قصة طالوت وجالوت: قانون الانتصار الكلي(2-2) أ.شريف عبدالعزيز-عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1441/12/29 - 2020/08/19 12:22PM

النفوس البشرية ومصافي الابتلاء؛ قال تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة:249].

 

ونحن نقرأ قصة طالوت وجالوت في القرآن الكريم لا يمكننا أن نغفل تركيزها على بعض خصائص الطبيعة البشرية لبني إسرائيل، وهي طبيعة تختلف اختلافًا أساسيًّا في النشأة والتكوين، والنظرة والتصور، والمنهج الموجه والتربية مع خصائص الأمة الإسلامية؛ ولذلك فإن أحداث القصة وفعالياتها صعوداً وهبوطاً تلائم طبيعة النفسية الإسرائيلية.

 

ولكننا في نفس الوقت نجد أن العرض القرآني للقصة ركز على القواسم المشتركة للنفس البشرية عامة، خاصة ردود أفعال هذه النفس البشرية تجاه الضغوط والنوازل والابتلاءات، مما يجعلنا أمام واحد من أهم الاختبارات النفسية الكاشفة لطبيعة البشر، والمنعطفات والتعاريج المخبوءة داخل النفوس.

 

فبعد أن استقر الملك لطالوت، وجاءت الآيات الحسية والمعنوية الداعمة لهذا الاختيار، شرع طالوت في إعداد الجيش اللازم لقتال الأعداء، مع مراعاة أن الأعداد قد قلّت كثيراً بعد أن تولى معظم الناس عن القتال بعد أن فترت حماستهم المؤقتة، وخرج من اعترض على اختيار طالوت.

 

عبأ طالوت قومه للقتال وجهزهم لمحاربة الأعداء، واجتمع عنده أكثر من ثمانين ألفاً للقتال، ولما خرج بهم للمعركة الفاصلة أراد أن يختبر حماستهم وطاعتهم، وأن يبلو هذا الفورة التي حصلت في البداية؛ لأنه لا بد قبل المعركة من اختبارات للتأكد من حماسة الجند واستعداداتهم للمواجهة، لا بد من اختبارات وابتلاءات صغيرة قبل الاختبار الكبير.

 

 فلما ابتعد طالوتُ بمن استجاب معه للحق عن العمران والأهل والأنس، ابتلهم باختبار ثالث وقال لهم (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ) أي مختبرهم بالشرب من النهر البارد العذب، وقد بلغ بهم العطش مبلغه (فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) ولا يستمر معي في غزو العدو؛ لأن من ضعف لشهوة النفس في الشرب فسيكون أشد ضعفًا أمام قوة العدو ومن لم يصبر على ألم العطش لن يصبر لألم القتال والجراح (وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)، فهذا شرط حاسم في تمييز كفاءة الجيش في الصبر واختبار عملي في مدى قدرته على تحمل المشاق، فمن لم يذق النهر في شدة ومنتهى العطش هو المؤهل في خوض المعركة الفاصلة والحاسمة مع الجبارين. ثم إنه أراد أن يجعل فرجة وفسحة في الأمر لأن في القوم عطشى فراعى الضعف الإنساني المركوز في فطرتهم، فقال (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)[البقرة:249] يبل بها فمه ويطفئ عطشه، ولما وصلوا النهر عصوا طالوت وشربوا معظمهم منه إلا قليلاً منهم التزموا الأمر وأطاعوه.

 

ورد في بعض الآثار أن عدد من التزم أمر عدم الشرب أربعة آلاف فقط من أصل ثمانين ألفاً! والباقي فشل في الاختبار ولم يصمد أمام العطش وشهوة الشرب، وكان من الطبيعي أن يكون الأربعة آلاف هم الصفوة المؤهلة لمواجهة العدو والانتصار عليه بفضل الله، ولكن الاختبار الأخير كان هو الأشد والأقوى.

 

فعندما ترآءى الجيشان كان جيش جالوت أو العماليق جيشاً كبيراً وأجسام مقاتليه ضخمة مفتولة العضلات، حسن التسليح، يأخذ من ضخامته بالأبصار ومن رهبته القلوب والنفوس الضعيفة. فأصابت الهزيمة النفسية بعض القلوب (قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) مع العلم أنهم كانوا من الصفوة الذين صمدوا في الاختبارات السابقة، ولكنهم في الاختبار الأخير رسبوا وفروا وتركوا أرض المعركة.

 

لم يثبت ويصمد مع طالوت في وجه الجبارين الطاغين الباغين إلا ثلاثمائة وبضعة عشر من أربعة آلاف وكان عدد الذين مع رسول الله في غزوة بدر مثل عدد الذين خاضوا معركة الفرقان مع طالوت ضد جالوت وجنوده. روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن البراء، وروى ابن جرير أيضاً عنه قال: "كنا نتحدث أن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين كانوا معه يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن" فإذاً كم عدد الذين جاوزوا مع طالوت النهر؟ ثلاثمائة وبضعة عشر شخصاً مثل عدد المسلمين في بدر.

 

صفوة الصفوة كانوا ثلاثمائة وبضعة نفر من أصل ثمانين ألفاً يعني بعملية حسابية صغيرة أربعة من كل ألف فقط هم من كانوا ترجمة حقيقية لمعاني الإيمان والعقيدة الصافية النقية التي لا تشوبها شوائب الخوف والشك. قال تعالى: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)؛ فهذه الفئة المؤمنة الصادقة القليلة في عددها والضعيفة في عدتها، ولكنها الموقنة بلقاء الله وقدرته والواثقة في نصره والمعتمدة على تأييده وحده دون سواه هزمت الفئة الكثيرة في العدد والقوية في العُدَد والتي تمتلك كل القدرات المادية الممكنة.

 

أهم الدروس المستفادة للخطباء والدعاة:

1- حتمية الابتلاء: لا يتصور حياة خُلق الإنسان فيها في كبد، ودار أُنزل إليها آدم عقوبة، ونفس تسول، وشيطان يوسوس، وبدن ضعيف مركب من ماء وطين ومعجون بالشهوات، لا يتصور أن يمضي في هذه الحياة بلا اختبارات وامتحانات!! سئل الرسول الكريم صلوات ربي وتسليماته عليه: "أي الناس أشد بلاء يا رسول الله؟ فقال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان رقيق الدين ابتلى حسب ذاك، وإن كان صلب الدين ابتلى على حسب ذاك، فما تزال البلايا بالرجل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" ومفاد الإجابة النبوية المباركة؛ الجميع متعرض للابتلاء لا محالة! فهو من لوازم الوجود الإنساني، بحيث لا يتصور بشري بلا ابتلاء، والآيات تظاهرت على هذا المعني الكوني الكبير.

 

والمؤمنون هم أكثر الناس تعرضاً للابتلاء، ستُبتلى الأمة المؤمنة بصفة عامة، وسيُبتلى كل فرد من أفراد الأُمة المؤمنة بصفة خاصة، ولن يكون هناك استثناءات؛ قال تعالى(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ)[العنكبوت:2-3]، وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجنَّة وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)[البقرة:214]، وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آل عمران:142].

 

وهذه الحتمية الربانية لها أسباب ثلاث:

الأول: تمحيص وتنقية الصف المسلم، وانتقاء أصلح العناصر لحمل الأمانة؛ فما أسهل أن يقول المرء بلسانه: آمنت وصدقت وأيقنت. لكن ما أصعب العمل فلا بد من اختبار لصدق الكلام، ولا بد من الابتلاء لتنقية الصف المسلم من المنافقين والمدعين وأصحاب الشعارات الفارغة والحماسة الفاترة؛ وذلك مصداق قوله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ)[العنكبوت:3]؛ فطالوت اختبر قومه ثلاثة اختبارات متتالية ثم كان الاختبار الأخير والأقوى، فأصبح الصف المؤمن المألف من ثمانين ألفاً بعد الاختبارات ثلاثمائة وبضعة عشر فقط!!

