قصة موسى عليه السلام ـ دروس وعبر
أ.د عبدالله الطيار
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له القائل في كتابه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون}[يوسف:111]، وأشْهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه قدوة الأنام، والهادي إلى طريق الرحمن، صلَّى الله عليه، وعلى آله وصحبِه ومن تبعهم بإحسانٍ ، أما بعدُ:
فاتقوا الله عبادَ اللهِ واعلموا أن الأيام والأعوام عبرة للمعتبرين، وعظة لأولي النهى والأحلام، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:102].
عباد الله: لقد ضرب لنا المولى جل وعلا الأمثال في القرآن من أجل حكمٍ بليغةٍ، وعظاتٍ لأولي العقول والأفهام، فالقرآن العظيم قص علينا قصصاً عديدة من أجل تنبيه الخلق بما حدث للسابقين من الأقوام السالفة؛ أمثال قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وشعيب وغيرهم، وهذه القصص تنبيه للغافلين المعرضين عما يكون لمن أعرض ونأى بجانبه عن صراط الرحيم الرحمن، وتكبَّر عن عبادة الخالق الديان، وسلك طريق المغضوب عليهم والضالين ممن اتبع هواه والشيطان.
عباد الله: وإن من القصص العظيمة التي حوت الكثير من الدروس والعبر قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقصته مشهورة واضحة البيان، وقد ذكرها الله تعالى في مواضع كثيرة من سور القرآن، حيث ذكر لنا آيات كثيرة توضح هذه القصة العظيمة، وقد اختصها الله تعالى بالذكر للخلق من أجل الانتباه لمصير الظالمين المعرضين عن عبادة الواحد الأحد، وأن النصر حليف لمن أطاع الله تعالى وتمسك بالحق ولو كان الابتلاء أول طريقه.
عباد الله: يقول الله تعالى في كتابه العزيز:{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}[طه:9]، أي يا محمد اذكر قصة نبيي موسى مع فرعون وقومه، وما حصل معه من الشدة والمعاناة والبلاء، وما تعرض له من الأذى في جنب الله تعالى، وما حصل من فرعون عندما تكبر وتجبر على ما جاء به موسى من الحق، بل ونادى في قومه بأنه ربهم الأعلى، وأنه يملك لهم الضر والنفع، قال تعالى ذاكراً ذلك عنه:{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُون}[الزُّخرُف:51] وقال أيضاً:{فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}[النازعات:23، 24].
ففي هذه القصة أوضح المولى جل وعلا العناء الذي تعرض له موسى من أجل دعوة فرعون وقومه إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، وأنه المستحق للطاعة، وبعد أن أتى موسى له بالبراهين الدالة على صدق نبوته ورسالته تكبر عن قبول الحق، وأراد أن يقتل موسى ومن اتبعه من بني إسرائيل، فقال: {..ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر:26].
فلما علم موسى عليه السلام بأن فرعون يريد قتله ومن معه من بني إسرائيل أوحى الله إليه أن اخرج من مصر ومن معك إلى الأرض المقدسة، قال تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُون}[الشعراء:52].
فخرج موسى ومن معه ليلاً دون أن يشعر بهم أحد من الأقباط، ولما طلع النهار ورأى الناس أن بني إسرائيل قد خرجت أخبروا فرعون بذلك، فأمر جنده بالتجهز والخروج في إثر موسى ومن معه، {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِين * إِنَّ هَؤُلاَء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُون}[الشعراء:54].
فلما بلغ موسى البحر هو ومن معه ورأى فرعون وجنوده قد لحقوا بهم وأنهم أصبحوا قريبين منهم، قالوا لموسى { إِنَّا لَمُدْرَكُون}[الشعراء:61]، وفي هذا الموقف العصيب الشديد كان عامل اليقين عند موسى عليه السلام قوياً، وكيف لا وقد أراه الله تعالى من آياته الكثير والكثير، فكان رده عليهم رد المتوكل على ربه، فقال لهم: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين}[الشعراء:62]، فهل بعد هذه القوة من اليقين والتوكل على الله ضعف ووهن؟ لا والله، فأمره الله تعالى بضرب البحر بعصاه، قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم} [الشعراء:63]، فمر موسى ومن معه من بني إسرائيل، ورأى فرعون بأم عينه هذا المشهد العظيم، موسى ومن معه انشق لهم البحر، وأصبح الطريق ميسراً لهم ليمروا فيه، فهل عساه أن يؤمن بقدرة رب موسى، وينقاد إلى طاعة الله، ولكنه الكبر والإعراض، حيث قال: أنا الذي فعلت ذلك ليلحق بهم، وأمر جنوده بالمرور من خلال هذه الأمواج العاتية والتي وقفت شامخة كالجبال الرواسي آية عظيمة تدل على قدرة الله تعالى، فلما انتهى موسى من مروره ومن معه، وبلغ فرعون وسط البحر، أمر الله تعالى البحر بالإطباق على فرعون وجنوده، والبحر أحد جنود الله جل وعلا التي يسخرها لعباده الصادقين، قال تعالى:{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِين}[الشعراء:64]، وعندما رأى فرعون هذا الموقف العصيب، وشاهد الموت بعينه نادى نداء المستغيث، نداء العبد الضعيف، فنادى بقولته الصادقة في وقت لا تنفعه فيه التوبة والرجوع {.. آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِين}[يونس:90] ، فهل يقبله الله تعالى في هذا الوقت وقد كان متكبراً في الاستجابة لأمره، لا بل رد عليه رداً ليس بعده رجاء،{{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِين * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ..}[يونس:91، 92].
