الجازم أن الله يرقبه في عمله ويراه في مصنعه أو في مزرعته أو في أي حال من أحواله، وأنه تعالى كتب الإحسان على كل شيء.

هناك خلقان أصيلان يتوقف عليهما جودة العمل وحسن الإنتاج وهما الأمانة والإخلاص، وهما في المؤمن على أكمل صورة وأروع مثال. وإن رسولكم ﷺ يقول: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، والمحافظة على ساعات العمل كاملة واستنفادها في أدائه وبذل الجهد في هذا العمل وعدم استغلاله في منافع شخصية أو مكاسب خارجة عن نطاق الراتب الوظيفي، كل هذا وغيره يعد إتقاناً للعمل وإحساناً فيه، وحقيقة هذا الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.ولا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، والموظف مؤتمن من قبل مسؤوليه على عمله ومطلوب منه أن يؤدي واجبه بكل دقة وأمانة [فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ]

أيها العاملون الشرفاء: إن السرقة بأنواعها .. سرقة الأموال .. سرقة الأوقات هي جرم وذنب عظيم، ولو كانت في أشياء قليلة، «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده». إوفي الحديث «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول، والله يقول:  [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ]»  

يا معشر الشباب: لا يقدح في العمل إلا السآمة والملل، وتثبيط الجلساء من أهل البطالة والكسل، فاستعلوا على الشهوات، ونافسوا في طريق المكرمات واصنعوا لوحة العفة والكرامة في ميدان العمل والكسب الحلال. وأثبتوا بأفعالكم أن أبناء الوطن أهل للثقة في السر والعلن

ويا أبناء المجتمع: كونوا عونا لشباب الأمة في هذا الدرب المحمود، ساندوهم، شجعوهم، أكرموهم، بالمدح والثناء، برفع المعنويات بكلمات التشجيع، واحذروا من أن تكونوا عقبة للشباب في ميدان العمل والعطاء بنظراتكم أو نبراتكم، وقبيح بالموسرين يشترون من المقاهي قهوة بالعشرات ويساومون شابا يتصبب عرقا على ريال ونصف ريال

إن على كل أفراد المجتمع وبكافة طبقاته أن يقفوا مع شباب الوطن تشجيعاً لهم ودعما لتوجههم الصائب وتذليلاً لكل العقبات في طريق عملهم، مع الصبر على أخطائهم وتقصيرهم مع توجيههم وتشجيعهم وعلينا جميعاً أن نطلق صيحات التشجيع وأن نبث كلمات الدعم والمؤازرة في أوساط الشباب العاملين وأن نتسامى على العرف الجاهلي الذي يحول دون العمل والكسب الحلال.

 لست أعتد للفتى حسباً

حتى يرى في فعاله حسبه


اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المشاهدات 622 | التعليقات 0