قصتي مع سمك القرش (خطبة)
الفريق العلمي
المشاهدات 3812 | التعليقات 6
مؤثرة بارك الله فيكم
إليك الخطبة أخي الكريم :
خطبتي اليوم كلها عبارة عن قصة، ولكنها ليست قصة عادية، إنها قصة أعجب من الخيال، وأغرب من المحال، ومع أنها طويلة، لكنها شيقة ومثيرة، مليئة بألطاف الله وعجائب صنعه، حدثت هذه القصة الرهيبة، لأحد الغواصين المهرة، ذوي المراس والخبرة، لكن إذا جاء القدر، عميت البصيرة والبصر، ولم تنفع الخبرة ولم يغن الحذر.
وسأنقل لكم ما كتبه صاحب القصة بيده: بعد أن اختصرت منه شيئاً كثيراً، وتصرفت فيه تصرفاً يسيراً، ولئن كنت غيرت بعضاً من أسلوب الكتابة ليناسب منبر الخطابة، فقد أبقيت مضمون القصة، وترتيب أحداثها كما هو.
يقول صاحب القصة: اعتدت أن أذهب مع صديقين لي للغوص والصيد مرتين في الشهر.
خرجنا كعادتنا ضحى الخميس، ووصلنا بقاربنا إلى المنطقة التي نريد عند الظهر، وكانت تبعد قرابة العشرين كيلو داخل البحر، ولشدة الأمواج أنزلنا مرساتين زيادة في الحرص، وخوفاً من انفلات القارب، تأكدنا من تثبيت المرساتين، ثم نزلنا للغوص، كان الموج قويًا، ولكن الصيد كان وفيرا، وبعد 40 دقيقه صعدنا إلى ظهر القارب للراحة.
تأكدنا مرة أخرى من ثبات المرساتين، ثم نزلنا للغطسة الثانية، كانت الساعة الثالثة والنصف تقريباً، وبعد نصف ساعة اكتشفنا أن المرساتين قد انقطعتا، وأن القارب قد ابتعد عنا، شعرنا بشيء من القلق والخطر، إلا أنني وبدون تفكير، قررت اللحاق بالقارب، ألقيت بستره الغوص واسطوانة الهواء والبندقية، وانطلقت في إثر القارب بكل سرعتي.
فإمّا القارب، وإمّا الله أعلم ماذا يمكن أن يحدث لنا، كانت الساعة الرابعة عصراً، وبعد ساعتين من السباحة المتواصلة والمجهدة، أدركت أن المهمة لن تكون سهلة، فقد بدأت المسافة بين وبينه تزداد بعداً، ومع ذلك فقد شجعت نفسي، وتابعت سيري، فهدفي لا يزال أمامي، بدأت الشمس بالغروب، والقارب يزداد بعداً، فضاعفت جهدي لعلي ألحق به، لكن سرعان ما خيم الليل، وابتلع الظلام كل أثر للقارب، وهنا توقفت أنظر وأسترجع، وألوم نفسي، وأتساءل كيف حدث كل هذا؟
نظرت إلى مدينة جدة من مكاني، فإذا أنا لا أكاد أرى منها إلا نافورتها العالية، وبعض معالمها الكبيرة، تتلألأ أضواؤوها من بعيد، وتأملت نفسي، فإذا أنا وحيدٌ في عرض بحر مفتوح، بين أمواج عاتية، وظلام دامس، وبرد قارس، شعرت بحراجة الموقف، وخطورة الوضع.
وهناك! حيث لا يسمعني إلا الله، ولا يراني إلا الله، بدأت أناجي خالقي العظيم، وأدعوه أن يُخرجني من هذا المأزق العصيب، والكرب الأليم، ودعوت الله بدعاء نبيه يونس عليه السلام: (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
عسى الله أن يُخرجني كما أخرج نبيه مما هو أعظم، فتذكرت آنذاك أنه قد فاتتني صلاة العصر، فتوضأت من ماء البحر وصليت، وقرأت المعوذات وما أحفظه من أذكار الحفظ، ونفثت في يديَ ومسحت بهما كل جزء من جسمي، ولأول مرة في حياتي، أجد للوضوء والأذكار معنى غير المعنى الذي كنت أجده وأنا على اليابسة، آمنـًا مطمئنا.
