قضيتنا الكبرى
ناصر محمد الأحمد
1437/01/07 - 2015/10/20 02:42AM
قضيتنا الكبرى
10/1/1437هـ
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: قضية فلسطين هي القضية الكبرى لهذه الأمة، ويجب أن تبقى هي القضية الأم. والكل يتابع هذه الأيام ما يجري هناك من كثرة قتل اليهود يومياً لشباب فلسطين.
ليست قضيتنا مع اليهود قضية أرض مجردة يمكن أن نتقاسم فيها النفوذ وأن نتعايش بسلام، كلا. فالقضية قضية مقدسات إسلامية، وحقوق مغتصبة، قضية حق يمثله الإسلام والمسلمون تُطمس هُويته ويُشرد أبناؤه، وباطل تمثله اليهودية المحرفة، وينتصر له اليهود المغضوب عليهم والنصارى الضالون، فقضيتنا لها بُعدها العقدي ولها امتدادها التاريخي.
وليست قضية فلسطين بمقدساتها وتاريخها قضية العرب وحدهم كما يريد الغرب ومن سار في ركابه أن يُشيعوه، بل هي قضية كل مسلم على وجه البسيطة يؤمن بالإسلام ويستشعر عداوة اليهود والنصارى للمسلمين، وينتمي لهذه المقدسات.
والقضية كذلك ليست حقاً خاصاً لمسلمي اليوم يتصرفون فيها كيفما شاؤوا، ويتنازلون إذا اتفقوا، كلا. بل هي ميراث وأمانة. ميراث عن الآباء وأمانة لا بد من تسليمها للأبناء. فقد فتحها أسلافنا بدمائِهم، وحرروها بصدق عقيدتِهم وجهادِهم، ولا يحق لنا أن نُهدِر هذه الجهود حين غاب المحررون، كما لا يسوغ لنا أن نحجر على مسلمي الغد فنكبلهم بمعاهدات سلام هزيلة، ونبيع حقنا وحقهم بأبخس الأثمان.
أيها المسلمون: ما هي اللغة التي تفهمها إسرائيل ويحتاجها العرب والمسلمون؟ إنها لغة القوة، وبهذه القوة استسلم اليهود عبر التاريخ، وإذا تجاوزنا تاريخهم قبل الإسلام، ووقفنا عند تاريخهم في المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين رأينا كيف كان غدرهم ونقضهم للعهود، ورأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يتعامل معهم بالحصار والإجلاء، بل وتقديم طوائف منهم لتُحصد رؤوسهم ويساقون إلى الموت وهم ينظرون.
إننا نخادعُ أنفسنا حين نعتقد أن إسرائيل جادةٌ في تحقيق السلام، والواقع يشهد بإفلاس المسرحيات الهزيلة للسلام، من كامب ديفيد بمراحله المختلفة وأدواره المكشوفة، إلى مدريد أو غيرُها من محطات السلام استَسمن المخدوعون بالسلام ورماً، فإذا الجملُ يلد فأراً، وإذا الانتقام يعقب السلام ومدادُه لم يجف بعد، فتتحدثُ الديانة المجنـزَرة باسم السلام الذي تريده يهود، وينطق الرشاس، وتحوم الطائرات المروحية، وتُرمى الطلقات المطاطية وغيرُها بشكل عشوائي لتصيب الأطفال والنساء والشيوخ. وتلك هي لغة السلام في ذهن إخوان القردة والخنازير؟!.
وهنا وقفة إشادة وتقدير لأطفال الحجارة الفلسطينيين الذين أرعبوا اليهود، لكن السؤال المهم: هل بلغت أمة المليار حداً من الضعف حتى أنابت عنها في قتال الأعداء أطفالاً لا يملكون إلا الحجارة يقاتلون بها اليهود ويرهبون بها مَنْ وراء اليهود؟. وفي المقابل فإن أمة مدججة بالقوة وتُعِدُّ ترسانة للسلاح النووي وغيره، يُرهِبها أطفال عزل من السلاح، ليست خليقة بالبقاء ولا قادرة على الصمود والتحدي حين يتوفر المجاهدون الصادقون، عجَّل الله وجودهم.
