قصة عجوز بني إسرائيل

عبدالله اليابس
1437/06/01 - 2016/03/10 17:30PM
عجوز بني إسرائيل الجمعة 2/6/1437هـ

الحمد لله المجيب لكل سائل , التائب على العباد فليس بينه و بينهم حائل, جعل ما على الأرض زينة لها, و كل نعيم لا محالة زائل, حذر الناس من الشيطان وللشيطان منافذ وحبائل, فمن أسلم وجهه لله فذاك الكيّسُ العاقل, ومن استسلم لهواه فذاك الضال الغافل, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزه عن الشريك وعن الشبيه وعن المُشاكل, من للعباد غيره؟ ومن يدبر الأمر ؟ ومن يُعَدِّل المائل؟ من يشفي المريض ؟ ومن يرعى الأجنة في بطون الحوامل؟ من يجيب المضطر إذا دعاه؟ ومن لنا إذا تقطعت بنا الأسباب والوسائل؟ ذاك هو الله وكلُّ ما خلا اللهَ باطلُ .
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا *** وقمت أشكو إلى مولاي مـا أجـدُ
وقلت يا عُدتي فـي كـل نائبـة *** ومن عليه لكشف الضـر أعتمـدُ
أشكو إليك أمـورًا أنـت تعلمهـا *** مالي على حملها صبرٌ ولا جلـدُ
وقد مددت يـدي بالـذل مبتهـلاً *** إليك يا خير من مُـدتْ إليـه يـد
فـلا تردَّنَّهـا يـا ربِّ خائـبـةً *** فبحر جودك يروي كل مـا يـردُ
وأصلي وأسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, النبيِ المصطفى, والرسولِ المجتبى, الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المسداة ، صاحبِ المقامِ المحمود, والحوضِ المورود.
ذاك الشفيعُ مقامُه المحمودُ *** ولوائه بيد العلا معقود
فاذا توافد للحساب وفود *** قالوا تقدم بالأنام زعيما
فيقوم بالباب العلي ويسجد *** ويقول يا مولاي آن الموعد
فيجاب قل يُسمع إليك محمدُ *** ونُريك منا نضرة ونعيما
يا أيها الراجون منه شفاعة *** صلوا عليه وسلموا تسليماً
فاللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ونبيك محمد وعتلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. حديثنا اليوم بإذن الله تعالى عن قصة عجوز, نعم عجوز, عجوز من بني إسرائيل, فاقت هذه العجوزُ بهمتها همم الرجال, بل فاقت همم الشباب, وقد قص رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرها على الصحابة وأمرهم أن يكونوا مثلها, فمن هي هذه العجوز؟ وما خبرُها؟
أخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " أتى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعرابيًّا فأكرَمه فقال له : ( ائتِنا ) فأتاه فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( سَلْ حاجتَكَ ) فما الذي سأله هذا الأعرابي؟ هذه فرصة العمر كما يقال, هل سأل النبي صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة؟ أو سأله أن يطلب من الله تعالى أن يغفر له ما تقدم من ذنوبه؟
قال الأعرابي بعد أن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (سل حاجتك) قال : ناقةٌ نركَبُها وأعنُزٌ يحلُبُها أهلي, فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( أعجَزْتُم أنْ تكونوا مِثْلَ عجوزِ بني إسرائيلَ)؟ قالوا : يا رسولَ اللهِ وما عجوزُ بني إسرائيلَ؟ قال: ( إنَّ موسى عليه السَّلامُ لَمَّا سار ببني إسرائيلَ مِن مِصرَ ضلُّوا الطَّريقَ فقال: ما هذا؟ فقال علماؤُهم: إنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ لَمَّا حضَره الموتُ أخَذ علينا مَوثقًا مِن اللهِ ألَّا نَخرُجَ مِن مِصْرَ حتَّى ننقُلَ عِظامَه معنا قال: فمَن يعلَمُ موضِعَ قبرِه؟ قال: عجوزٌ مِن بني إسرائيلَ. فبعَث إليها فأتَتْه فقال: دُلِّيني على قبرِ يوسُفَ قالت: حتَّى تُعطيَني حُكْمي, قال: وما حُكْمُكِ؟ قالت: أكونُ معكَ في الجنَّةِ. فكرِه أنْ يُعطيَها ذلكَ, فأوحى اللهُ إليه: أنْ أعطِها حُكْمَها. فانطلَقَتْ بهم إلى بُحيرةٍ.. موضِعِ مُستنقَعِ ماءٍ فقالت: أنضِبوا هذا الماءَ فأنضَبوه فقالتِ: احتَفِروا فاحتَفَروا فاستخرَجوا عِظامَ يوسُفَ, فلمَّا أقلُّوها إلى الأرضِ وإذا الطَّريقُ مِثْلُ ضوءِ النَّهارِ".