وحقيقة فقد تعجبت كثيراً، كيف لم يداهمني الخوف والقلق آنذاك، كيف صمدت وظللت محتفظاً بكل هدوئي وسكينتي، وسط تلك الظروف العصيبة، فعلمت أنه ليس إلا رحمة الله ولطفه، لقد كان في قرارة نفسي، اعتقاد قويّ أن كرم الله ولطفه سيخرجني من هذه المحنة، وأن بعدي هذا سيقربه الله، وأنه سبحانه سيأخذ بيديَ حتى أصل وأنجو.
كان لابد لي أن أستمر في السباحة، فالموج عالٍ، والوقوف يعنى الغرق، كما أنني أخطأت حين تخففت من سترة الغوص، فالجو بدأ يبرد، وهي تساعد على الطفو، نظرت لنفسي وما حولي من البحر الممتد، والفضاء البعيد، سواد في سواد، شعرت أنني لا أعدو أن أكون نقطة صغيرة، لا وزن ولا حجم لها، وبدأت أستعيد يومي، وأتساءل عن صديقاي، ماذا حل بهما.
صرخت بأعلى صوتي لعلهم قريبون منى فيسمعوني، ولكن دون جدوى، رأيت أنوار بعض الصيادين من على بُعد، لكنها ما لبثت أن اختفت، كانت النافورة هي أوضح ما أرى، كما تراءى لي أحد الأبراج وبجواره مبنى كبير، فقررت السباحة في اتجاه المبنى ولكنني بعد ساعات من السباحة الجأهدة، وجدت أني لم أحقق أي تقدم، فالمسافة بيني وبينه ثابتة لا تتغير، كما تغير أثناءها اتجاه الرياح، وبدأ يأخذني نحو الميناء، حيث الخطر المحقق، نظراً لكثرة السفن العملاقة، والتي حتما ستسحقني إن دخلتُ في منطقتها، ومن سيسمع صوتي أو يراني في هذا الخضم المظلم، وبدأتُ أناجي ربي، وأصرخ بأعلى صوتي وأدعوه دعاء المضطر، وبدأت أحاسب نفسي، وأسترجع سنوات عمري، وأتساءل: أغاضب أنت علي يا ربى؟، تسابقت في رأسي الأفكار، وأصبحت في سباق مع الزمن، استشعرت أن كل لحظة هنا، لها وزنها وقدرها، وأصبحت أشعر أن كل دقيقة تمر بي، ربما تكون هي الأخيرة، فأحث نفسي على استثمارها، وأتوجه بقلبي وكُلي لربي، أستغفر وأتوب وأسترجع، وأطلب منه أن يرضى عني قبل أن ألقاه في الحياة الخالدة.
لا زالت يداي تجدف بما بقي فيها من قوة، خشية الغرق وأملاً في النجاة، ونشط عقلي يسترجع كل شريط عمري، وما قدمتُ لحياتي، وأستمر قلبي يدعوا بكل قوة، ليغسل كـل ما جنيت، ولعلي ألقى ربي بقلب سليم.
