قصةُ نِداءٍ يَملأُ الأفاقَ ( الجمعة 1442/7/28هـ )

يوسف العوض
1442/07/25 - 2021/03/09 11:58AM

الْخُطْبَةِ الْأُولَى  

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّون خُفَّيْةً فِي شِعَابِ مَكّةَ وَقْتَ الضَّعْفِ والاضطهادِ ، أمَّا وَقَدْ قَامَتْ دَوْلَتُهُم فِي الْمَدِينَةِ فليجهروا بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ ، وليركَعوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ، فَبَعْد هِجْرَةِ الْحَبِيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتِقْرَارِه بِهَا بَنَى مَسْجِدَهُ الْمُبَارَك ، وَاجْتَمَع شَمِلُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَارْتَفَع لِوَاءٌ الْإِسْلَام ، وَأَصْبَح الْمُسْلِمُون يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ  وَكَانُوا يَأْتُونَ وَقْتَ الصَّلَاةِ بِدُونِ إعْلَامِ فَيُصَلُّون وَيَنْصَرِفُون ، تَشَاوَر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ لِإِيجَاد شَيْءٍ يُعْلِمُ النَّاسَ بِدُخُولِ الْوَقْتِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَرْفَعُ رَأْيَةً إذَا حَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ لِيَرَاهَا النَّاسُ ، فَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الرّأْي بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ النَّائِمَ وَلَا يُنَبِّهُ الْغَافِلَ ، وَقَالَ آخَرُونَ نُشعلُ ناراً عَلَى مُرْتَفَعٍ مِنْ الْهِضَابِ ، فَلَمْ يَقْبَلْ هَذَا الرّأْيُ أيضاً ، وَأَشَار آخَرُون ببوقٍ وَهُوَ مَا كَانَتْ الْيَهُودُ تَسْتَعْمِلُه لصلواتهم فَكَرِهَه الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَشَارَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِاسْتِعْمَالِ النَّاقُوسِ وَهُوَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ النَّصَارَى فَكَرِهَه الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً ، وَأَشَار فَرِيقٌ آخَر بِالنِّدَاء ، فَيَقُومُ بَعْضُ النَّاسِ إِذَا حَانَتْ الصّلَاةُ وَيُنَادِي بِهَا فَقِيلَ هَذَا الرأي ثم تَشَرَّف بِرُؤْيَةِ الْأَذَانِ فِي الْمَنَامِ أَحَدُ الصَّحَابَةِ الْأَخْيَارِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَد وَافَقَت رُؤْيَاه رُؤْيَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَقِصَّةُ الأَذانِ بِكامِلِهَا مَرْوِيَّةٌ فِي كُتُبِ السُّنَّة وَالسِّيرَة ، فعَنْ أَبِى عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومِةٍ لَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ : (اِهْتَمّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ كَيْف يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا ، فَقِيلَ لَهُ : اِنْصَبّ رَايِةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا أَذنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ ، قَال : فَذَكَرَ لَهُ القنع - يَعْنِى الشَّبُّور ( مَا يُنْفَخَ فِيهِ لِأَحْدَاثِ الصَّوْت ) ، وَقَال زِيَادٌ : شَبُّورُ الْيَهُودُ فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ وَقَالَ : هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ ، قَال : فَذَكَرَ لَهُ النَّاقُوسُ ، فَقَال : هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى ، فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأُرِىَ الْأَذَانَ فِي مَنَامِهِ ، قَال : فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَه فَقَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَبَين نَائِمٍ ويقظان إذْ أَتَانِي آت فَأَرَانِي الْأَذَان ، قَال : وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَتَمَه عِشْرِينَ يَوْمًا ، قَال : ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنِي ؟ ! ، فَقَال : سَبَقَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَاسْتَحْيَيْت ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بِلَالُ قُمْ فَانْظُرْ مَا يَأْمُرُك بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَافْعَلْه ، قَال : فَأَذَّنَ بِلَالٌ . . )  رواه أَبُو دَاوُد والبَيهَقِي وحَسَّنه الألبَانِي.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَكَانَ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحَدَ مُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْمَدِينَة ، وَالْآخَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ بِلَالٌ يَقُولُ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ بَعْدَ حيّ عَلَى الْفَلَاحِ : الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ ، وأقرَّه الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا ، وَكَان يُؤَذِّنُ فِي الْبِدَايَةِ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ ثُمَّ اسْتَحْدَثَت الْمَنَارَةُ (المئذنةُ) بَعْدَ ذَلِكَ ، أَخَذ الجَوّ يَرْتَجّ بِنِدَاء التَّوْحِيد ، وَصَوْتِ الْأَذَان لِلصَّلَوَاتِ يَشُقُّ أَجْوَاءَ الْفَضَاءِ خِلَال الصَّحْرَاء ، ويدوي فِي الْآفَاقِ ، وَيَهُزُّ أرْجَاء الْوُجُود ،وَيُعْلِن كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ بِأَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ محمداً رَسُولُ اللَّهِ ، وَيَنْفِي كُلَّ كِبْرِياء فِي الْكَوْنِ وَكُلَّ دَيْنٍ فِي الْوُجُودِ ، إلَّا كِبْرِياءُ اللَّه ، وَالدَّيْنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ عَبْدُه مُحَمَّدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ أَذَانُ الصَّلَاة ( اللَّهُ أَكْبَرُ . . اللَّه أكبر) شعاراً لِأَوَّل دَوْلَةٍ إسْلَامِيَّةٍ ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : " قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ : الْأَذَانُ عَلَى قِلَّةِ أَلْفَاظِه مُشْتَمِلٌ عَلَى مَسَائِلَ الْعَقِيدَةِ ، لِأَنَّهُ بَدَأَ بالأكبرية وَهِيَ تَتَضَمَّنُ وُجُودَ اللَِّه وَكَمَالًه ، ثُمَّ ثَنَّى بِالتَّوْحِيد وَنَفْي الشَّرِيك ، ثُمّ بِإِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ دَعَا إلَى الطَّاعَةِِ الْمَخْصُوصَةِ عَقِبَ الشَّهَادَةِ بِالرِّسَالَةِ لِأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الرَّسُول ، ثُمَّ دَعَا إلَى الْفَلَاحِ وَهُوَ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ ، وَفِيه الْإِشَارَةُ إلَى الْمَعَادِ ، ثُمَّ أَعَادَ مَا أَعَادَ توكيداً ، وَيَحْصُلُ مِنْ الْأَذَانِ الْإِعْلَامُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ ، وَالدُّعَاءُ إلَى الْجَمَاعَةِ ، وَإِظْهَارُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ، هَذِهِ هِيَ قِصَّة الْأَذَانِ الَّذِي يَنْطَلِقُ بِهِ صَوْتُ الْمُؤَذِّنِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فِي أَرْجَاءِ الدُّنْيَا كُلِّهَا ، وَلَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ ، إلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، كَمَا أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

 

الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : فِي هَذَا الْحَدَثِ مِنْ أَحْدَاثِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ عِبَرٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا : أَنَّ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ صَالَحَةٌ وَتَحْمَل البُشْرَى لَهُ وَلِمَنْ رُوِيَت لَه ، وَهَدْيُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَشْرُوعِيَّة ذَلِك ، وَبَيَانُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ صَاحِبُ الصَّوْت النّدِي أَوْلَى بِالْأَذَانِ مِنْ غَيْرِهِ ، وفضل بلال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنّهُ أَوّلُ مُؤَذِّنٌ فِي الْإِسْلَامِ .

المشاهدات 1142 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا