قطع الرحم
سليمان بن خالد الحربي
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ معاشرَ المؤمنين {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلمونَ} [آل عمران:102].
مَعْشرَ الإخوةِ: إن من اللافت في كتاب الله -جل وعلا- كثرةَ تكرارِ حقِّ الأقارب، فما من حقٍّ ولا وصايةٍ إلا وذو القربى يأتي متقدمًا، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى}[النساء: 36]، وقُرِنَت مع إفراد الله بالعبادةِ والصَّلاة والزّكاة، كما جاء في الصحيحين عن أبي أيُّوب الأنصاريِّ -رضي الله عنه- قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ فقال: أخبِرني بعملٍ يدخلني الجنّة، قال: «تَعْبُدُ اللهَ وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ»([1]).
وقد أُمِرَت الأمم قبلَنا بصِلة أرحامِها، قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى} [البقرة: 83]، ودَعا إلى صِلتها نبيّنا محمّدٌ في مَطلع نبوّته، روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبَسَة قال: قدمتُ مكَّةَ أوّلَ بعثةِ النبيّ، فدخلتُ عليه فقلت: ما أنت؟ قال: «نَبِيٌّ»، قلتُ: وما نبيّ؟ قال: «أَرْسَلَنِي اللهُ»، قلت: بِمَ أرسلك؟ قال: «بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ»([2]).
وفي الصحيحين حينما سأل هرقل أبا سفيان عن النبيّ: ما يقول لكم؟ قال: يقول: «اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا»، ويأمرنا بالصّلاة والصِّدق والعَفاف والصِّلَة([3]).
وأمَر بها ؛ أوّلَ مقدمِه إلى المدينة، كما جاء عند الترمذي عن عبد الله بن سَلَام قال: لما قدم النبيُّ المدينةَ انْجَفَلَ الناسُ إليه -أي: ذهَبوا إليه- فكان أوّلَ شيء سمعتُه تكلم به أن قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ»([4]).
نعم، أهلُ الجنةِ والإيمان هم الواصلون غير المؤذين والقاطعين لأقاربهم، روى مسلم في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلم، وَرَجُلٌ غَنِيٌّ عَفِيفٌ مُتَصَدِّقٌ»([5]).
ولهذا جعل اللهُ لأقاربِ رسول الله حقًّا، فقسمَ لهم في الغَنِيمةِ ولو لم يشاركوا في الحرب، وجعل لهم حقًّا في المحبة والموالاة أكثر من غيرهم، وأوجبَ الله على الناس أن يُؤْتوا أقاربهم وينفقوا عليهم، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالمسْكِينَ} [الإسراء:26].
وأوجب الله على أقارب القاتل خَطًَا الديةَ عليهم وهم لم يعملوا شيئًا، وجعل لهم مالَكَ الذي تملكه بعد وفاتكَ، ولا تستطيع أن تمنَعَهُم منه، يقول الشعبيّ -رحمه الله-: «ما ماتَ ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ إلاّ وقضيتُ عنه دينه»([6]).
كل هذا وغيره يوجب أن ننظر إلى الأقارب نظرةً مختلفةً عن بقية العلاقات، وبعد هذا إنه لمن العجب أن ترى من يقطع رحمه، ويؤذي أقاربه، ويتسلط عليهم بكل ما يستطيع، وتناسى وصية الله بالأقارب، والله يقول في أول وصية في سورة النساء: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، أي: واتقوا الله في أرحامكم، ثم فصل في هذه السورة العظيمة حقوق الأقارب وكرر الوصية بهم.
ألا يخاف قاطعُ الرحم ومؤذي أرحامه من لعنة الله؟ نعم، قاطعُ الرحم ملعونٌ مطرودٌ، قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]، فما هو جزاء عملهم؟ {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23].
وتأمل كيف جمع الله بين القطيعة والإفساد في الأرض، فإن من أعظم الفساد في الأرض قطعَ الأرحام وإيذاءَهم، وقد ذكر الله هذا أيضا في كتابه، كما قال: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[الرعد: 25].
قاطعُ الرحمِ مقطوعٌ من الله، هكذا حكم الله -جل وعلا- جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «أنَّ اللهَ قَالَ لِلرَّحِمِ: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ فَذَاكَ لَكِ». ثُمَّ قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد: 23-24]» ([7]).
أيُّ دِينٍ هذا الذي تحرص به على حب الأبعدين وتلمس حاجاتهم وأنت قاطع لرحمك مؤذ لأقاربك؟! أي دين وقريبك يتلوى من ظلمكَ له ومن فجورك؟! أي دين هذا الذي يجعلك تتمنى الأذية له وشماتة الناس به؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَمَنْ يَعْلم أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الميثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:19 - 21].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.