لم تهتز ثقتي برحمه ربي، لكنني بدأت أضعف، داخلني إحساس بأن لحظة الموت قد اقتربت، وأن ليلتي هذه، هي الليلة الأخيرة، بدأت أفقد قواي، وأصبح احتمال الموت قوياً، بل إني بدأت استسلم للغرق، لكن رحمة الله جعلتني استجمع ما بقي في من قوة، حين رأيت بعض الصيادين، فجاهدت للوصول إليهم، لكن دون جدوى، ثم رأيت كشافات قوية، فانبعث في نفسي الأمل، توقعت أنهم حرس الحدود، وأنهم في طريقهم إليَ، ولكنهم غيروا اتجاههم فجأة، فأصابني إحباط شديد، إلا أن خيوط الفجر أدخلت إلى نفسي الأمل من جديد، بدأ الليل ينقشع، واكتشفت أنني قد ابتعدتُ عن الشاطئ كثيرًا، وحين بدأ نور النهار يسفر، توضأت وصليت الفجر، هذا هو يوم الجمعة، وتلك ليلته، وقد مضى علي منذ بداية محنتي أربعة عشر ساعة، نظرت فرأيت من على بُعـدٍ مِدخنة محطة التحلية، فجعلتها هدفي الجديد، وفجأة رأيت صيادًا على مرأى مني، فأخذتُ أسبحُ إليه بكل قوتي، فلما اقتربت منه رأيته يرفعُ المرساة ليغادر، فصرخت بكل صوتي، فتوقف كالذي سمع صوتـًا، ولكن الموج حال بينه وبين أن يراني، فمضى في طريقه بعيداً عني، ثم رأيتُ صيادًا آخر، وكررتُ المحاولة، ومرة أخرى يحول الموجُ بيننا، فيذهب بعيداً، دون أن يراني أو يسمع صراخي، قررت أن أثبت باتجاه المحطة، حيث كان اتجاه الرياح، وسبحت بفضل الله، مدة عشر ساعات متوالية، أحرزت فيها تقدماً كبيراً، حتى أصبحت مقابل المدخنة تقريباً، ولكني عانيت خلالها الأمرين، فالشمس أحرقت رأسي وشوت جسمي، وبدلـة الغوص ضايقتني وقطّعت لحمى، ورأيت فرقاطة لحرس الحدود، فخلعت زعانفي وأخذت ألـوّح بها، وأصرخ بأعلى صوتي، ولكن كعادة الموج حال بيني وبينهم، فضاع صراخي دون أن يصل إليهم منه شيء، ثم رأيت طائرة للدفاع المدني، ولكنها كانت بعيدة عني، فلما فقدت الأمل فيهم، تابعت سباحتي، وأخذت أسابق الزمن لاستغلال ما تبقى من النهار، وعبثت بي أحلام اليقظة، فتخيلت لحظة وصولي للشاطئ، وشربي للماء البارد، وذهابي للبيت.
وازداد عطشي، فلم أعد أحتمل، فشربت بعض الماء المالح، وتذكرت قول الله: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة: 68 – 69 – 70].
وتذكرت نصيحة الأطباء لي بأن أُكثر من شرب الماء حتى لا تتأثر كلاي بحصى الأملاح، كما حصل معي قبل ثلاثة أسابيع، حين باغتني ألم رهيب، لم تُجد فيه أشد أنواع المسكّنات، فدعوت الله أن يلطف بي، وأن يصرف عني ألم الكلى، فلو باغتني ذاك الألم الآن، فإنه سيعني موتاً حتمياً.
ضاعفت مجهودي لكي أصل إلى الشاطئ قبل الغروب، وفجأة تحول اتجاه الرياح لضدي، فاستخرت الله، بدعاء الاستخارة المعروف، فإذا باتجاه الرياح يتغير إلى التحلية مرة أخرى، لكن الشمس بدأت بالغروب، اقتربت من التحلية، وإذا بي اسمع الأذان، لكأني أسمعه لأول مرة، الله أكبر، الله أكبر، أمل كبير برب كبير، نعم فالله أكبرُ من كل محنة، ولطفه الخفي، من وراء كل شدة، كان هذا الأذان الجميل، هو أول صوتٍ بشري أسمعه على مدى الأربع والعشرين ساعة الماضية، فكان بمثابة البشرى، أن الله الرحيم، سينجيني بلطفه الكريم، من هذا الكرب العظيم، وإن طالت معاناتي، واشتدت آلامي، توضأت وصليت المغرب، وأكملت مسيري نحو التحلية.
ومرة أخرى يتغير اتجاه الرياح، لتدفعني الأمواج من جديد نحو الداخل، بعيداً عن الشاطئ، ولتذهب هباءً، كُل جهودي منذ الفجر وحتى الآن، وأصابني الإحباط من جديد، لكن: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
فقد حمدت الله كثيراً، حين علمت فيما بعد، أن ذلك من كريم صنع الله بي، وأنه صرف عني شراً كبيراً، فلو أني اقتربت من محطة التحلية أكثر، لدخلت في مجال شفاطاتها الضخمة، ولكان موتاً محققاً.
