قصة سليمان مع النملة والدروس المستفادة
إبراهيم بن صالح العجلان
1438/04/28 - 2017/01/26 22:46PM
سليمان والنملة 27/ 4/ 1438 هـ
إخوة الإيمان: ويَستمِرُّ الحديثُ عن النبيِّ الأوَّابِ، والعبدِ الشَّكورِ، والمَلِكِ العادلِ، الذي آتاه الله من الملْك ما لم يُؤْتِيِه أحداً من العالمين.
خصَّ الله سيرةَ سليمانَ ببعضِ القَصَصِ، لما فيها من الإشاراتِ والدلالاتِ المتجدِّدة (نَحْنُ نقصُّ عليك أحسنَ القَصص).
نقفُ اليومَ في ظِلالِ قِصَّةٍ عَجيبة، بَطَلُ المشهدِ نملةٌ صغيرة، لكنَّها كبيرةٌ في مواقِفِها، عظيمةٌ في أخلاقِها، مُبْدِعَةٌ في فَنِّ القيادةِ والإِدَارةِ، والتَّضْحِيَةِ وإِيْجَادِ الحُلول.
هي أَشْهَرُ نَمْلَةٍ في تاريخِ النَّمْلِ، نَعَمْ هي حَشَرَةٌ مَجْهُولَةٌ نَكِرَةٌ، لكنَّ القرآنَ الكريمَ خَلَّدَ ذِكْرها، وبقيَ خبرُها مَسْطوراً يُتلى إلى يومِ الدِّين.
ذَكَرَ اللهُ شأنَ هذه النَّملةِ ليسَ مِثَالاً، واللهُ جلَّ في عُلاه لَا يَسْتَحِيي أنْ يضربَ مثلاً ما بعوضةً فما فوقها، وإنَّما هي قصةٌ واقعيةٌ من القَصَصِ الحقِّ.
ها هو نبيٌّ اللهِ سليمانَ قد انتشر بين يديه جيشُه العسكريُ العرمرم، الذي لمْ ولنْ يجتمعَ إلا معَ سليمانَ عليه السلام (وَحُشِرَ لسليمانَ جنودُهُ من الجنِّ والإِنْسِ والطيرِ فَهُمْ يُوزَعُون)، جيشٌ مُرَتَّبٌ، يَسِيرُ بانتظَامٍ، ويُدبَّرُ بإحْكَامٍٍ، كلٌّ قد عَلِمَ دوره ومهمَّته، سارَ الجيشُ السليمانيُ بهذا الانتظام، لا يرى إلا ما هو أمامَه، يَسِيْرُ وفْقَ تَعليماتِ قائدِهِ، وكان المسير يتَّجه جهةَ وادٍ من النَّمل صغير، لكنه بسكانه كثير، قد مُلئَ حيويةً وَنَشاطاً، وانْشَغَالاً وأَعْمالاً، بَيْدَ أنَّ نَمْلةً مِنْ عامَّةِ هذا النَّمْلِ المثابرِ رَمَقَتْ جيشَ سليمانَ وهو يقتربُ نحوهم، وليس بينهم وبين الهلاكِ إلا بِضْعُ لحظات، فبادرتْ وأَنْذرت، وصاحتْ وحذَّرتْ، وكأننا بها تُنادي بصوتٍ مُرْتَجِفٍ خائفٍ من مستقبلٍ مُظْلمٍ، وَمصيبة مُتحيَّنةٍ، فقالت: ( يا أيُّها النَّمل ادخلوا مساكنكم لا يَحْطِمَنَّكم سليمانُ وجنودُهُ وهم لا يشعرون).
يا للهِ.. ما أروعَهُ من بيانٍ وجِيزٍ، مُنَسَّقٍ بليغ، تأمَّل معي هذه الفصاحةَ في التَّعبيرِ، والتحذيرِ من سوءِ المصير، استخدمت هذه النملة أغلب أساليب الإبداع اللغوي، فنادت ونبهت (يا أيُّها)، ثم سمَّت وأمرت (النَّمل ادخلوا)، ثم نصَّت (مساكنكم) ثم نهت (لا يحطمنَّكم)، ثم خصَّت وعمَّت (سليمان وجنوده)، ثم أعتذرت ( وهم لا يشعرون).
إنه موقف صغير عابر، لكنَّه مليء بالدلالات والإشارات، والعبر والإلماحات.