ومن هنا يُعلم سر تخوف الغرب واليهود من تنظيمات الجهاد وصيحات المجاهدين وما يسمونهم بالأصولية، ومحاولاتهم تشويه صورتهم ووصف المجاهدين بالإرهابيين، ذلك لأنهم يدركون أن هؤلاء عدوُّهم الحقيقي، وهؤلاء هم خطرهم المستقبلي، يصرحون بذلك في كتبهم ولا يكتمونه.
يا للخيبة والعار حين يُسارع ممثلو الفلسطينيين لاستجداء الآخرين في صفقات السلام الهزيل وهم المعتدى عليهم، في الوقت الذي يرفض فيه زعماء إسرائيل حضور هذه الملتقيات وهم المجرمون المعتدون؟. والمتأمل في الأحداث الجارية مع اليهود في فلسطين يلاحظ حماساً وعاطفةً إسلامية تَنفُذ في قلوب الشعوب العربية والإسلامية منددة باليهود، ليس فقط في حدود فلسطين بل وخارجها.
ولا تزال الشعوب العربية والمسلمة تتطلع إلى قرار جماعي وموقف بطولي يضع حداً لعنف اليهود وينهي مرحلة الذل والاستسلام.
إن سؤالاً وجيهاً يطرح نفسه: كم في العالم العربي والإسلامي من هيئة ومنظمة إسلامية، فأين دورها؟ وما أثر هذا الدور في خدمة القضية؟ وهل يقارن أثرها وجرأتها بالمنظمات والهيئات الغربية؟ أم أصيبت بنوع من الإحباط لكثرة رزايا المسلمين، سواء كان هذا أو غيره من الأسباب فلا يُسوَّغ صمتُها في بيان الموقف الإسلامي بعيداً عن أي مؤثراتٍ أخرى، ولا يعفيها من المسؤولية إن جاء صوتها متأخراً وهزيلاً؟ وأي هيئة أو منظمة إسلامية لا يعنيها شأن المقدسات ولا تستنكر نزيف الدماء المسلمة، ولا تندد بظلم الطغاة والمجرمين فماذا تُقِرُّ؟ وماذا تستنكر؟.
أيها المسلمون: وأقف ويقف غيري متسائلاً: وماذا ستتمخض عنه هذه المشاعر العربية والإسلامية الغاضبة تجاه ما يصنعه اليهود اليوم في أرض المقدسات؟ ولئن قيل إنها ستنتهي عند حدود الشجب والاستنكار كما حدث في مجزرة الخليل ومذبحة صبرا وشاتيلا وسواها من أحداث دامية ارتكبها اليهود، وهي مسطورة في تاريخهم الأسود، فهناك من يقول: إنها وإن كانت كذلك في المنظور القريب، فإنها على المدى البعيد ستشكل هذه المآسي أرضية تنبت العزة والكرامة لدى الشعوب العربية والمسلمة، وستكون سلاحاً يُقاتل به اليهود، وسينشأ في هذه المحاضن الصعبة أطفال يرضعون كره اليهود ومن شايعهم مع حليب أمهاتهم، وسيكونون رجال المستقبل يقاتلون وهم صادقون، ويصبرون حتى ينتصروا.
إنها مأساة حين يتفرج أبناء الملل الأخرى على ما يحصل لأبناء المسلمين ولسان حالهم يقول: أين أهلُ هؤلاء؟ أين أبناءُ ملتهم؟ أليس دينهم يقول لهم: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ( الحجرات : 10 ) أليس بينهم من يقول لهم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فأين حقوق الأخوة؟ وأين وسائل النصرة؟.
(قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ( التوبة : 14-15 ).
لقد نجح الفلسطينيون في التعبير عن مشاعرهم، وأثبتوا لأنفسهم وللعالم أنهم لن يستسلموا لبني صهيون وإن لم تكن قوتهم مكافئة أو مقاربة لقوة عدوهم، وصَدَق المسلمون في صِدق مشاعرهم ومؤازرتهم لإخوانهم، وجددوا أمام العالم حرصَهم وانتماءَهم لعقيدتهم ومقدساتهم.
نعم إن قضية فلسطين مسؤولية إسلامية لا تقبل المزايدة! وسيحتفظ التاريخ بسجلات مواقف البطولة المعاصرة كما حفظ البطولات والمواقف السابقة، وسيسجل في مقابل ذلك كل موقف متخاذل، وكل مزايدة على هذه القضية العالمية المشروعة، وعلى العرب والمسلمين شعوباً وحكومات أن يختاروا نوعية المداد وطبيعة الموقف الذي يسجلونه ويتخذونه لقضية فلسطين، وما يَخفى اليوم يظهر غداً، وما يظل غائباً عن أعين البشر فسينكشف يوم التلاق.