وهنا باغتني الشيطان، وخيل إليّ أني أسمع صوته عالياً من بين الأمواج، وأنه يقول لي مستهزئاً: لقد خذلك ربك، إنما يريد أن يعذبك ويذلك ويلعب بك، وستموت بعد ذلك لا محالة، أنظر حولي جيداً، فلا أرى ولا أسمع إلا الأمواج، تتلاطم فوق بعضها، لكنني لا أزال أتخيل أن هذا الصوت الساخر يأتي من بينها، أسرعت بالوضوء، ثم دعوت الله باسمه الأعظم، ثم قرأت المعوذات ونفثت في يديّ ومسحت كل جزء من جسدي، ثم صرخت بأعلى صوتي قائلاً: يا معين أعني، يا مغيث أغثني، ثم ختمت دعائي بالصلاة على سيد الخلق أجمعين، فإذا بي اسمع أذان العشاء، فكان سكينة لنفسي وطمأنينة.
وللمرة الثانية يداهمني الليل، وأنا أصارع أمواج البحر، ومعها أمواج الظلام والجوع والعطش، ازداد شعوري بضعفي وعجزي، وتيقنت أني لا أملك من الأمر شيئا.
ألا ما أشد ضعفك يا ابن أدم، وما أجرأك على خالقك، وأنت من أنت، وهو من هو سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الإنفطار: 6].
تجمدت من البرودة، واشتدت علي القشعريرة، وأخذ كل جزء من جسمي يصرخ من الألم، وبلغ مني الإرهاق والإعياء كل مبلغ، خارت قواي، ووصلت إلى نقطة الاستسلام، استسلمت فعلاً، وأصبحت أفضل الموت على الحال التي أنا فيها، ناجيت ربي : يارب لم يعد بي من قوة، أرحمني ولو أن تأخذني إليك، تذكرت والدي وزوجتي وبناتي فدعوت لهم بالثبات والصبر، وبدأت استحضر صور الغرق، وأن الغريق في الجنة، وأتراءى نعيم الجنة وأحلم به، وأرى ما أنا فيه جحيماً لا يطاق.
رفعت رأسي ونظرت حولي نظرة أخيرة، فوجدت أني قد ابتعدت كثيرا عن اليابسة، وعلمت أن البحر يبتلعني إلى الداخل، فاستجمعت شتات فكري وقررت قراري.
استحضرت معنى الشهادتين ثم نطقت بهما، وأسلمت نفسي لله، أغمضت عيني واجتهدت في استقبال القبلة، وودعت كل ما في الدنيا، واستقبلت ربي أدعوه أن يرضى عني ويكتب لي الجنة، وأن يكون ماء البحر قد غسل ذنوبي كلها، وحمدت الله على هذه الميتة، وأني لم أمت موت الفجأة، حيث لا وقت للمراجعة والاستغفار.
قررت أن أتوقف عن السباحة حتى إذا جذبني ثقلي لأسفل، شفطت الماء لأغيب عن الوعي وينتهي كل شيء، وفعلاً توقفت عن التجديف، فبدأت أغرق، وقبل أن أشفط الماء ناداني صارخ من داخل نفسي، إنك تنتحر، وإنما هي شعرة بين حفظ النفس وقتلها، وفيها مصيرك إما إلى الجنة أو النار، فدفعت نفسي بكل ما تبقى لي من قوة، وعدت أسبح مرة أخرى، ولكن قواي ما لبثت أن خارت تماماً، ولم أعد أقوى على الحركة، لقد فتك بي البرد القارس، فأصبحت أرتجف بشدة، وأتنفس بصعوبة.. فعلمت أنها علامات النهاية، ومرة أخرى بدأت أنسحب للأسفل، وهذه المرة رغماً عني، وفجأة إذا بموجة قوية ترفعني إلى السطح، فتمكنت أن آخذ نفساً عميقاً، واستشعرت رحمة الله تحملني وترفعني، وإذا بنسمة هواء عليلة، ملئت منها رئتي، فعادت إلي روحي، ونظرت حولي فإذا بمجموعة من الدلافين تطوف بي، وتصدر أصواتً جميلة، خلت أنها صورة من صور تسبيحهم للخالق العظيم، فأدركت أن ذلك كله علامة من علامات الحياة، أرسلها الله لي في وقتها، ليعلمني أنه سبحانه سينجيني ولو بعد حين، وشعرت بلطف الله يغمرني، فبدأت أفكر بالنجاة مجدداً، رفعت رأسي فرأيت السفن من بعيد، وهي تقف طوابير، انتظاراً ليؤذن لها بدخول