 

الثاني: التربية؛ فالابتلاء يربي الصف المؤمن، فيجعله يُعلي قدر الله -عز وجل-، ويستهين بأعدائه، وكأن الابتلاء برنامج تدريبي متدرِّج للمؤمنين، يرتفع بمستواهم يومًا بعد يوم، وكلما عظمت مهام المؤمن ازداد بلاؤه؛ فيزداد إعداده، وإن هذا ليرفع كثيرًا من قيمة الدعوة في عين المسلم، فعلى قدر تضحيته يُقدّر الشيء الذي يُضحي من أجله، ثم إن الابتلاء يُلزم المؤمن أن يتوجه إلى الله بالدعاء والرجاء والطلب، ومن طبيعة كثير من الناس أنها تبتعد عن اللهِ عندما تعيش لحظات العافية؛ قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[يونس:12]، فصار من رحمة الله -عز وجل- بعباده أنهم يُبتلون فيلجئون إلى الله -سبحانه وتعالى-، فيكون هذا أفضل لعبادتهم، وأقوى لعقيدتهم.

 

الثالث: التزكية والتطهير من الذنوب، وهو من أظهر حكم الابتلاء؛ إذ أنه يكفر الذنوب والآثام ويرفع الدرجات، وأحيانًا يحب الله عبدًا، ويريد أن يرفعه إلى درجة عالية، وهذه الدرجة لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله -عز وجل- فيصبر، فيبلغ الدرجة العالية؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غمّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر بها من خطاياه".

 

2- معرفة طبيعة النفس البشرية: من أهم أولويات الدعاء والخطباء والمصلحين عبر التاريخ الدراسة الوافية للنفس البشرية ومعرفة دهاليزها ودروبها وتعاريجها الكثيرة، وذلك لمعرفة كيفية ترويض هذه النفس ومسك زمامها وتوجيه خطامها ومعالجة آفاتها؛ فالنفس البشرية من أعجب مخلوقات الله، وأيضا من أشد أعداء الإنسان، وتلي الشيطان مباشرة في العداوة؛ فالإنسان إذا تحكمت فيه نفسه الأمارة بالسوء فإنه يكون جزوعاً منوعاً عجولاً هلوعاً، تقوده غرائزه وشهواته وأهواؤه؛ ففي قصة طالوت رأينا كيف أن غريزة العطش كانت أقوى من أمر القائد وأقوى من غاية عظمى مثل الجهاد في سبيل الله! ثم رأينا كيف أن من استطاع أن يتغلب على العطش لم يستطع أن يتغلب على الخوف عندما رأي الجيش الضخم للعدو، فالخوف أقوى من العطش، بل إن الخوف من أقوى محركات الإنسان ودوافعه في الحياة!!

 

3- بين القلة والكثرة: دائماً يركز الخطاب القرآني على المقارنة بين القلة والكثرة في المواجهات بين الحق والباطل؛ فالقلة مقرونة بالصبر والثبات والانتصار، والكثرة مقرونة بالغرور والتيه والانكسار. وهذا التركيز القرآني لها غاية عظمى مفادها أن يتحرر المؤمن من أسر الحسابات المادية وقوانين الأرض عندما يتعلق الأمر بالمواجهة من أجل الدين؛ فلا يكون جل اهتمامه بتحصيل أسباب الأرض والغفلة عن أسباب السماء، نعم نحن مأمورون بأخذ العدة والحيطة والحذر وتعاطي الأسباب، ولكن الأهم من ذلك التأييد الإلهي وعدالة القضية وشرعية المواجهة ونقاء الغاية.

 

4- أهمية العقيدة في التغلب على الخوف: الخوف هو الذي دفع من صمد في وجه العطش وانتصر على غرائزه الجسدية لئن يفر من أرض المعركة؛ فليس كل من ينجح في الصمود أمام حاجات الجسد أن ينجح في الصمود أمام تهديدات النفوس والقلوب. والعقيدة النقية القوية وحدها هي القادرة على تقوية القلب والنفس والجسد أم تخويفات الأعداء، قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران:175].

 

وفي قصة طالوت قال أصحاب العقيدة الصحيحة المؤمنين برجوعهم إلى الله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) وهذا يؤكد على دور وأهمية العقيدة الربانية، وعلى قدر رسوخها في نفوس أصحابها واستقرارها في قلوبهم ولا بقاء ولا نصر للقوة المادية مهما انتفشت وانتشرت.