أمَّا بَعْدُ:
مَعْشرَ الإخوةِ: إن الرحم تَئِنُّ في زماننا بسبب فظاعةِ صور القطيعة، وتُتوارث عبر الأجيال، جيلًا بعد جيل، ومن تَسَبَّبَ بها فعليه وزرها ووزر من تبعه بالهجر والقطيعة إلى يوم القيامة؛ لأنه هو من دعا إلى القطيعةِ والهجر، كيف يرضى المرء أن يُورث لأبنائه وإخوانه وأهله قطيعةَ الأقارب وبغضهم والتضييق عليهم وتكدير صفوهم؟ كيف يرضى بهذا وهو يؤمن بالله ويؤمن بقدرة الله على إنفاذ وعيده؟! والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول -كما في الصحيحين-: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ»([8]).
قال ابن حجَر: (القاطعُ للرّحم منقطِعٌ مِن رحمة الله)([9]).
وعقوبتُها معجَّلة في الدّنيا قبلَ الآخرة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الترمذي من حديث أبي بَكْرَةَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلُ اللهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ -أي: الظلم- وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»([10]).
وهي سببٌ للذِّلَّة والصَّغار والضَّعفِ والتفرُّق، مجلبةٌ للهمِّ والغمِّ.
قاطعُ الرَّحم لا يثبُت على مؤاخاة، ولا يُرجَى منه وفاءٌ، ولا صدقٌ في الإخاء، يشعر بقطيعةِ الله له، ملاحَقٌ بنظرات الاحتِقار مهما تلقَّى من مظاهِر التبجيل.
لقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يستوحِشون مِن الجلوس مع قاطِع الرّحم، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: «أُحَرِّجُ عَلَى كُلِّ قَاطِعِ رَحِمٍ لما قَامَ مِنْ عِنْدِنَا»([11]).
وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- جالسًا في حلْقةٍ بعدَ الصبح فقال: «أَنْشُدُ اللهَ قَاطِعَ رَحِمٍ لما قَامَ عَنَّا فَإِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَدْعُوَ رَبَّنَا، وَإِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ مُرْتَجَّةٌ -أي: مغلقة- دُونَ قَاطِعِ الرَّحِمِ»([12]).
ومن كان بينه وبين رحمٍ له عداوةٌ فَلْيبادِرْ بالصِّلة، ولْيعفُ ولْيصفحْ، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، إنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين، يتعرّضون للزَّلَل، ويقَعون في الخَلل، وتصدُر منهم الهَفوة، ويقَعون في الكبيرة، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم، فإنَّ العفوَ من شِيَم المحسنين، وما زادَ الله عبدًا بعفوٍ إلاّ عِزًّا، وقابِل إساءَتهم بالإحسان، واقبل عُذرَهم إذا أخطؤوا، لقد فعل إخوة يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا، وعندما اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل، ولم يوبِّخهم، بل دعا لهم وسأل الله المغفرةَ لهم، قال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].
غُضَّ عن الهفَواتِ، واعفُ عن الزَّلَّات، وأَقِلِ العَثرات، تجنِ الوُدَّ والإخاء واللينَ والصفاء، وتتحقَّق فيك الشهامةُ والوفاء. داوِم على صِلة الرّحم ولو قطعوا، وبادِر بالمغفرة وإن أخطؤوا، وأحسِن إليهم وإن أساؤوا، ودَع عنك محاسبةَ الأقربين، ولا تجعَل عِتابَك لهم في قطعِ رحمِك منهم، وكُن جَوَادَ النَّفس كريمَ العطاء، وجانِبِ الشُّحَّ فإنّه من أسباب القطيعة، كما جاء في مسند أحمد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ؛ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلم فَظَلموا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا»([13]).
واعلموا أن الصِّلَةَ دَرَجَاتٌ بَعْضهَا أَرْفَع مِنْ بَعْض، وَأَدْنَاهَا تَرْكُ المهَاجَرَة، وَصِلَتهَا بِالْكَلَامِ وَلَوْ بِالسَّلَامِ، وَيَخْتَلِف ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْقُدْرَة وَالْحَاجَة، فَمِنْهَا وَاجِبٌ، وَمِنْهَا مُسْتَحَبٌّ، وَلَوْ وَصَلَ بَعْض الصِّلَة ولم يَصِل غَايَتهَا لَا يُسَمَّى قَاطِعًا.
([1]) أخرجه البخاري (2/505، رقم 1332)، ومسلم (1/42، رقم 13).
([2]) أخرجه مسلم (1/569، رقم 832).
([3]) أخرجه البخاري ( 1/7، رقم 7)، ومسلم (3/1393، رقم 1773).
([4]) أخرجه الترمذي (4/652، رقم 2485).
([5]) أخرجه مسلم (4/2197، رقم 2865).
([6]) سير أعلام النبلاء (4/298-299).
([7]) أخرجه البخاري (4/1828، رقم 4552)، ومسلم (4/1980، رقم 2554).
([8]) أخرجه البخاري (5/2231، رقم 5638)، ومسلم (4/1981، رقم 2556).
([9]) فتح الباري (10/418).
([10]) أخرجه الترمذي (4/664، رقم 2511).
([11]) الأدب المفرد (1/35، رقم 61).
([12]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/158، رقم 8812).
([13]) أخرجه أحمد (2/191، رقم 6792).
المرفقات
1707398975_قطع الرحم.docx