أول إشارة نستوحيها: أنَّ خطاب النملة عام لجميع مملكة النمل، ولم تجعل خطابَها خاصاً لفئة دون أخرى، سواء أكانت هذه الفئة من كبار مملكة النمل، أم من المقربين.
وهذه فيه ما فيه من وجود العدل والمساواة في مجتمع النمل عند حصول الضرر.
هذه النملة الصغيرة كان لديها رصيدٌ عالٍ من الولاء لقومها ومحبتها لهم، فهي لم
تنشغل بنجاة نفسها، وخلاصها من هذه الكارثة المتحقَّقة، هذا الولاء وتلك المحبة لم تكن مجرد شعور ذاتي قابع في الضمير، بل ترجمته هذه النملة إلى واقع وعمل كان من نتائجه إنقاذ شعبها من الدمار.
لقد كان بوسع النملة أن تنجو بنفسها، ولا تفكر في غيرها، ولكنها أبت إلا أن تضرب درساً رائعاً في المبادرة والتضحية.
نعم .. هي مبادرة فردية ولكنَّها أحيت أمة من النمل، وكم علمتنا التجارب والقصص أن المبادرات الإيجابية هي التي تبقى، ويبقى ذكرها وأثرها، وفي قصص القرآن حكاية عن مبادرات فردية كان لها أثرها في الدعوة والإصلاح (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).
فلا تستقلل يا عبدالله أيَّ جهدٍ ومبادرة ومشروع، لأنه جهد ذاتي فردي، فأمر بالعرف ولو قلاك الناس، وانهَ عن المنكر والمهالك، واصبر على ما أصابك إنَّ ذلك من عزم الأمور.
لم يكن خطاب النملة مجرد خطاب تحذيري لا غير، بل قدَّمت الحلول العملية، والمخارج التطبيقية (ادخلوا مساكنكم).
فكم تمرُّ بالأمةِ والمجتمعاتِ مخاطرُ وأزمات، وكم هو مؤلم أن يكون الموقف هو التباكي والتشاكي، أو التلاومُ وتصفيةُ الماضي.
نعم ... كم هو جميل أن نسمع وقت الأزمة خطاباً ناصحاً تحذيرياً، لكن أجمل من ذلك أن نرى الإيجابية في عدم التثبيط أو الاستسلام للمصاعب والمشكلات.
نعم للتحذير من كل كارثة تُدَقُّ نواقيسها، ولكن أجمل من ذلك أن يكون هناك مواقف إيجابية، وحلول عملية في مقاومة هذه المخاطر وتخفيفها.
(ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) .. انتهى دور النملة بهذا الإنذار وذاك الحل، أما النتائج فأمر خارج عن إرادة النملة، وهكذا الداعية والناصح، والمربي والوالد ينتهي دوره بإيصال النصيحة والتذكير والتوجيه وترك نتائجها بيد الله تعالى.
كان خوف النملة على أهلها وقومها (لا يحطمنكم) خافت الهلاك على الآخرين، وفي هذا إشارة إلى أنَّ المحافظة على أرواح الآخرين ومصالحهم هو سبيل النصحة الصادقين، ويدخل في هذا الحفاظِ الخوفُ على هلاك الآخرين في أمر آخرتهم، فأعظم الخسارة هي خسارة الآخرة (قل إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين).
وفي التعبير بقوله ( مساكنكم ) رسالة نملية على أن المسكن هو الملجأ والأمان والملاذ حال الخوف والفتن والهرج العام، وهذا ما أشارت إليه أحاديث النبي r ، قال محمد بن مسلمة دَفَعَ إِلَيَّ النَّبِيُّ r سَيْفًا فَقَالَ: قَاتِلْ بِهِ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ، فَإِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَاعْمَدْ بِهِ إِلَى صَخْرَةٍ فَاضْرِبْهُ بِهَا، ثُمَّ الْزَمْ بَيْتَكَ، حَتَّى تَأْتِيَكَ مَنِيَّةٌ قَاضِيَةٌ، أَوْ يَدٌ خَاطِئَةٌ، أخرجه الإمام أحمد وهو حديث حسن.
وقال عبد الله بن أبي أوفى:أَوْصَانِي خَلِيلِي r إِنْ أَدْرَكْتَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْفِتَنِ ـ أي فتن الدماء ـ فَاعْمَدْ إِلَى أُحُدٍ، فَاكْسِرْ بِهِ حَدَّ سَيْفِكَ، ثُمَّ اقْعُدْ فِي بَيْتِكَ. خرجه الإمام أحمد بسند حسن.