وهكذا نجى الله تعالى عبده ورسوله موسى ومن تبعه من بني إسرائيل، وكانت عبرة وعظة لمن أتى من بعده، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد}[غافر:51].
فهذه القصة التي تبين انتصار الحق وخذلان الباطل، وتبعث في قلوب المؤمنين الثبات أمام أعدائهم مهما كانت قوتهم الظاهرة، فالباطل مهما عظم وتكاثر لا يمكن أن يقاوم الحق ولو كان الحق قليلاً، وهذا يتضح جلياً في هذه القصة العظيمة.
عباد الله: ولكم أن تتذكروا أيضاً موقف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أثناء هجرته إلى المدينة هو وصاحبه أبو بكر حينما كانا في الغار، قال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو نظر أحدهم لموضع قدمه لأبصرنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بلهجة الواثق الموقن بوعد ربه المتوكل عليه:(ما ظنك باثنين الله ثالثهما)(رواه مسلم)، الله أكبر.. هكذا الإيمان وهكذا التوكل واليقين عندما يمتلئ بهما القلب، فلا نصر إلا من الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)(رواه الحاكم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِين * فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُون * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِين * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِين * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِين}[الشعراء:60ـ 66].
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكم إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الكريم المنان ذي الفضل والإحسان، والصلاة والسلام على خير الأنام محمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فاتقوا الله جل وعلا، واعتبروا بما قصَّه الله عليكم من قصص الأمم الغابرة لكي نعتبر ونتعظ ونرجع، ولا تغرنا الحياة الدنيا، ولا تغرنا زينتها وبهرجها، فالدنيا مآلها إلى زوال، والآخرة هي دار القرار.
عباد الله: وإن من الدروس الهامة التي يستفيد منها المسلم من خلال قصة فرعون وموسى عليه السلام ما يلي:
أولاً: أن الابتلاء والامتحان فتنة من الله تعالى ليعلم من عباده الصادق من الكاذب.
ثانياً: أن الله تعالى بيَّن لعباده قدرته الخارقة على إظهار الآيات لمن شاء من خلقه، فلقد أعطى موسى عدداً من الآيات العظيمة ومن ذلك العصى والتي حولها الله تعالى بقدرته إلى حية تبتلع جميع ما كان ملقى من السحرة، وأيضاً جعلها الله سبباً في فلق البحر وتوقفه عن الحركة.
ثالثاً: أن النصر لابد آتٍ ولكن بعد استفراغ الوسع في الثبات على الحق والصبر على الشدائد والصعاب.
رابعاً: أنه كلما قوي إيمان العبد قويَ يقينه وتوكله على الله، وبذلك ينال النصر والتأييد من الله.
خامساً: أن قصة موسى عليه السلام درس عظيم لنا لنثبت على الطريق ولا نهاب الأعداء مهما بلغت قوتهم المادية.
عباد الله: لقد صام موسى عليه الصلاة والسلام هذا اليوم الذي نجاه الله فيه هو وقومه شكراً لله تعالى الذي أعزه ونصره فيه، ولقد صامه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، فعندما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)، قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً للهن فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: (فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه)(رواه البخاري).
ومعلوم أن صيام هذا اليوم فضله عظيم لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحتسب على الله أن يكفر صيام هذا اليوم السنة التي قبله)(رواه مسلم).
عباد الله: عليكم أن تتزودا من الأعمال الصالحة فإنكم عن الدنيا راحلون، ويوم القيامة محاسبون، فإما عذاب دائم، وإما خلود في جنات النعيم.
أسأل الله الكريم بمنه وفضله وجوده وإحسانه أن يوفقنا وإياكم للتزود من الصالحات، وأن يجمعنا وإياكم في دار كرامته، ووالدينا وجميع المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).