هذه القصة العظيمة التي قصها رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحابته الكرام, لهذه العجوز صاحبة الهمة العالية ينبغي أن نستمد منها الدروس والعبر, فمن فوائد هذه القصة:
الهمة العالية لهذه العجوز, فعندما سألها نبي الله موسى عليه السلام عن مكان قبر يوسف عليه السلام, وجدتها فرصةً لا تقدر بثمن, واشترطت لإخباره عليه السلام أن تكون معه في الجنة لأنها تعلم أن الأنبياء في أعلى منازل الجنة.
لم تطلب مالاً ولا دنيا, وإنما سمت إلى الأخرى, {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}.
وتأمل كيف فَقِه الصحابة هذا الدرس من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد جاء في الصحيحين من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه - قال: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي:«سَلْ». فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ». قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ».
ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تسمو همة الإنسان وتعلو, وأن لا يرضى من أمور الآخرة بالقليل, روى البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ».
يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلِها، وأحمدِها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقعُ عليها كما يقعُ الذباب على الأقذار).
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا تأمل فيما حوله من هذه الدنيا فسيجد أنها إلى زوال, فكل متاع الدنيا لا يدخل القبر, والكفن ليس له جيوب, فلا يدخل مع الإنسان إلا العمل الصالح, وهذا ما فقهته العجوز فسألت نبي الله موسى عليه السلام أمراً من أمور الآخرة.
روى الطبراني في الأوسط من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا».
قال رجاء بن حيوة ــ وزير عمر بن عبدالعزيز ــ : كنت مع عمر بن عبدالعزيز لما كان واليًا على المدينة، فأرسلني لأشتري له ثوباً، فاشتريته له بخمسمائة درهم، فلما نظر فيه قال: هو جيد لولا أنه رخيص الثمن!, فلما صار خليفة للمسلمين، بعثني لأشتري له ثوبًا فاشتريته له بخمسة دراهم! فلما نظر فيه قال: هو جيد لولا أنه غالي الثمن!
قال رجاء: فلما سمعت كلامه بكيت؛ فقال لي عمر: ما يبكيك يا رجاء؟ قلت: تذكرت ثوبك قبل سنوات وما قلت عنه - فكشف عمر لرجاء سر هذا الموقف - وقال: (يا رجاء .. إن لي نفس تواقة، وما حقَّقَتْ شيئا إلا تاقت لما هو أعلى منه, تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة بنت عبدالملك فتزوجتُها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوَلَيتُها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنِلتُها، والآن يا رجاء تاقت نفسي إلى الجنة، فأرجو أن أكون من أهلها). الله أكبر..
هذه هي الهمة العالية.. هذه هي الهمة الحقيقية التي تعانق السماء, وترجو ما عند الله تعالى.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ .. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ رب العالمين, وصلى الله وسلم على النبي الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعدُ:
فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. ومن فوائدِ حديثِ عجوزِ بني إسرائيل:
تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكما سمعنا أنه زار الأعرابي في مكانه, ثم دعاه إلى زيارته في المدينة, فكان صلى الله عليه وسلم يزور الناس ويستقبلهم, لا يمتنع عن ذلك ولا يتأفف, ولا يختص بخاصة من الناس لا يتزاور إلا معهم.
