قطيعة الرحم و اصلاح ذات البين

محمد البدر
1436/07/04 - 2015/04/23 11:43AM
[align=justify]الخطبة الأولى :
أما بعد: قال تعالى:{وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ }.
قال الإمام القرطبي - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: أَيْ اتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَعْصَوْهُ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا.
فإن من الهموم التي تسيطر على كثير من الناس مسألة البركة في المال والرزق والعمر والأولاد ،وقد جعل لله لذلك مخرجا ولكن أكثر الناس لا يعلمون الا وهي صلة الرحم .
فعَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« مَنْ أَحَبَّ أَنَّ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ « تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَمَعْنَى مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ : يَعْنِى زِيَادَةً فِي الْعُمُرِ .
عباد الله: وقد جمع الله بين الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم لشناعة هذا الفعل فقال تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ }.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَلَقَ الله الخَلْقَ. فَلَمَّا فَرَغَ منْهُ، قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بِحَقُوِ الرَّحْمانِ، فَقَالَ لَهُ: مَهْ. قَالَتْ: هاذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ. قَالَ: أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلى يَا رَبِّ! قَالَ: فَذَاكِ».
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إِن شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
يقول السعدي – رحمه الله – عن هذه الآية أي: فهما أمران، إما التزام لطاعة الله، وامتثال لأوامره، فثم الخير والرشد والفلاح، وإما إعراض عن ذلك، وتولٍ عن طاعة الله، فما ثم إلا الفساد في الأرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة الأرحام.
وقد توعد الله الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام بالخسران فقال تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لذا كان لزاماً وجوب صلة الأرحام وتحريم قطيعة الرحم .
وحقيقة صلة الرحم ياعباد الله :أن الواصل الحقيقي هو من يصل أرحامه الذين يقطعونه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وبذلك يزيد أجر المرء الواصل لأقاربه وذوي رحمه المحسن إليهم الصابر على ذلك إذا كانوا يسيئون إليه رغم إحسانه ويقطعونه رغم صلته.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ. فَقَالَ « لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ » رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الْمَلَّ: الرماد الحار .
وقد توعد الله قاطع الرحم بالعقوبة العاجلة في الدنيا :
فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ، من قطيعةِ الرَّحِمِ والخيانةِ والكذبِ، وإنَّ أعجلَ الطاعةِ ثوابًا لَصِلَةُ الرَّحِمِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ لِيَكُونُوا فَجَرَةً ، فَتَنْمُو أَمْوَالُهُمْ ، وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا تَوَاصَلُوا »صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
وقد توعد من قطع رحمه بالحرمان من الجنة كما جاء من حديث عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم رَضِيَ اللهُ عَنهُ ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَةَ قَاطِعٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ سُفْيَانُ : تَفْسِيرُهُ قَاطِعُ رَحِمٍ.
أقول قولي هذا ..

الخطبة الثانية :
أما بعد :فيقول الله جل وعلا : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
ويقول تعالى :{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }.
عباد الله: إن من مقاصد شريعتنا المطهرة اجتماع الكلمة , وتوحيد الصفوف , وتأليف القلوب , وسلامة الصدور ,وتقارب النفوس والنهي عن الاختلاف والتباعد حتى أنه رخص للمصلح أن يكذب وليس بآثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
بل هو مأجور لسعيه في إصلاح ذات البين صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ» قَالَ: «تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ» قَالَ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وإصلاح ذات البين شامل على مستوى الأفراد والأسرة والجماعة والأمة فقال تعالى :{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
وإصلاح ذات البين مرتبط بتقوى الله تعالى قال عز وجل :{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وقال تعالى : {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
ونحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إلى تفعيل هذا الخلق العظيم في مجتمعنا .
الا وصلوا ...
[/align]
المشاهدات 2981 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا