"قصة في بناءِ أسرة" 10 / 5 /1445

د عبدالعزيز التويجري
1445/05/09 - 2023/11/23 14:38PM

الخطبة الأولى : قصة في بناءِ أُسرة 10/5/1445هـ
الحمدُ لله الحليم العليم ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، إنه هو البر الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آله وأصحابِه ومن اهتدى بهديهِ إلى يوم الدِّينِ.. أما بعد ..
فاتقوا الله ربكم واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ..
إليكم أيها المسلمون قصة في تربية أعظم أسرة، يرويها البخاري ومسلم ، من حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ، وَلاَ شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي المَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: «إِخْ إِخْ» لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ"
ما أجلها من امرأةٍ، وما أروعها من مخرجاتِ تربيةٍ، يُبعدها حيائها ، وتمنعُها غيرةُ زوجِها أن تسير مع رجالٍ فيهم رسولُ اللهِ ومن زكاه الله ..
هي بنتُ من؟ هي زوجُ من؟ هي أمُ من؟ من ذا يساوي في الأنام عُلاها
أما أبوها فأبوبكرٍ الصديق، الرجلُ الأولُ في الإسلام .. أبوها من رباها على أن الفضائلَ والمكرمات لا تأخذُ من السمِ الناقعِ في برامج التواصل والمواقع ! وأن الرقي والتطور لاينشأُ في جلساتٍ مختلطةٍ في كافيهات ، تلخسُها النظراتُ وتضايقُها التحرشات ، ولم يحْملها يوماً لدعاية وإعلان يركض بها بين الرجال لترى خضرةً أو تشرب كوباً ، ولم يرَ الصديقُ يومًا أن الانفتاح والحريةَ في تركها تلبسُ ما تشاءُ وتسرحُ مع من تشاء ..
ربها على العزِ والحشمةِ ونصرةِ الدين ولو بشق نطاق ، فسميت بذات النطاقين ، فكانت هي وأُختها عائشةُ يحملن الإسلام بين حلك الظلام وشدة التغريب على الإسلام «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»..
وبعد نضوج فكرِها ورجاحةِ عقلها وعظمِ تدينها وحشمتها زوجَ الصديقُ ابنتهُ أسماءَ على الميثاقِ الغليظ، ميثاقٌ أخذ بقوة، ميثاق الكتاب والسنة {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}، ليس ميثاقٌ كثير من الأسر هش رهيف يُبنى على اشتراط سفرةٍ، أو التزامٍ بمصروفٍ أو سماحٍ بقيادة ، يختل عند فقدها توازن الأسرة، وينهد بنيانها عند أول عثرة، وينسى المعروف عن أدنى خلاف ، وتتراكم قضايا المحاكم احتجاجا بعدم قيام الزوج بها ...
زوجها ابن صفية عمةُ رسول الله صلى الله وسلم عليه، من ربتهُ في صِغرِه على تحمُلِ المشاقِ ، وخوضِ غمارِ الحياةِ، ولم ترَ يوماً أن تربيته على التميُع والتدليلِ طريقًا للرجولةِ وسُلماً لنيلِ المكرمات ، فإذا عُوتبت في ذلك قالت :
مَن قَال إني أبغَضتُهُ فَقَد كَذَب .. إنَّما أُأدبُهُ لِكَي يَلِبْ .. وَيَهْزِمَ الجَيشَ وَيَأتِي بِالسَّلَبْ
فأنجب هذا البيت العالي الصوام القوام -عبد الله بن الزبير- من إذا قام للصلاة كانه كذم حائط ، ومن كان في الوعى فهو الأسد المنازل .
تلكم هي نموذجٌ من بيتِ الرعيلِ الأول، لم تخرج هذه التربية من فراغ أو مصادفةٍ أو إهمالٍ أو إسلامٍ لأجهزةٍ وشبكاتِ تواصل .. بل وصلت هذه الأسرةِ لهذا الشموخِ العالي نتاج تعليمٍ ومثابرة ، وصبرٍ ومصابرة، وحفظٍ ومحافظة .. فكانت أسماءُ السامية بقيامها بشؤون بيتِها وزوجِها، وحيائِها وحشمتِها عند خروجِها من بيتها..
ولاسماءَ ذاتِ النطاقين أخواتٍ في عصرنا ومجتمعنا بحمد الله كثير ، عرفن طريق العفةِ والحشمةِ، وبناءِ المستقبلِ ببيتٍ يرفلُ بالأنسِ والنماءِ، والسعادةِ والصفاء، امتثلن قول المعصوم عليه الصلاة والسلام «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» فقبلن ذا الخلقِ والدين ، ورضين منه بالقليل ، مع زوجٍ لا يطالبُ بالكمالِ والمثالية، منطلقه ومنطقه «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» فنما البيت بصفاء وهناء ، شعاره {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ، ومسؤليته «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ودعائه { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} ومناجاته {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}.
وإذا تغير مفهوم الزواج ، واختلت معايير التربية ، وكان المُسيّر للحياةِ إعلامٌ خادعٌ، وإسنابٌ فاتنٌ، وبهرجةٌ حضاريةٌ مقيته، انحرف المسار ، وحصل ما يحذر منه المصطفى المختار «إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»
أتدرون ما الفساد العريض؟ الفساد الكبير أن تتحول الأسر المُلتمة، والبيوت المستقرة إلى تصدع وانهيار، وتفكك وانحسار، من أجل لعاعة من الدنيا متوهمه.. تعمِد المُستقِرةُ ببيتها وبين أولادها وزوجها إلى ركل تلك النعمة ونسيان المعروف، مهرولة إلى سراب مزعوم.. تنسى معه الزوجة والمرأة العشرة الحميمية، والعيشة الهنية، لتبحث عن حرية مستعبدة لأرباب البطون والجيوب
يجرون الذيول على المخازي وقد ملئت من الغش الجيوب
فينشأ عنها تفرق الأسرة وتيتيم الأبناء وهم أحياء
يا لطفل أضاعه والـــــــــداه في طلاق لم يدركا عقباه
لم يمت والده لكنه أمسى يتيما يجتر طعم أســـــــــــــاه
إن حنت أمه عليه فضمه لديها فقد أضاع أبــــــــــــاه
وإذا ما أبوه أمسكه لم يلق أما ما مثلها يرعــــــــــــــاه
خداع باسم الحرية وهدم للقيم والفضيلة، من أجل كوب ونزهة برية .
وحين يفشوا مجارات الآخرين يُقتل العفاف وتوأدُ الفضيلة، ويهتك حجابِ السترِ والصيانة.. إنها سوءاتٌ وخبائث، شاعت يوم ظهر المخببين ممن تبرأ منهم الرسول الكريم ، فقال "ليس مِنَّا مَنْ خبَّب امرأةً على زوجها" أخرجه أبو داود.
إن الله سمى الزواج ميثاقا غليظا ، لا يحل نقضه من أجل عبودية لرغبات النفس ، أو استجابة لنداءات حاملات معاول هدم البيوت وتشتيت الأسر، والتمرد على القيم. (أَيُّمَا امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ لَمْ تَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ) أخرجه أهل السنن.
ماذا تغني روائح الزهور، وجمال كل منظور إذا حرمت من رائحة الجنة ..
«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، لَا يَقْطَعُهَا» متفق عليه.
وفي المقابل " إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ " أخرجه أحمد
نداء للمسلمين والمسلمات: لا يخدعنكم بارقٌ متلمعُ إن البروق تكون في ظلمائها
حذار من خداعين وخداعات سقطوا في الوحل ، واستقوا من ماء آسن ، خرجوا من فضاء عبودية الله إلى مزبلة عبودية الغرب.. إنما معهم من جنة كمثل جنة الدجال يحسبها المفتون جنة وهي نار تلظى ..
إذا رأيت نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً ... فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ مُبتَسِمُ
" رَبنَا هَب لنا من اْزوجنا وَذُرِّيَّتنَا قُرَّة اْعين واجعلنا لِلْمُتقين اماما "
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات فاستغفروه إن ربي رحيم ودود.