قال له رجل ذات يوم: يا محمَّد، أيا سِيِّدَنا وابن سيِّدِنا، وخيرَنا وابن خيرِنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيُّها النَّاس، عليكم بتقواكم، ولا يستهوينَّكم الشَّيطان، أنا محمَّد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله)) رواه أحمد.
وروى البخاريُّ ومسلم عن أنس رضي الله عنه: ((أنَّه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعله)).
قد كان يَقري ضيفه كرمًا ويحفظ جاره
ويجالس المسكين يؤ ثر قربه وجواره
الفقر كان رداءَه والجوع كان شعارَه
بَسَط الرِّداء كرامةً لكريمِ قومٍ زاره
ما كان مختالًا ولا مرحًا يجرُّ إزاره
قد كان يركب بالرَّديـ ـف مِن الخضوع حماره
وتراه يحلب شاة مَنْـ ـزِلِه ويوقد ناره
فاختر مِن الأخلاق ما كان الرَّسولُ اختاره
ومن فوائد الحديث: مشروعية تنفيذ وصايا الأموات, حيث إن يوسف عليه السلام أوصى بني إسرائيل ألا يخرجو من مصر حتى ينقلوا عظامه معهم, لكن إن كان الميت أوصى بمحرم فإن هذه الوصية لا تنفذ.
ومن فوائد الحديث: جواز نقل الميت من قبر إلى آخر للمصلحة والحاجة, إذا لم يترتب على نقله انتهاك لحرمته ولا أذية, وهذا القول هو اختيار الشيخ ابن باز رحمه الله واللجنة الدائمة للإفتاء.
ومن فوائد الحديث أيضاً: انتهاز الداعية الفرص والمواقف لنشر الخير بين الناس, فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طَلب منه الأعرابي ناقة وعنزاً, رأى دنو همته, فاستغل هذه الفرصة في حث الصحابة على علو الهمة, واستخدم لذلك أسلوبًا من أساليب التشويق والبيان وهو أسلوب السؤال عما لا يعلمه المستمعون.
ومن الفوائد أيضًا: أن المفضول قد يعلم ما لا يعلمه الفاضل, كما علمت العجوز مكان قبر يوسف عليه السلام فيما لم يكن نبي الله موسى عليه السلام يعلمه, وكما في قصة موسى عليه السلام مع الخضر.
ومن فوائد الحديث: ما قد يحدث من تعارض أورده الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله بقوله: " كنت استشكلت قديمًا قوَله في هذا الحديث "عظام يوسف" لأنه يتعارض بظاهره مع الحديث الصحيح: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" حتى وقفت على حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بَدُن، قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يا رسول الله يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: بلى. فاتخذ له منبراً مرقاتين".
فعلمت منه أنهم كانوا يطلقون "العظام "، و يريدون البدن كله، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، كقوله تعالى: {وقرآن الفجر} أي: صلاة الفجر, فزال الإشكال والحمد لله".
ومن فوائد الحديث: أن الأنبياء عليهم السلام لا يملكون أن يشهدوا لأحد بالجنة أو النار إلا بوحي الله تعالى, فهذا موسى عليه السلام لما اشترطت عليه العجوز مرافقته في الجنة لم يُجبها لذلك إلا بعد أن أوحى الله تعالى إليه.
وبذلك يُعلم أن الرسل عليهم السلام بشر من البشر ميزهم الله تعالى بالنبوة والرسالة, لكنهم لا يملكون لأحد نفعًا ولا ضراً إلا بمشيئة الله تعالى, ولا يعلمون الغيب ولا يخلُقون ولا يَرزُقون ولا يُجيبون مَن دعاهم بعد مماتهم, يقول الله تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم: { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
وبعد فهذه بعض الفوائد من حديث قصة عجوز بني إسرائيل, وما في الحديث من الفوائد أكثرَ مما ذكر, لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا, وينفعنا بما علمنا, وأن يزيدنا علمًا بمنه وكرمه.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات

عجوز بني إسرائيل 2-6-1437.docx

عجوز بني إسرائيل 2-6-1437.docx

المشاهدات 10413 | التعليقات 1

أحسنت شيخنا وأفدت بارك الله فيك