 

5- أهمية الصبر ووجوب اتصاف المؤمن به؛ فالصبر من لوازم التمكين والانتصار، فالصبر خير كله، وأن الله قد فرض الصبر علينا؛ لأنه يعيننا على أمور الدين والدنيا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة:153]، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[البقرة:146]، (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة:249]، وجعل الله العاقبة الحسنة لأهله (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[البقرة:155].

 

اللجوء إلى الله مفتاح الانتصار

قال تعالى: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[البقرة:250].

 

انتهى وقت الاختبارات وتمايز الصف ووصل إلى قمة الاستواء وخلاصة الصفوة ولم يبق إلا لحظة الصدام والمواجهة في مشهد تاريخي من مشاهد البشرية المعدودة، فئة مؤمنة قليلة أمام فئة كثيرة كافرة، وكل فريق يشحذ أسلحته للمواجهة، والفئة المؤمنة سلاحها وعدتها وقت الشدائد؛ ربها -سبحانه وتعالى-، لذلك توجهوا إليه وطلبوا منه النصر والتأييد وأن يسلحهم بأهم سلاح في أي مواجهة ألا وهو الصبر والثبات حتى لا يفروا من أرض المعركة وينهزموا من المواجهة.

 

من الدروس والفوائد في هذه الآية للخطباء والدعاة:

1- أهمية التضرع واللجوء إلى الله، وذلك في كل أمور العبد وكل شئونه الدينية والدنيوية؛ فالتضرع إلى الله هو من أرقى وأعلى العبادات التي يصل بها العبد إلى قمة افتقاره إلى الله، هي العبادة التي يعلن فيها العبد عجزه عن الفعل والاختيار، التضرع أن يلجأ العبد إلى باب الله يستغيث، يصرخ بقلبه وروحه وكيانه، طالباً النصر والمعونة والتأييد.

 

ولقد أرشدنا الله في كثير من الآيات لوجوب اللجوء إليه والتضرع بين يديه لرفع البلاء والنصر على الأعداء والنجاة من العقوبة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)[الأعراف:94]، وقال: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)[المؤمنون:75-76].

 

2- الصبر والثبات من أهم أسباب الانتصار؛ فثمة تلازم وترابط بعد الصبر والثبات والنصر على الأعداء؛ فهي نتائج مترتبة على بعضها البعض؛ فمن أفرغ الله على قلبه الصبر قوي قلبه، ومن قوي قلبه ثبتت أقدامه عند الشدائد والمواجهات، ومن ثبتت أقدامه أمام عدوه، كان أهلاً ومستحقاً لئن ينزل عليه نصر الله.

 

سنة التدافع وأثرها في حفظ الأرض والبشرية

قال تعالى: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[البقرة: 251].

 

من إن أصبح الصف متهيئاً لنصر الله بعد استكماله للأسباب المادية والمعنوية المؤهلة للانتصار، أنزل الله تعالى عليه النصر سريعاً؛ فالفاء في فهزموهم هي فاء التعقيب المفيدة للسرعة!

 

وهذا الانتصار الهائل التي تحطمت فيه فكرة تفوق المادة بانتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، استكمله الله -عز وجل- بآية باهرة وهي قتل دواد -عليه السلام- وهو فتى صغير في السابعة عشر للطاغية الجبار جالوت المعروف بقوته وضخامة جثمانه وخوف الأبطال من مواجهته!!

 

ثم بيّن الله -عز وجل- في نهاية القصة أن الغاية الرئيسية من المواجهة بين الحق والباطل هو مدافعة الحق للباطل ومزاحمته له وردعه عن إفساد الأرض وإضلال البشر، وهذا من فضل الله -عز وجل- على الناس.

 

من الدروس والفوائد في هذه الآية للخطباء والدعاة:

1- معية الله ونصره وتأييده للفئة المؤمنة حتمي وسريع وخارج الحسابات الأرضية، وهذا شريطة استكمال الصف المؤمن لشرائط الانتصار وتصفيته من العناصر الضارة والمفسدة والضعيفة أمام شهواتها والخائفة من أعدائها.