الميناء، فقررت السباحة نحوهم، بالرغم من علمي بخطورة ذلك، ولكن ليس لدي خيار آخر، فلعل وعسى أن أصل لأحدى تلك السفن الواقفة وأنجو، دون أن تسحقني محركاتها العملاقة، توجهت إلى أصغرها، وأخذت بالاقتراب منها، ثم بدأت أصرخ بأعلى صوتي، لعل أحداً أن يسمعني، ولكن دون فائدة، فمازلت في الثلث الأخير من الليل، تعبت مرة أخرى، ووصلت إلى نقطة الصفر من جديد، لكن الله ألهمني في هذه المرة، أن أخلع أحد الزعانف من قدمي، وأضعه كاللوح تحت صدري ورأسي، فوجدته وضعاً أفضل، لأن الماء بدأ يرفعني دون أن أجهد نفسي، ولأول مرة أجد فرصة للراحة، وسرعان ما بدأ النوم يغالبني، فأغفو لثوان قليلة، قبل أن يلطمني الموج فأستيقظ، ومع قلة الحركة ازدادت برودتي، وخشيت أن أفقد وعيي، فتكون النهاية، ثم ألهمني الله في ذلك الوقت المبارك أن أدعوه بقوله تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62].
وبينما أنا على هذه الحال التي وصفت، بحر ممتد و أمواج متلاطمة، وليل حالك، وبرد قارس، وأنا بينها خائر القوى، أصارع الموت وانتفض كالعصفور، وأصّبر نفسي، وأكرر الآية السابقة: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62].
فجأة وإذا أنا بخبطة قوية في أسفل ظهري، فوضعت نظارة الغوص لأنظر، ويا لهول ما رأيت، قرش ضخم، ومن النوع الخطير، ولا تسألني عن القروش، فأنا أعرفها جيداً، ولي فيها علم وخبرة، ومن المعلوم عندي أن القرش ضعيف البصر، فهو بهذه الخبطة يختبرني، ويحدد ماهيتي، وهل أصلح أو لا، وفي لحظة واحدة، طار التعب والعطش والنوم، وعادت لي قوتي كلها، تسارعت ضربات قلبي، وعلت أنفاسي، وتدفق الدم في كل عروقي، سخن جسمي وذهبت تلك القشعريرة المؤلمة، لقد كانت تلك الضربة القوية، وذلك المنظر الرهيب، هما أفضل ما أحتاج إليه في تلك اللحظة الحاسمة، لتعود إلي روحي وقوتي، ولأواصل المقاومة بلا استسلام، ولكني ضحكت في نفسي وناجيت ربي : يارب، أهذا ما ينقصني؟ أدعوك لتنجيني، فترسل لي وحشاً فتاكاً؟ أستجديك يا ربي، بألوهيتك وربوبيتك، إن أردت يا ربي أن تأخذني إليك، فخذني قطعة واحدة، وليس قطعاً وأشلاءً من بين أنياب هذا الفك المفترس.
وعلى كثرة نزولي للغوص، فلم يحدث أن أقترب مني قرش بهذا الشكل المخيف، وبهذا الحجم الكبير، وفي ظلام الليل، ولوحدي، وبين الأمواج العاتية، رحماك ربي، بدأ القرش الضخم يحوم حولي ويقترب مني، فأخذت أحوم حول نفسي، وأتفرس فيه لأتأكد من نوعه، فلعلي أخطأت تخمينه أولاً، فخاب ظني، وتيقنت أنه هو هو، قرش ضخم لا يقل طوله عن الثلاثة أمتار، ومن فصيلة شرسة، تتميز بالقوة والذكاء.
ومرة أخرى ألجأ إلى ربي الرحيم اللطيف، وكان من عجيب أمري، أن الله ألهمني أن أدعوه لكي يسخر لي هذا الوحش الفتاك، لا أن يصرفه عني: فدعوت الله وأكثرت من الدعاء، والاستعاذة بالله، واستمر القرش يحوم حولي ويقترب مني، وازداد دعائي وتذللي لربي وخالقي، ومالك أمري، مرت ثلاث ساعات أو أكثر، ومازال القرش الضخم يحوم حولي، فأيقنت أنه لم يؤمر بأكلي، وإلا لفعل ذلك منذ البداية، فاطمأننت وهدأت نفسي قليلاً، وبدأ فجر يوم السبت ينشق، فتوضأت وصليت الفجر وأنا أحاذر من هذا الوحش، وأدعو الله أ ن يسخره لخدمتي، وأن ينجيني من هذا البحر وأهواله.