ثم ختمت النملة زفرتها وصيحتها بقولها (وهم لا يشعرون)، أيُّ درسٍ في الأخلاق تبثه هذه النملة، حيث قدَّمت حسن ظنها بسليمان وجنوده، فكم نحن بحاجة أن نتعلم من هذه النملة مبدأ حسن الظن بالآخرين، وفتح مساحات من التفسير الحسن عند أي زلة أو هفوة، دون غوص في ظنون وأوهام تهدم ولا تبني.
كم نحن بحاجة أن نتربى على التماس الأعذار في أي موقف نرى أنه خطأ، وما أجمل تلك الكلمات التي جعلها الله على لسان عمر: ( لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرَّاً وأنت تجد لها في الخير محملاً)، وكم في هذا الخلق الجميل من صلاح لباطن العبد، وطرد لوساوس الشيطان، وحلٍّ لكثير من المشكلات بين الناس والأقارب والجيران.
وفي إحسان ظن النملة بسليمان إشارة إلى عدل سليمان ورحمته بالخلق الذي ذاع وشاع حتى وصل خبره للنمل، وإذا كان سليمان لن يَحْطُمَ مملكة النمل وهو لا يشعر، فيقيناً أنَّه لن يحطم أيَّ إنسان وهو يشعر، فليت شعري كيف لو رأت هذه النملة رؤساء الدنيا الذين يُحطِّمون الإنسان وهم يشعرون.
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
الخطبة الثانية
أما بعد فيا إخوة الإيمان.. وانتهى مشهد النملة، وبقي موقف سليمان عليه السلام الذي عجِبَ وأُعْجِب من صنيع النملة الناصحة، (فتبسم ضاحكاً من قولها)، إنه تبسم القادر المستطيع على الضعيف الذي قلت حيلته.
فالتبسم إشراقةٌ محبوبة، ورسالة سلام وأمان، وارتياح واطمئنان، لا تكلف العبد شيئاً، وتفتح باباً للتواصل جميل، وخير ما يجنيه المتبسم قبل كسب القلوب هو الأجر المدَّخر، والمعروف المنتظر، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تحقِرَنَّ مِنَ المعروف شيئًا ، ولو أنْ تَلْقَى أخاك بوجْهٍ طَلقٍ» أخرجه مسلم.
ويتأكد التبسم في حقِّ الكبير للصغير، القوي للضعيف، والقادر على العاجز، والغني على الفقير، لأنَّه تبسُّم خالص، لا مصلحة فيه ولا مقابل.
وإذا عجبت أخا الإيمان من سماع سليمان لصوت النملة وفهمه لخطابها فهي رسالة لنا في تعظيم الله تعالى، الذي وسع سمعه جميع ذرات الأرض على اختلاف أماكنها، وأزمانها، ولغاتها، وسع سمعه كلَّ الأصوات، يسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، فوق الصخرة الملساء.
وَهْوَ الَّذِي يَرَى دَبِيبَ الذَّرِّ *** فِي الظُّلُمَاتِ فَوْقَ صُمِّ الصَّخْرِ
وَسَـامِعٌ لِلجَهْرِ وَالإِخْفَاتِ *** بِسَمْعِـهِ الوَاسِـعِ لِـلأَصْوَاتِ
ثم بعد الابتسامة جاء الشكر، فتذكر سليمان نعمة الله عليه بهذا الملك وما آتاه من فهم للغة الدواب التي خُصَّ فيها من بين الخلق، فلهج لسانه بحمد الله وشكره،
ثم ابتهل إلى ربه أن يلهمه ويعينه على إقامة عبادة الشكر، وأن يستمر في دروب الطاعات، وهكذا هم أهل الإيمان يجددون شكرهم لربهم مع كل نعمة، ويزدادون صلاحاً من الله واقتراباً، ورجاؤهم أن يشملهم الله برحمة منه وأن يدخلهم في عباده الصالحين.
تلك عباد الله طرف من قصة سليمان مع النملة، وشيء من إشاراتها ودلالاتها، جعلنا الله وإياكم من أهل طاعته، وعمَّنا بمغفرته، وأنعم علينا بالسير على نهج النبيين، صلوا بعد ذلك على خير المرسلين، وحبيب ربِّ العالمين...
المرفقات
سليمان والنملة 27.docx
سليمان والنملة 27.docx