 

2- الله -عز وجل- يعامل الطواغيت بعكس مرادهم، فهم متجبرين بقوتهم وعتادهم، فيجعل الله -عز وجل- هلاكهم على يد فئة قليلة ولكنها مؤمنة، ويجعل مصرع الطاغية المغرور المتجبر بقوته على يد فتى صغير بمقلاع وحجر، كما أهلك من قبل النمرود ببعوضة، والمستهزئين السبعة الواردة قصتهم في السيرة النبوية بأصغر المخلوقات، هذا بجرح صغير، وذاك بورقة شجرة أعمت عيناه، وثالث بقرحة صغيرة في وجهه، وهكذا دأب الله مع أعدائه المتكبرين.

 

3- سنة التدافع من أهم السنن الحافظة لبقاء البشر وحفظ الدين وضبط حركة الأرض؛ فالصراع بين البشر؛ مؤمنين وكافرين، سنة إلهية ثابتة، منذ أن خلق الله البشر، حتى قال ابن خلدون: "اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله" قال: "وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل"؛ فالذي يحلم بأن ينتهي الصراع من العالم تماماً، هذا يعيش في وهم، لا حقيقة له.

 

فالتدافع من حكمته الإلهية: أن لا يعم الفساد الأرض، فتتعطل منافعها، وتبطل مصالحها، حتى أماكن العبادة ستهدم، ستزال، لولا سنة التدافع ما بقي لله في الأرض بيت عبادة، لا صوامع، وهي معابد النصارى الصغار للرهبان، ولا البيع، وهي أماكن عبادة هؤلاء الكبيرة، والصلوات، كنائس اليهود، والمساجد، معروفة.

 

التدافع يؤكد على السنة الربانية؛ البقاء للأصلح، وليس للأقوى كما في أدبيات الثقافة الغربية المادية المحض. فالأمثل والأصلح هو المستحق لأن يستمر، ولذلك يقول الله -عز وجل-: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)[الرعد:17]؛ فلذلك الحوادث ونيران التنازع هذه تطير زبد الباطل وتقشعه؛ ليبقى إبريز الحق واضحاً متلألئاً يحصل في ظله الأمان والنمو.

 

والتدافع بين أهل الإيمان والكفر، لا يقتصر على جانب واحد، وهو الاقتتال بالسيف أو بالسلاح، بل إن المواجهة والمدافعة في أمور كثيرة، فقد تكون هناك مدافعة اقتصادية، قد تكون هناك مدافعة إعلامية، قد تكون هناك مدافعة أيضاً باللسان والقلم، وتكون هناك مدافعات اجتماعية، ونحو ذلك.

 

فالمدافعات أنواع، وليست مدافعات بالسنان فقط، سواء دفع هؤلاء بهؤلاء بالسلاح، دفع هؤلاء وهؤلاء بالقلم، دفع هؤلاء بهؤلاء في الخطابة، في المناظرة، دفع هؤلاء بهؤلاء في الاقتصاد والإعلام، ونحو ذلك. هذه مدافعات، كلها مدافعات، كلها تحت سنة المدافعة المستمرة التي لا يمكن أن تتوقف، من أمثلة المدافعة المعاصرة:

* بيان الحق، وإزالة الشبهات، والرد على الباطل.

* الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة المنكر.

* بيان سبيل المؤمنين، وطريق الحق والسنة، وكشف الباطل والبدعة، وسبيل المجرمين.

* الصبر على الحق، والصبر أمام كيد الأعداء، وأذى العدو.

 

وقمة المدافعة: الجهاد والقتال في سبيل الله، ونجدة المظلومين، ونصرة أتباع الدين.

 

وأخيراً قصة طالوت وجالوت تتمحور حول قضية كلية وهي أن الانتصار على العدو يبدأ أولاً بالانتصار على النفس، والتحكم في شهواتها ورغباتها، والتغلب على المخوفات والمعوقات النفسية والقلبية، بحيث يصبح الإنسان قادراً على التحكم في نفسه وسياستها على الوجه الأمثل فتتحول من نفس أمارة بالسوء أو لوامة إلى نفس مطمئنة راضية متوكلة على ربها امرة بالإيمان واليقين والصبر. وهذا هو الانتصار الكلي على العدو الداخلي النفس والعدو الخارجي أعداء الدين.

 

المشاهدات 549 | التعليقات 0