وما إن أنهيت صلاتي، حتى تفاجأت بالقرش يقترب أكثر، وبدا لي أنه يتهيأ للهجوم علي، وأيقنت أني لن أتمكن من الدفاع عن نفسي لو فعل ذلك، وأنه سيمزقني في لحظات قليلة، استجمعت كل تفكيري وشجاعتي، وقررت أن أفعل شيئاً ولا استسلم، وفكرت أن أبادره بحركة ما لعله يخاف وينصرف، شحذت كل ما تبقى لي من قوة، وقررت إن هو اقترب مني أن أقذف بجسمي كلِه عليه، لعله يتفاجأ ويهرب، ففعلت ذلك حتى أني ارتطمت به، فغاص إلى الأعماق قليلاً، ثم عاد مرة أخرى، لكأنه يقول لي: يا عبد الله: لم أؤمر بإيذائك أو أكلك، ولو أُذن لي لما أمهلتك ثانية واحدة، ولقسمتك نصفين قبل تعرف الجهة التي أتيتك منها، اطمئن فلن أؤذيك، وعاد من جديد، يحوم حولي ببطء شديد، وبطريقة لا تتناسب مع حجمه وقوته وعادته، لقد كان واضحاً أن لديه مهمة ما يؤديها، وقد تبينت فيما بعد، أن الله سخره لي كمرافق خاص يعمل لحمايتي.
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نم فالمخاوف كلهن أمان
سبحان الله، لقد تحول هذا الوحش الضخم إلى سمكة وديعة، تحوم حولي طوال الوقت لتؤنس وحشتي، وتدفع عني غيرها، ولينسيني تعبي وجوعي وعطشي، ولأبقى يقظاً متماسك القوى.
أسفر الضياء، واتضحت الرؤية، فأصبح بمقدوري أن أتيقن مئة بالمائة، أن مرافقي الخاص ينتمي لتلك الفصيلة المتوحشة، كما أصبح بمقدوري أن أرى السفن العملاقة بوضوح، فارتفعت معنوياتي، وغمرني الأمل بالنجاة، واستجمعت طاقتي لأواصل مسيري نحوها، في هذه اللحظة الحاسمة، جاء الفرج من الله، سمعت صوت (قارب حرس الحدود)، وتوقعت في البداية أنهم لن يروني ..كما حدث معي مراراً وتكراراً، طوال الأربعين ساعة الماضية، ولكنهم في هذه المرة كانوا يتجهون نحوي ويقصدون جهتي، فلما اقتربوا مني لوحت بزعانفي كما فعلت في محاولاتي السابقة، فصاح أحدهم قائلاً: أأنت فلان، فأجبته نعم، فقال أبشر لقد نجوت، فقلت الحمد لله، اقتربوا مني وحاولوا رفعي من يدي فلم أتمكن، سقطت من شدة الإعياء، فألقوا إلي سلماً فصعدت عليه، ولكنني لم أستطع الوقوف، فسجدت لله سجدة طويلة، وباغتني النوم وأنا ساجد لله.
وقيل لي فيما بعد: لو أنك تابعت سباحتك في اتجاه الميناء، لفتكت بك القروش المتوحشة قبل السفن، حيث تتجمع بأعداد كبيرة حول سفن المواشي، والتي يكثر إلقاؤها للمواشي الميتة والمريضة، طوال فترة وقوفها الطويل لدخول الميناء، حتى سميت تلك المنطقة ببحر المواشي.
ذَهب بي حرس الحدود للمركز وقدموا لي جرعة من الماء، لم أذق في حياتي أطعم من مذاقها، لكأنها من ماء الجنة، وعلمت بعد ذلك أن المسافة التي قطعتها في الـ 40 ساعة الماضية، لا تقل عن 50 كيلاً، كما علمت أنه قد تم العثور على صديقاي صباح يوم الجمعة، من قبل مجموعة من المتطوعين فحمدت الله على نجاتهم.