وتبقى أمة الإسلام أمة فيها خير، يتجدد الإيمان في نفوسها كلما تعاظم الأعداء واشتدت الحاجة وادلهمَّ الظلام، وهذا كله محبطٌ للأعداء، ومشعر لهم بإفلاس وسائلهم في الإفساد، ومؤشرٌ إلى أن النصر في النهاية لهم بإذن الله تعالى.
ينبغي ألاَّ نضيِّع هذا الرصيد من المشاعر بتفريغه في ساعات المحنة ثم تغيب القضية عن أذهاننا، بل إن من أبرز مكاسب الانتفاضة أن تظل قضية فلسطين حُلماً ماثلاً في أذهاننا، وأن تظل المقدسات الإسلامية هدفاً مهماً نسعى جاهدين لتخليصها ممن غضب الله عليهم ولعنهم، وأن يستمر دعمنا لإخواننا في فلسطين بأموالنا وعواطفنا وأنفسنا حتى يُرفع الظلم عنهم ويُجلى العدو من أرضهم، ذلك درس مهم، وذلك تحدٍ يواجه المسلمين في المستقبل، فهل يستمرون في حماسهم لقضيتهم حتى يقضي الله بينهم وبين عدوهم؟ ذلك ما نرجو ونأمل.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: الكل يتابع هذه الأيام الأحداث المتطورة في فلسطين.
لقد ضاعت فلسطين يوم ضاعت الراية الإسلامية وحلّت بدلاً منها القومية العربية والعلمانية، لقد ضاعت فلسطين يوم سقطت الثورة العربية لدعاة القومية العربية في الوحل ودخلوا مع القائد اللنبي فلسطين عام 1917م لطرد العثمانيين، ضاعت فلسطين يوم دخل العرب مع اللنبي الصليبي لطرد الأتراك المسلمين. يقول الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله: "إن الدعوة إلى القومية العربية كما أنها إساءة إلى الإسلام ومحاربةً له في بلاده، فهي أيضاً إساءة إلى العرب أنفسهم وجناية عليهم عظيمة لكونها تفصلهم عن الإسلام الذي هو مجدهم الأكبر وشرفهم الأعظم ومصدر عزهم وسيادتهم على العالم". انتهى ..
كانت النكبة القاصمة لفلسطين يوم نُحيّ الإسلام عن قيادة المعركة، نحيّ عنها لتتولاها الجاهلية في صورة من صورها: قومية كانت أو علمانية أو ليبرالية أو غيرها.
يا درّة حُفظت بالأمس غاليةً واليوم يرجونها للهو واللعبِ
هل يستوي مَن رسول الله قائدُه دوماً وآخر هاديه أبو لهبِ
ولن تعود القدس إلاّ براية من الكعبة، وسامها من غار حراء، ونشيدها من بدر، وتعاليمها من السماء.
لقد حَصروا قضية القدس في مضيق القومية الضيق وما علم المنكودون أن أمتنا عالمية، وقضية القدس من هذه الواجهة عالمية، لأنها قضية كل مسلم، يبكي لمصابها الراكعون الساجدون على ضفاف الكنج، وصحراء سنجار، وشواطئ النيل والفرات، ومضيق الدردنيل، وجبال قندهار.
ومما يؤسف له أنه حينما أراد العدو الصهيوني إقامة سفارة له في القاهرة أصرّ اليهود على أن يكون موقع السفارة على الجهة الغربية من النيل.
هل تعلمون لماذا؟.
لأن حدودهم تنتهي عند الضفة الشرقية، ولذلك رفض اليهود إقامة السفارة على الضفة الشرقية وأصرّوا على أن تكون على الضفة الغربية احتراماً لعقيدتهم في أن حدود إسرائيل الكبرى تنتهي عند الجهة الشرقية من النيل.
ولله در الشاعر حين قال:
كم أشرقت في سماء المجد رايات ورُتلت في رحاب الخير آيات
وكان رائدنا يحدو مسيرتنا الله غايتنا الرحمن لا اللات
ودولة الحق بالإسلام تحكمنا واليوم تحكمنا ظلماً دويلات
تقود أمتنا للحرب غانيةٌ والجيش في الزحف قد ألهته مغنات
الزّق والرّق والمزمار عدتنا والخصم عدته علم وآلات
وشرعة الله في القرآن نهجرها وشرعة الخصم تلمود وتوراة
لن يحرر فلسطين إلا طلاب العز بن عبدالسلام، وتلاميذ عز الدين القسام، وستعود القدس على أيدي من يصلي ويطوف ويجاهد بين الصفوف.