الخطبة الثانية:الحمدلله ولي الصالحين والصلاة والسلام على الرسول الكريم وآله وصحبه والتابعين ...
لابد للبيوت من حفظ ورعاية وصيانة ..تحفظ الأسر بالأوراد النبوية، والتحصينات الشرعية والتربية الزكية «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»
معشر الأولياء ..أمانة التربية وحفظ كيان الأسرة ولم شمل البيت أكبر دعائم صون الفضيلة.
التربية على الفضائل وتعظيم ميثاق الزوجية، أمر ضروري لحياة رضية وعيشة هنية .
إقناع البنات قبل الزواج بهذا الميثاق الغليظ، وترسيخ المنهج النبوي في الحياة الزوجية، وأن المال أو الحسب ليس هو بالضرورة مصدر السعادة أو الاستقرار . زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا فلم يسأله عن شهادته ولا منصبه ولا دخله الشهري ، قال له هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ: لَا، قَالَ: «اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ»، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا) فقال له قائد البشرية والعالم بمصالح الأمة «مَاذَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟» فَقَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَكَذَا ،، قَالَ: اذهب «فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ». متفق عليه . بوب عليه البخاري فقال ( باب تزويج المعسر ).
وباليسير والقناعة ، يحصل الإعفاف والصون والكرامه. كما يحسن تعليم البنت بالتقدير القرآني للنفقة (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) وعدم تكليف الزوج أو تحميل الأسرة بكاهل الديون (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) وأن الصبر في بعض ضروف الحياة يعقبه فرج (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) وتذكيرها بأن من تستعجل رزقها، وتكفر بنعمة ربها ، وتنكر الجميل وتكفر بالعشير ، مع الأيام تذوق وَبَالَ أَمْرِهَا وَيكَونَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا .
وأول وصيةٍ وآخر وصيةٍ من ربنا هي التقوى ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ). اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد....

المرفقات

1700748767_قصة ٌفي بناءِ أسرة(2).docx

1700748812_قصة ٌفي بناءِ أسرة(2).pdf

المشاهدات 1749 | التعليقات 0