ذُهب بي إلى المستشفى وأُجريت لي العديد من الفحوصات والتحليلات، وتعجب الأطباء من النتائج، ومن شدة ارتفاع معدلات الأملاح، والتي تتعذر الحياة بمثلها . ويزداد عجبي وعجبهم، حين أكتشف أن كل ما يتعلق بحصوة الكلى قد اختفى تماماً، ولم يبقى لها أي أثر، لا في التحاليل ولا في الأشعة، وظني أن الله قد شفاني منها حين دعوته وأنا في عرض البحر.
وتسألني اليوم ما الذي حدث لك؟
فأقول : لقد أراد الله بي لطفاً كبيراً، وخيراً عظيماً.
فجمعتي تلك كانت جمعة حاسمة، كانت فرقاناً بين حياتين، وستبقى فيصلاً كالسيف، بين حياتي قبلها وحياتي بعدها، فما أنا اليوم بذلك الذي كنته بالأمس، لقد نذرت لربي نذوراً كبيرة، أبسطها ألا أتكاسل عن صلاة الفجر في المسجد، وأن أسخر حياتي للدعوة إلى الله، وأن أستثمر قصتي هذه لإحياء النفوس، وتذكير الناس، والعودة بهم إلى الله، وأن أمتثل قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162].
إنني اليوم أنظر بعينٍ غير تلك التي كنت أنظر بها، وأسمع بأذن غير تلك التي كنت أسمع بها.
كل الأعمال والشعائر صبغت عندي بصبغة السماء، فلا الأذان هو الأذان الذي كنت أعرفه، ولا الوضوء هو الوضوء، ولا الصلاة هي الصلاة، ولا طعم الماء هو طعم الماء، ولا تعظيم النعمة هو تعظيمها، ولا الشعور بالأمان هو الشعور بالأمان، ولا تقدير الصحة والعافية هو هو، ولا الدعاء هو الدعاء.
لقد كنت سابقاً أنظر إلى الدعاء كمسدس ماء، ومن ثم فلا أرى له أثرا، أما اليوم، فأنا أوقن أن الدعاء، أشد وأمضى من كل قوى الأرض مجتمعة.
كما أنني أدركت كم في هذه الأمة من خير عظيم، أصدقاء أعرفهم، وغيرهم ممن لا أعرف، ذهبوا للبحث عني في طول البحر وعرضه، وطوال الليل والنهار، وأناس لا أعرفهم ولا يعرفونني، هجروا مضاجعهم، وقاموا الليل يدعون الله أن يحميني، وأنا هناك، في وسط الأمواج، أعاني ما أعاني، فأبى الله إلا أن يكون هو ارحم الراحمين، وأن يكتب لي النجاة، ويكتب لهم الأجر بفضل الله.
تذكرت قول الله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 87-88]
وتوقفت عند قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)، ولم يقل سبحانه: وكذلك ننجي الأنبياء والمرسلين، ليؤكد جل في علاه أنه سيكون هناك أناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، سينجيهم الله، بصور عجيبة وغريبة، فيها من الكرامات والنفحات والرحمات، كتلك التي أنجى الله بها نبيه يونس عليه السلام.
أما القرش فلا تسألوني عنه ولا عن تلك الضربة الغريبة، التي ضربنيها في ظهري، ولا عن تلك الرفقة العجيبة، والمهمة الخاصة التي قام بها إلى نهاية رحلتي الأليمة، ولا عن نجاتي من بحر القروش والمواشي، فذلك ما لا أستطيع التعبير عنه بأي لسان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) [يوسف: 105 - 106].
غير مناسبة أن تكون خطبة
علينا أن نقف مع عبرها وأسرارها وما يستفاد منها لا أن نقرأها كقصة وقعت لشخص ما كانت لها بداية ونهاية
كل الشكر للشيخ عبدالله الطوالة قصة مؤثرة جدا ولنا منها عبرة وآية وفقكم الله تعالى ونفع بكم
عبدالله محمد الطوالة
الشيخ احمد وفقك الله
اشكرك على طرح الخطبة واسأل الله أن ينفع بك وبها ..
تعديل التعليق