إن فلسطين إسلامية النسب وليست عربية فحسب، ولذلك كان صلاح الدين فاتح القدس من الأكراد، والسلطان عبدالحميد ناصر فلسطين من الأتراك الأجواد، وبعض العرب باعوها مع كل أسف في سوق المزاد:
بعها فأنت لما سواها أبيعُ لك إثمها ولها المكان الأرفعُ
لن تعود فلسطين عن طريق الملحدين ولا عن طريق الوحدويين، وإنما تعود تحت رايات الموحدين.
فلسطين غاب سلاطينها فأفلس طينها، وهي تنتظر كتائب الموحدين مع الصباح لتنادي حي على الفلاح، وسيعود الحق إلى أصحابه، والسيف إلى نصابه، وستعود بإذن الله الوديعة إلى واليها، والطفلة إلى أبيها، والدار إلى راعيها:
لا تُهيئ كفني ما مِتُّ بعدُ لم يزل في أضلاعي برقٌ ورعد
أنا تاريخي ألا تعرفه خالد ينبض في قلبي وسعد
أيها المسلمون: إن الجهاد على أرض فلسطين أفضل جهاد على وجه الأرض لمن قدر عليه بمال أو نفس أو قول أو دعاء، ولذا فإن نجدتُهم حق واجب، ونصرُهم فرض لازم على جميع المسلمين، وفي المقابل فإن خذلانهم أو التهاون في مناصرتهم ورفع الظلم عنهم ذنب عظيم وجرم كبير يتحمله الجميع، وأيضاً فيها تضييع فرصة كبيرة في تحطيم آمال الصهيونية وتعريض للمسلمين جميعاً لخطر مدلهم، فإن لم يغتنم المسلمون اليوم الفرصة فسيندمون على فواتها إلى أمدٍ الله أعلم به، وإن تغييب الأمة عن ذلك وإشغالها باللهو واللعب يبلغ درجة الإجرام في حقها وحق قضاياها.
وأما أنتم يا مجاهدي فلسطين، يا من ترابطون هناك، يا من تعيشون هذه الأيام أياماً مأساوية، تقدمون كل يوم عشرات الشهداء ومئات الجرحى، فإنا نقول لكم: إن أمل الأمة بعد الله معقود عليكم فاصبروا وصابروا ورابطوا فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، وأن النصر مع الصبر، وأن موقف العدو الصهيوني اليوم هو أكثر ما يكون حرجاً وشدة، فقد انحصرت الخيارات أمامه في خيار واحد هو الاستمرار في العنف والإبادة، إن تراجع عنه فهو إقرار بالهزيمة وبداية للانقسام، وإن استمر فيه فسيقع في الهاوية بإذن الله تعالى، فإن كل عملية تقومون به تزيد القوم رعباً وخوفا، ويكثر بينهم الشحناء والخلافات في المواقف، بل ويزيد من عدد المهاجرين ويحمّل اقتصاد إسرائيل الكثير التي نسأل الله تعالى أن يعجل بزوالها.
اللهم إنا نسألك أن تعجل بالنصر لإخواننا المسلمين في فلسطين. اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين على أرض فلسطين. اللهم العن اليهود والنصارى ومن شايعهم. اللهم أنزل عذابك ورجزك على اليهود يا رب العالمين. اللهم إن اليهود قد بغوا وتعدوا وقتلوا إخواننا فنسألك اللهم باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سُألت به أعطيت أن تحصهم عددا وأن تهلكهم بددا ولا تغادر يا ربي منهم أحداً. اللهم انصر دينَك وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادَك الصالحين، اللهم واحفظ دماء المسلمين وأعراضهم في كل مكان، اللهم وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، ووحد صفهم، وبلغهم فيما يرضيك آمالهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره واجعل اللهم تدبيره تدميراً عليه. اللهم أحقن دماء المسلمين واحمى اللهم نساءهم وأطفالهم وشيوخهم وبلادهم وأموالهم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة ..
المرفقات
844.doc